توني موريسون‮:‬ كل شيء‮ ‬يجلجل‮.. مزيف مثل الأجراس



‬* حوار‮:‬‮ ‬ألكسيس ليبار /ترجمة‮: ‬‮ ‬لطفى السيد‮

إنها الروائية الأفرو-أمريكية العظيمة،‮ ‬المرجع،‮ ‬توني موريسون التي حصلت على جائزة نوبل في الآداب،‮ ‬لم تركن إلى أمجاد الماضي ولاتزال حتى عامها الـ‮ ‬81‮ ‬تنصت لصوت المجتمع الأمريكي الأسود‮. ‬وتعود لنا مع‮ (‬المنزل‮)‬،‮ ‬روايتها الأكثر قصرا وربما اللاذعة جدا.هي قصة جندي أسود‮- ‬مصدوما من جراء الحرب الكورية‮ – ‬والذي لم يعد‮ ‬لديه عنها إلا فكرة في رأسه‮: يعود لمدينته ليطير لنجدة شقيقته،‮ ‬ضحية أوهام طبيب سايكوباتي‮. ‬فرصة المؤلفة لتغرق بنا في أمريكا طفولتها،‮ ‬سنوات الخمسينيات‮. ‬ليست أمريكا صاحبة المعجزة الاقتصادية وصاحبة‮ ‬غسالة لكل شيء،‮ ‬إنها أمريكا السود الذين لا يزالون خاضعين للتمييز العنصري الوحشي‮. ‬مقابلة مع روائية لا تخشى الكشف‮.‬

الحوار: 

* ‬لماذا اخترتِ‮ ‬كتابة كتاب قصير‮ “‬المنزل‮” ‬هذه المرة،‮ ‬رغم أن كتبك عادة كبيرة؟
ــ لم يكن قرارا متعمدا،‮ ‬لكني كنت أود كتابة قصيرة جدا،‮ ‬أقول من خلالها الكثير بأقل عدد من الكلمات،‮ ‬لا أصف الأشياء لأني قادرة على ذلك‮ ‬دوما‮ – ‬ولكن لتركيز السرد‮. ‬أعتقد أن ذلك سوف يكون أكثر إثارة للاهتمام،‮ ‬ومن وجهة نظري هذا تمرين مثير‮. ‬أعتقد بشكل خاص أنني أستطيع ترك مساحة كبيرة لخيال القارئ ليملأ الفراغات التي تركتها‮.‬
* ‬في روايتك تسأل الشخصية الرئيسية صبياً‮ ‬ذا عاهة وشديد التمييز في المدرسة‮: “‬أي مهنة تود أن تعمل بها في الحياة،‮ ‬فيما بعد؟‮” ‬ويجيب الصبي‮ :”‬رجلاً‮” ‬ماذا يعني‮ ‬لك هذا بالضبط؟
ــ إنه بحث‮. ‬البحث عن شئ ما مختلف،‮ ‬على الأقل أتمناه،‮ ‬فمن الصورة الأولى للكتاب ونحن نري فارسين رائعين يتواجهان بشراسة والذي سيربح منهما سينال المهرة‮. ‬في هذه الحالة الخيال الذكوري لهذا الفتى يتضمن قسرا على العنف،‮ ‬على الشراسة،‮ ‬إرادة السيطرة،‮ ‬على كل الأشياء التي تشكل جزءا من المفهوم العام لما يعني أن يكون رجلا‮. ‬وعندما يجيب هذا الصبي‮”رجلا‮”‬،‮ ‬لا يعيره أي اهتمام،‮ ‬إنه مجرد سؤال طُرح على صبي‮.‬
*‬لنعود للسؤال الذي طرحه البطل على الصبي،‮ ‬أنت أيضا،‮ ‬لو كان قد سألك شخص ما في طفولتك‮:” ‬ماذا تودين أن تعملي لاحقا؟‮” ‬،‮ ‬أكنت ستجيبن‮: ‬روائية”؟
ـ‮ (‬تضحك‮) ‬لا،‮ ‬لم أبدأ الكتابة إلا في سن الـ‮ ‬39‮ ‬ولم أكن‮ ‬قد فكرت في ذلك من قبل على الإطلاق‮. ‬حياتي تدور دوما حول الكتب‮. ‬ففي الثانية عشرة‮ ‬عملت في مكتبة،‮ ‬كنت أقرأ طوال الوقت وكنت أتحدث عن الكتب كبالغة‮. ‬فيما بعد درست ثم عملت في دار نشر،‮ ‬ثم مررت بتدريب قبل أن أصبح ناشرة‮. ‬لم أبدأ في الكتابة إلا في منتصف حياتي‮.‬

‮* ‬لم تجيبي على سؤالي‮…‬
ــ وأنا صغيرة،‮ ‬كنت أود أن أصبح راقصة،‮ ‬راقصة باليه.( ‬تضحك‮) ‬لقد تابعت دروسا للرقص لمدة سنوات طويلة،‮ ‬لكن الكتابة كانت دائما حاضرة في مكان ما من رأسي،‮ ‬والخطوة الأرفع التي استطعت اجتيازها،‮ ‬لأني كنت أول من ذهب من الأسرة إلى الجامعة‮. ‬كانت أسرتي تتمنى أن أجد عملا ملائما أبعد من راقصة الباليه،‮ ‬وأصبحت معلمة،‮ ‬مهنة كانت ملائمة لي وللعائلة على حد سواء‮.‬
‮* ‬لماذا شرعتِ‮ ‬فجأة في الكتابة في الـ‮ ‬39‮ ‬؟
ــ ثمة عدد لا بأس به من الكتب التي كتبها رجال أفرو-أمريكيون،‮ ‬كانوا عدوانيين ومتغطرسين؛ بلا شك كان هذا ضروريا،‮ ‬لكن كانت هناك‮ ‬غائبة عظيمة‮: ‬الشخصية الأشد جرحا،‮ ‬التي كانت طفلة،‮ ‬زنجية‮. ‬لذلك،‮ ‬عندما كتبت رواية‮ ‬العيون الأكثر زرقة،‮ ‬كان لأقدم هذا الصوت إلى الأدب وأعالج عواقب العرقية،‮ ‬أعالج الألم الذي ينتج عن الحقيقة التي تكتشفها بأنك لست أي شيء بسبب لون بشرتك‮.‬
‮* ‬كان كتابك مُهدي لابنك سلاد،‮ ‬الذي توفي قريبا‮. ‬لكنك لم تكتبي تصديراً‮ ‬للكتاب‮.‬
‮- ‬ما من لغة مناسبة لهذه الخسارة،‮ ‬كل شيء يجلجل مزيف،‮ ‬كالأجراس‮.‬
‮*‬بعض الكتاب،‮ ‬مثل دافيد جروسمان،‮ ‬كتبوا عن فقدهم لابن‮. ‬أتعتقدين أن الكتابة قد تساعد على تجاوز الألم؟
‮- ‬أولى عواقب وفاة ابني كانت التوقف عن إكمال هذا الكتاب‮. ‬ما عدت أستطيع الكتابة لعدة شهور‮. ‬ثم بدأت أفكر فيه،‮ ‬وليس في نفسي وفي ألمي‮. ‬أدركت أنه كان سوف ينتابه الضيق والغضب أيضا لمعرفته أني تركت نفسي للشفقة على نفسي والحسرة،‮ ‬أنني لو أردت تكريمه فعلي أن أقوم بما كان يريدني أن أقوم به‮: ‬الانتهاء من الكتاب،‮ ‬البدء في العمل،‮ ‬التوقف عن شل حركتي‮. ‬لكن،‮ ‬لا،‮ ‬لم تساعدني الكتابة على تجاوز ألمي‮. ‬في الحقيقة أعتقد أن كل ذلك معقد جدا‮ ‬كل كائن حي يواجه ألمه بطريقته‮.‬
* ‬تمنحين‮ ‬الولايات المتحدة في الخمسينيات‮ ‬صورة مختلفة تماما عن الصورة التي نجدها في الروايات‮.‬
‮- ‬كنت ‬مقتنعة أنني كنت أعرف تماما أو تقريبا سنوات الخمسينيات لأنني عشتها،‮ ‬إلا أنه فيما بعد بكثير بدأت أفهم ما كانت علىه بالفعل‮. ‬ثمة أسطورة في الولايات المتحدة عن سنوات الخمسينيات،‮ ‬عن هذه الفترة الذهبية لنجاح القصة الأمريكية‮. ‬ننسى ما جرى تحت هذا الملمح،‮ ‬ما من شأنه أن يجعل اقتحام بعض‮ “‬مستحيلات‮” ‬فترة الستينيات والسبعينيات ممكنا‮. ‬كان هناك شيء بالفعل‮. ‬كانت‮ ‬هناك الحرب الكورية،‮ ‬والمكارثية ومناهضة الشيوعية،‮ ‬والتمييز العرقي‮.‬
‮* ‬كيف عشت سنوات الخمسينيات؟
‮- ‬كنت ساذجة،‮ ‬لم أكن واعية بكل ذلك.أعتقد أننا لم نكن نود المعرفة؛ كنا مقتنعين أن هذه السنوات رائعة‮. ‬كنت أشعر بقوة كبيرة‮: ‬أذهب إلى الجامعة،‮ ‬لم أكن أشاهد بالفعل ما يدور من حولي‮ . ‬في‮ ‬1954،‮ ‬بعد عام من الحصول على الشهادة،‮ ‬اكتشفت العنف المرعب الذي كان يسود الجنوب،‮ ‬وماذ كان يصيب الأطفال‮. ‬لكن لم أربط الوضع العام،‮ ‬وهؤلاء القتلى من الأفرو-أمريكيين،‮ ‬بالرجال بشكل عام‮. ‬ثم بدأت أنشغل بهذا‮. ‬إذن نعم،‮ ‬الأمر أتى تدريجيا،‮ ‬وذلك أحدث تأثيرا شديد الأهمية بالنسبة لي وأنا بالغة عما كنت صغيرة جدا‮.‬
‮* ‬هل عانيت في فترة شبابك من التمايز العرقي والتفرقة العنصرية؟
‮- ‬كنت أعتقد أن البيض مرضى- ‬مرض ميؤوس منه‮- ‬إنهم مصابون بالهيستريا،‮ ‬أو شيء ما من هذا القبيل‮. ‬لابد أن أقول أنني لم أعش قط في حي للسود،‮ ‬كنت أعيش في منطقة أوهايو محاطة بالأحرار،‮ ‬حي للعمال،‮ ‬حيث المرء يجد أناساً‮ ‬من كل الجنسيات،‮ ‬بولنديين،‮ ‬إيطإلىين‮…‬المدينة مختلطة،‮ ‬وليس هناك إلا مدرسة ثانوية واحدة يذهب إلىها الجميع‮. ‬الفصل الوحيد والفعلى كان في الكنيسة‮. ‬كان هناك حوالي‮ ‬10‮ ‬كنائس كاثوليكية للبولنديين،‮ ‬للإيطإلىين،‮ ‬للتشيك،‮ ‬وأربعة للزنوج؛ يوم الأحد كل واحد كان يذهب لكنيسته الخاصة‮. ‬باقي الأسبوع كنا نذهب للمدرسة معا‮. ‬جارتنا كانت من تشيكوسلوڤاكيا،‮ ‬أفضل صديقاتي كانت جارة أخرى إيطإلىة‮. ‬كان هناك أيضا بكل تأكيد زنوج،‮ ‬وأعتقد أن الأمر في كل مكان كذلك‮.‬
‮* ‬لم تعانين إذن من التفرقة العنصرية؟
‮- ‬قليلا،‮ ‬لكن لم يكن لذلك أهمية‮. ‬كانت هناك شواطئ ليست بعيدة جدا،‮ ‬وكانت العادة‮- ‬العادة وليس القانون‮- ‬أن يقيم البيض في مكان والسود في مكان آخر،‮ ‬حيث لا يوجد رجال إنقاذ‮. ‬كان من الرائع جدا أن أكون في الجزء‮ “‬الأسود‮” ‬أكثر من أن أكون في الجزء‮ “‬الأبيض‮”. ‬لم ينتابني الشعور بالضيق،‮ ‬حتى لو كان المحتمل أن نشعر بهذا،‮ ‬لكني كنت بحالة جيدة بين السود‮. ‬المرة الأولى التي رأيت فيها التفرقة العنصرية عندما رحلت للجامعة في واشنطن‮. ‬هناك،‮ ‬كان يوجد فصل بين‮ ” ‬السود والبيض‮. ‬لكن في الكلية كانت الأكثرية فيها للسود،‮ ‬وكان يحوطني مفكرون سود وغيرهم من الطلبة‮. ‬وجدت هذه البيئة محرضة جدا‮ .‬
* ‬ألم تفكري قط في العمل بالسياسة،‮ ‬أن تصبحي سيدة سياسة؟‮ ‬
ــ لدي رؤية‮ ‬للعلاقة بين الفن والسياسة مختلفة تماما عن رؤية‮ ‬غالبية الناس‮. ‬أعتقد أن كل عمل فني حقيقي يكون سياسيا،‮ ‬ومحاولة أن نجعل منه عملا‮ ‬غير سياسي هو فعل سياسي‮. ‬في أعماله،‮ ‬يتحدث شكسبير عن الحكومة،‮ ‬الحرب،‮ ‬السلطة،‮ ‬وكل ذلك في نظري سياسة‮. ‬في فترة مناهضة الشيوعية،‮ ‬جعلنا من كلمة‮ “‬سياسة‮” ‬كلمة قذرة‮. ‬في رد فعل لما حدث في الاتحاد السوڤييتي‮ ‬،‮ ‬قررنا في الولايات المتحدة أن الفن لا ينبغي أن يكون إلا جماليا. ‬حينئذ بدأنا في إفساد معنى كلمة سياسة،‮ ‬معادلتها بالدعائية،‮ ‬بشيء ما قذر‮. ‬كل جهدي في الكتابة هو ترميم العلاقة بين السياسة والأدب من خلال المعنى الجيد للمصطلح‮.‬
‮* ‬أنت إذن كاتبة ملتزمة طبقاً‮ ‬للتعريف الفرنسي؟
‮- ‬نعم،‮ ‬أقبل هذا الوصف‮.‬
‮* ‬هل تصورتِ‮ ‬وأنت شابة ذات يوم أن كاتبة سوداء سوف تحصل على جائزة نوبل في الآداب؟
‮- ‬على الإطلاق‮. ‬ولا أي شخص أسود،‮ ‬وبالتأكيد ولا امرأة‮. ‬بالتأكيد صعقت حالما سمعت أنني حصلت على الجائزة‮. ‬في نفس الوقت قلت أن هيئة المحلفين خيرا فعلت‮- ‬لأن كتبي،‮ ‬وليس أنا‮- ‬كانت تستحق ذلك‮.‬
‮* ‬بعد أن فزتِ‮ ‬بالجائزة تغير شيئا ما في حياتك ككاتبة؟ هل منحتك ثقة في نفسك؟
‮-‬لا،‮ ‬دوما لدي ثقة في نفسي‮.‬
___________
*أخبار الأدب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *