القصة القصيرة.. الخيال أبوها والحياة أمّها


*سمر حمود الشيشكلي

* القصة تمرّد على سجن خطابات السلطة ومعبر إلى تشييد فضاء رحب يستعيد المخيّلة الموؤودة

* تجربة مونرو أنقذت القصة القصيرة من مأزق التهميش الذي حشرت فيه بسبب “إمبريالية” الرواية
——
جاء منح جائزة نوبل لكاتبة القصة القصيرة، الكندية آليس مونرو عام 2013، ليحيي نوعاً أدبياً كان النقاد ولا يزالون يصرون على خنقه وتهميشه والتقليل من قيمته ومن تأثيره.
نهضت فكرة الجائزة بالأصل من منصة التكفير عن الذنب، فقد صادف أن أخطأت الصحافة بإعلان موت ألفريد نوبل العالم السويدي الذي جمع ثروة ضخمة من بيع اختراعه الجديد في حينه، الديناميت، بدلاً من أخيه المتوفى بالفعل.
وقتها صمت ألفريد على الخطأ ولم يبادر إلى تصحيحه، وأراد أن يعرف ماذا يقول الناس عنه في غيابه.
آلمه ما كتب عنه، فقد وصف بالشر لأن اختراعه الديناميت صار آلة شر فظيعة، وهذا ما جعله يرصد من ثروته وينشئ جائزة للسلام عام 1901، ربما تكفيراً عما جناه هذا الاختراع.
——
منذ إعلانها أصبحت الجائزة تمنح في العديد من المجالات مثل الكيمياء والفيزياء والطب والسلام والاقتصاد، إلا أن أبرزها على الإطلاق جائزة نوبل للأدب.
وقد نص الفريد نوبل في وصيته على ضرورة منح إحدى الجوائز سنويا لكاتب أو أديب أنتج عملا بارعا يعتبر نموذجاً للأدب المثالي.
وكان أول فائز بجائزة نوبل هو الشاعر الفرنسي سولي برود اوم.
شملت الجائزة، فيما بعد، الأدب بكل أجناسه، لكن الرواية تنال حصة الأسد منها.
ومنحها مؤخراً للقصة القصيرة لم يكن له صلة بفكرة التكفير عن ذنب، لأنه من جهة جنس أدبي مهم ومؤثر، رغم كل ما عاناه من تهميش واستبعاد، ومن جهة اخرى لأن إبداع المرأة التي فازت بالجائزة كان يستحقها عن جدارة.
لقد توقعت الوساط الإعلامية وأوساط النقاد أن تفوز آليس مونرو بجائزة نوبل للآداب لفترة طويلة قبل حدوث ذلك فعلاً.
لكن طوال الوقت كانت هناك ظلال من الشك في إمكانية فوز القصة القصيرة عبر الكاتبة القصصية الكندية مونرو، ليس لسبب إلا الثقل الذي أصبحت تمثله الرواية في واقع الجوائز العالمية وعدد القراء ومستوى الجماهير مقابل تراجع القصة القصيرة.
كانت مونرو تُرشَّح كل عام للحصول على نوبل لكنها كانت تستبعد من البعض بسبب النظرة الدونية التي ينظر بها إلى جنس القصة القصيرة.
وما زاد الأمر سوءاً هو أن هجرة كتابها إلى الرواية خلق شعوراً شبه سائد بأن القصة القصيرة عند البعض هي مرحلة من مراحل البدايات للروائي حتى يشتد عوده ويجد أسلوبه فقط.
لكن هذا كان خطأً كبيراً وتسطيحاً للفكرة مجحفاً.
من أجمل ما قرأت عن تعريف القصة أنها: “مدخل متمرّد على سجن خطابات السلطة وبلاغاتها، ومعبر إلى تشييد فضاء رحب، يستعيد المخيّلة الموؤودة، ويحتفل بنكهة اللغة الطازجة وطراوة المعرفة الكاشفة”.
(*)
لقد كانت القصة القصيرة منذ بداياتها الطليعية التي تنبئ “عن إرهاصات الأشكال الأدبية الجديدة الكبيرة التي لم يحن أوانها بعد، متحررة ومتفتّحة على اللغة اليومية، وعلى التقاط المستجد والطارئ في السلوكيات والعلاقات والمشاعر”.
لكن النقاد لم يكونوا قادرين على استيعابها ومواكبة تطورها والعمل على ازدهارها.
كل ما أعطوه لها هو نوع من النقد الانطباعي أو الوصفي يتأثر بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والذاتية المحيطة وأثرها في تلك القصص المكتوبة، ومعظم الوقت كان النقد بعيداً عن المنهجية العلمية المنصفة، رغم أن من القصص ما تجاوز مجرد التسجيل الحرفي واستنساخ الوقائع وجاء بمحتوى أصيل بذاته من الاستبصار والاستشراف لما سيكون عليه الواقع.
وتمتع بعضها بالإيقاع السريع وبتقديمه لحدث متنام مع قدرة على إضفاء عنصر الإدهاش.
بغض النظر عن عدد صفحاتها الذي قد يبدأ بصفحة وينتهي بخمسين.
إقحام منهجي
غالباً ما كان من النقاد من يقحم في عملية النقد والتحليل منهجاً لا يلائم هذا النوع الأدبي إقحاماً لأن كل منهج يمتلك منطلقات ومفاهيم ومصطلحات وأدوات معرفية وإجراءات نقدية مغايرة لسواه.
ومن المعروف عند الباحثين أن من أهداف المناهج النقدية الأدبية هو “الكشف عن معطيات النص وجوانبه الفنية عبر ما هو منضبط من رؤى”، لذا يتوجب على الناقد أن يكون مطلعاً، بل ومتشرباً لسبل المناهج النقدية، وأن يختار المنهج الملائم لتحليل القصة، فالناقد مسؤول أمام التاريخ والمجتمع، أو على الأقل أمام المتلقي بتوضيح جماليات هذه القصة أو تلك، واعني بها تقنياتها ولغتها، كونها أولا وقبل كل شيء نص أدبي.
القصة القصيرة، مع خفتها وقصرها وزخمها كجنس أدبي، مؤهلة لتتماشى مع طبيعة الإنسان المعاصر دون غيرها من الأجناس الأدبية.
ولكن لا تستغرب أن ينعكس الواقع بخلاف ذلك، فكان للرواية أن تتصدر وتسود الساحة الأدبية، عندما تفهم أن الثقل الإعلامي الذي يخدمها ودور النشر التي تتجنب نشر المجموعات القصصية وأيضا الشعرية في أكثر الأحيان، هو وراء ذلك كسبب رئيسي.
ولا أرى سبباً عملياً للاستخفاف بالقصة القصيرة، إن أردنا أن نحلل الحقيقة بإنصاف فسنرى أن كبار الروائيين اهتموا بكتابتها مثل اهتمامهم بكتابة الرواية إن لم يكن أكثر، واشتهروا بها أيضاً، مثل “إدغار آلن بو” و”تشيخوف” و”غوغول” حتى “روبرتو بولانيو” و”بورخيس”.
وظل بعض كبار الكتاب مخلصين لها ولم يتنازلوا عنها رغم نجاحهم في الرواية والشعر أيضاً.
تعتمد القصة القصيرة على التكثيف والدقة واللغة القوية والديناميكية والحرارة في العمل والتقاط التفاصيل؛ أﺣﺎﺳﯿﺲ ﻣﻜﺜﻔﺔ، وزاﺧﺮة، وﻣﻤﺘﻠﺌﺔ ﺑﺴﺤﺮ ذي ﻣﺬاق وعمق ﺨﺎص أﻳﻀﺎً؛ الأمر اﻟﺬي ﻻ ﻧﺠﺪه وﻻ ﻧﻠﻤﺴﻪ إﻻ في هذا الجنس الأدبي، وهناك أﻓﻜﺎر ﻻ ﺗﻨﺎﺳﺐ اﻟﺮواﻳﺔ ولكن تستطيع القصة أن تقدمها.
ھﺬه ھﻲ اﻟﺤﻘﯿﻘﺔ، ﻟﻜﻞ ﻓﻦ نكهته، وطﻌﻤﻪ، وﻛﺎﺗﺒﻪ اﻟﺬي يفهمه وﻳﺘﻔﻨﻦ ﻓﻲ ﺗﻘﺪﻳﻤﻪ.
إعادة ترتيب العالم
حار عديد من منظري ونقاد القصة القصيرة إزاء تعريفها، وذلك لأنها تطورت عن أشكال قصصية أبسط واختلطت بأشكال قصصية أكثر تعقيداً خلال عمليات نموها، وتداخلت بمجالات الأدب الشعبي الأرحب، الرموز والأساطير والتخييل والتحفيز، أكثر من أجناس الأدب الأخرى.
لكنهم خلصوا إلى أنها “ذلك الجنس الأدبي الذي ينجح في إعادة ترتيب العالم بخفة ورشاقة، والتقاط تلك التفاصيل التي تجعل الحياة ممكنة الفهم، وفتح كل نوافذ الحكاية لتفسح مجالاً للارتياب والشك الخلاّق ليحلّ محل عقم اليقين، إنه جنس أدبي حر ومستقل”.
ويصفها فؤاد الشايب بـ “ومضة” من الرؤى الشاعرية، تكتب بلغة النثر وأسلوبه.
فالخيال أبوها الأول، والحياة أمها، وبقدر ما يخصب الخيال هذه الحياة، تستوفي القصة معانيها الجمالية”.
وجاء في كتاب “الصوت المنفرد” لمؤلفه الإيرلندي “فرانك أوكوتو”: “ليست القصة القصيرة، قصيرة لأنها صغيرة الحجم وإنما هي كذلك لأنها عولجت علاجاً خاصاً، وهو أنها تناولت موضوعاً على أساس رأسي لا أفقي، وفجّرت طاقات الموقف الواحد بالتركيز على نقاط التحول فيه.
فالذي يقف على منحنى الطريق يتاح له أن يرى الطريق كله”.
وتتعرض القصة القصيرة لتجاهل كبير من قبل القارئ العادي والمتخصص.
لكن السؤال هو هل يستطيع الكاتب وحده أن يبقي القصة حية إذا تخلى عنها الناقد والقارئ؟
ويشكو معظم كتاب القصة القصيرة، ويقرون بعدم استطاعتهم مواصلة كتابتها، وأن وجود مجلة واحدة متخصصة تعنى بالقصة القصيرة، مقابل عشرات المجلات التي ُتعنى بالرواية، ليس مناخاً صحياً لازدهارها.
كما أنه ليست هناك دراسة نظرية متكاملة عن القصة القصيرة، مقابل جهود عظيمة بذلت للرواية.
حتى أن مسارد الأعمال النقدية في الأدب تتضمن قوائم موضوعات منفصلة خاصة بالمسرحية والشعر والرواية بينما لا يوجد مجرد باب خاص بالقصة القصيرة.
إنها لا تقع في مجال اهتمام النقاد لذلك فهي ليست في اهتمام القارئ العادي.
معايير وتعريفات
القصة القصيرة أكثر الأشكال القصصية طبيعية، وكذلك هي أكثرها حاجة للبراعة الفنية، وهي تقوم على عدد من المقومات أهمها قصر النص نسبياً، وهي مسحة أساسية تقوم على اعتبارين:
اعتبار كمّي: بتقليص الفضاءين ، الزماني والمكاني وقلة عدد الشخصيات واختصار الأحداث ومحاور الاهتمام.
واعتبار كيفي: بوحدة الهاجس، وحدة الانطباع، شمولية التأثير والإيحاء.
وكذلك وحدة الموضوع، فكل العناصر يجب أن توظف لإبراز الاهتمام بمدار واحد وتكون كثرة العناصر الأخرى مجرد لبنات أو عناصر خادمة للموضوع.
تركز القصة على لحظة أو احساس أو جزئية هي في الحياة أشبه بقطعة الفسيفساء، لكنها القطعة التي يمكن أن يتبين الناظر إليها فنا كاملا أو سمة أساسية من سمات اللوحة في كليتها.
يقول إدغار آلان بو: “إن وحدة الانطباع هو أساس الرؤية الجمالية في القصة وهو تضافر جميع عناصرها لبناء أثر واحد «إذا كان الفنان بارعا فانه لا يسلط أفكاره على الأحداث وإنما هو يتصور سلفا انطباعا يروم بلوغه ثم ينتقي من الواقع ويركب من الأحداث مايكفل له بلوغ التأثير المراد”.
ويقول أيضاً:” بما أن الرواية لا تقرأ دفعة واحدة فإنها لا يمكن أن تتسم بشمولية التأثير كما القصة التي، مع قصر النص تمكن القارئ من جميع المعطيات فتتولد لديه لذة انتشاء فكأنه إزاء لوحة شاملة تساعد رؤية كل عنصر من عناصرها على رؤية عناصر أخرى أولا، وعلى رؤية جميع العناصر مجتمعة ثانيا”.
يقول اَرلاند: “إنّ الإطالة والزوائد والاضطراب أمور قد تنتاب العمل الروائي فيبقى رغم ذلك مثيرا للإعجاب، أما في الأقصوصة فإن أبسط الأمور مثل تغير اللهجة أو اختلال السرعة اختلالا طفيفا أو التواء العبارة أو رسم خط رسما أكثر وضوحا مما ينبغي (أو أقل) كافية للقضاء على الأقصوصة.
إن الأقصوصة لا ترحم”.
ويرى فلانري أوكنور: “القصة، على خلاف سائر الأنواع القصصية الأخرى، لا تقبل التمطيط أو التلخيص فهي كالقصيدة أو اللوحة، هي وحدة درامية غير قابلة للتجزئة”.
ولم يكن غريباً أن تصبح القصة القصيرة نوعاً رئيساً، ومهيمناً في الفترات الحداثية، وما بعد الحداثة من
آداب العالم.
‏ فهي أسبق من غيرها من الأجناس الأدبية في استيعاب تبدل الوعي، وامتصاص التيارات والأساليب التي غمرت الساحة الإبداعية والأدبية.
وشهدت القصة انقسامات وصراعات وتطورات، ‏لكنها ليست بالفن السهل أو الآمن.
أسباب التراجع
إنّ نشأة القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث كانت حاجة اجتماعية قبل أن تكون حاجة فنية،
والاهتمام الكبير بتلك الوظيفة أدى إلى الإلحاح على ماذا تقول القصة، أكثر من كيف تقول القصة ذلك.
فاختلط بذلك بناؤها بوظيفتها، وهذا ما انعكس، ربما، سلبياً على تطور القصة القصيرة في العالم العربي.
ويؤكد الناقد المغربي محمد برادة أنه “ومنذ البدايات القصصية الأولى، وفي غمرة التقليد والترجمة،
انصبّ اهتمام الدارسين على وضع التعريفات، وقياس القصص بما تجيزه الموازين النقدية الأوروبية، مما
جعل نقد القصة القصيرة محصوراً في معيارية عاجزة عن التقاط ملامح التأصيل والتمثل، والتي كان بعض
القصّاصين الروّاد ينجزونها بترابط مع سلسلة التحولات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها المجتمعات
العربية بإيقاع سريع منذ الثلاثينيات”.
‏قد يغضب كتّاب القصة القصيرة في العالم العربي عندما يقال إن هذا النوع الأدبي اللافت، في شكله وعوالمه، قد خبا ولم يعد يثير اهتمام القراء، إلا أن القصة القصيرة بالفعل لا تعيش عصرها الذهبي.
مع أنها عاشته على طول عقدين أو ثلاثة من القرن الماضي في الستينات والسبعينات منه.
وكانت الصحف والمجلات تتنافس في نشر القصص، والمجموعات القصصية كانت تتربع على عرش دور النشر، والنقاد كانوا يتبارون في الكتابة عنها، وعن كتابها البارزين في ذلك الزمان.
لربما يعود ذلك إلى اهتمام الصحف بهذا النوع الأدبي القريب في عوالمه من المادة الصحافية.
كما أنه قد يعود إلى وجود عدد كبير من كتاب القصة البارزين في تلك العقود: محمود تيمور، ويحيى حقي، ويوسف إدريس، ويحيى الطاهر عبدالله، وحتى نجيب محفوظ، وزكريا تامر، وسميرة عزام، وغسان كنفاني، ومحمد عيتاني، وجمال أبو حمدان، ومحمود الريماوي، ومحمد زفزاف، ومحمد خضير، وآخرون كثر.
لكن دور النشر، ووسائل الإعلام المختلفة، بدأت بالانصراف عن هذا الشكل من أشكال الكتابة السردية.
وبدأ الكتّاب يرتحلون في اتجاه كتابة الرواية لأنها باتت تحظى باهتمام النقاد الأكبر وكذلك القراء ودور النشر ووسائل الإعلام، وباتت تتربع في دائرة الضوء، وتغري الكتاب بالنزوع لجنسها الأدبي بسبب الجوائز الكثيرة في الوطن العربي والعالم التي ترصد لها، وهي مطلوبة للترجمة أكثر من غيرها من الأنواع الأدبية.
في الوقت نفسه تبدو القصة القصيرة منزوية لا تحظى بالطلب ولا يقبل عليها القراء.
ولا يمكن أن ننكر أن ﺑﻌﺾ ﻛﺘﺎب اﻟﻘﺼﺔ اﻟﻘﺼﯿﺮة ﻣﻤﻦ ھﻢ ﺑﻤﻮھﺒﺔ ﺑﺴﯿﻄﺔ ﻟﻢ ﻳﺼﻘﻠﻮھﺎ ﺑﻌﺪ، أﺳﺎؤوا إﻟﯿﮫﺎ،
ﻓﻜﺘﺒﻮا ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺨﻮاطﺮ وأدرﺟﻮھﺎ ﻓﻲ ﺧﺎﻧﺔ اﻟﻘﺼﺔ، ﻣﺴﺘﻔﯿﺪﻳﻦ ﻣﻦ سهوﻟﺔ اﻟﻨﺸﺮ اﻟﺘﻲ أﺗاحتها لهم ﺛﻮرة
اﻻﻧﺘﺮﻧﺖ، وﺳﺎھﻤﻮا ﺑﺬﻟﻚ ﻓﻲ ﺗﺸﻮﻳﻪ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻘﺼﺔ اﻟﺴﺎﺣﺮ.
إعادة اعتبار
“لقد سدت الرواية الأفق، وصار على القصة القصيرة أن تبحث لها عن بقعة ضيقة تحت الشمس.
غير أن جائزة نوبل عام 2013 كانت لصالح القصة القصيرة، فقد أعادت لها الاعتبار.
ومن المتوقع أن عدد القراء سيزداد بسبب هذا التتويج العالمي لكاتبة لم تكتب إلا رواية واحدة، وتفرغت للقصة القصيرة وراهنت عليها جنساً أدبياً مكنها في النهاية من انتزاع لقب “سيدة القصة القصيرة في العالم”.
أنقذت تجربة مونرو القصة القصيرة من مأزق التهميش الذي حشرت فيه بسبب “إمبريالية” الرواية، وآن لهذا الجنس أن ينتعش ويستعيد زمنه الجميل، خاصة أنه يحمل كل ما من شأنه أن يجعله في الصدارة كجنس أدبي معاصر.
اﻟﻌﯿﺐ إذن ﻟﯿﺲ ﻓﻲ اﻟﻘﺼﺔ اﻟﻘﺼﯿﺮة، ﺑﻞ ﺑﻤﻦ تعدى عليها كفن، وﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ أن ﻳﺼﻞ اﻟﻰ ﺟﻮھﺮھﺎ ﻓﻜﺘﺐ ﻟﻨﺎ ﻗﺼﺼﺎً لا ترقى إلى الفن والأدب بصلة.
يقول الكاتب أحمد الحضري عن قصص “مونرو” إنها “تشي بثقافة واسعة، وملاحظة ثاقبة، وإخلاص كامل لفن القصة القصيرة، كاتبة هذه القصص لا بد أن تكون أديبة بدوام كامل، تأكل، وتشرب، وتمشي، وتحزن، وتنام، وهي واعية بذاتها كقاصة”.
تعتمد القصة القصيرة على التكثيف والدقة واللغة القوية والديناميكية والحرارة في العمل والتقاط التفاصيل، وهو ما برعت فيه مونرو، فقد قال النقاد عنها: “كأن جزءا منها انعزل عنها لا يفعل شيئا سوى المراقبة الذكية، مراقبة الآخرين، ومراقبتها هي نفسها وهي تنغمس في الحياة والمشاعر لتُخرِج هذه الشخصية الأخرى فيما بعد دفقات من التفاصيل والملاحظات التي لن تتوقف أمامها كقارئ متسائلا عن جدواها، أو عن إمكانية حذفها، فقط سوف تغوص معها برفق”.
والجدير بالذكر أن أﻟﯿﺲ ﻣﻮﻧﺮو ھﻲ ﺮﻗﻢ 13 ﻣﻦ اﻟﻨﺴﺎء اﻟﻠﻮاﺗﻲ ﺣﺼﻠﻦ ﻋﻠﻰ ﺟﺎﺋﺰة ﻧﻮﺑﻞ.
.
وﺳﺒﻖ أن ﻓﺎزت ﻓﻲ عام 1968 بجائزة اﻟﺤﺎﻛﻢ اﻟﻌﺎم، وھﻲ أرﻓﻊ ﺟﺎﺋﺰة أدﺑﯿﺔ ﻓﻲ ﻛﻨﺪا ﻋﻦ مجموعتها اﻟﻘﺼﺼﯿﺔ (رﻗﺼﺔ اﻟﻈﻼل اﻟﺴﻌﯿﺪة).
.
كما فازت في عام 2009 ﺑﺠﺎﺋﺰة اﻟﺒﻮﻛﺮ اﻟﻌﺎﻟﻤﯿﺔ ﻋﻦ اﻟﻘﺼﺔ اﻟﻘﺼﯿﺮة أﻳﻀﺎً.
قال الكاتب أحمد الخميسى:”لا أعتقد أن التوازانات السياسية كان لها دور في اختيار آليس مونرو.
يكفى أن نقرأ لها قصة واحدة أو قصتين لنعرف أنها جديرة بنوبل، وأنها تقف كتفا إلى كتف مع كبار كتاب القصة العالميين.
وأشار الخميسى إلى أن فوز آليس مونرو من دون شك انتصارا كبيرا لفن القصة القصيرة بعد أن اختنق ذلك النوع الأدبي من إهمال المجلات والصحف الثقافية، وبلغ الأمر حد أن الكثيرين من النقاد شيعوا القصة القصيرة إلى مثواها واعتبروا أنها ماتت.
بينما كتب آخرون عن زمن الرواية باعتبارها سيدة الأشكال الأدبية.
في نفس الوقت انتزعت مونرو الجائزة في ظل منافسة روائيين عالميين كبار كانوا معها مثل هاروكي موراماكي الياباني، والإيطالي أمبرتو إيكو وغيرهما.
لافتا إلى أن فوز مونرو باقة ورد كبيرة إلى القصة القصيرة وكتابها في العالم.
و بهذا اﺳﺘﻄﺎﻋﺖ أﻟﯿﺲ ﻣﻮﻧﺮو أن ﺗﻌﯿﺪ ﻟﻠﻘﺼﺔ اﻟﻘﺼﯿﺮة اﻋﺘﺒﺎرھﺎ وألقها، واعطائها الجائزة كان عن جدارة وليس تكفيرا عن ذنب، فهل ﺑﻌﺪ ھﺬا ﻣﻦ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﺎﻧﻘﺮاض اﻟﻘﺼﺔ اﻟﻘﺼﯿﺮة؟.
———–
كادر
الكاتبة في سطور
تلقب اﻠﻜﺎﺗﺒﺔ اﻟﻜﻨﺪﻳﺔ أﻟﯿﺲ ﻣﻮﻧﺮو اﻟﺘﻲ حازت جائزة أكبر أكاديمية عالمية ﺑﺘﺸﯿﺨﻮف اﻟﻌﺼﺮ، ﻟﻘﺪ أﺧﻠﺼﺖ ھﺬه اﻟﻜﺎﺗﺒﺔ ﻟﻠﻘﺼﺔ اﻟﻘﺼﯿﺮة وﺗﺠﺎوزت كلاسيكياتها، وﻟﻢ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﺗﻘﺎﻟﯿﺪھﺎ اﻟﻤﻌﺮوﻓﺔ، ﻛﻤﺎ ﺗﻌﺘﺮف ھﻲ ﺑﺬﻟﻚ ﻓﻲ أﺣﺪ اﻟﺤﻮارات، ﻓﺎﻟﻤﻀﻤﻮن لديها ھﻮ اﻷﺳﺎس، وﻻ ﺗﺘﺒﻊ ﻗﻮاﻋﺪ الشكل اﻟممنهجة.
ﻛﺘﺒﺖ أﻟﯿﺲ ﻣﻮﻧﺮو أول اﻷﻣﺮ رواﻳﺔ طﻮﻳﻠﺔ، ﻟﻜﻦ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻘﺼﺔ اﻟﻘﺼﯿﺮة اﻟﺴﺎﺣﺮ أﺑﻘﺎھﺎ ﻓﻲ أروﻗﺘﻪ، ﻓﻜﺘﺒﺖ ﻋﻦ اﻟﺤﯿﺎة اﻟﺒﺴﯿﻄﺔ ﻓﻲ اﻷرﻳﺎف اﻟﺘﻲ ﻋﺎﺷﺖ فيها، وﻋﻦ اﻟﺼﺮاع ﻓﻲ اﻟﺤﺐ واﻟﻤﻔﺎھﯿﻢ اﻟﻤﺘﻐﯿﺮة، وأﻏﻠﺐ ﻣﺎ ﻛﺘﺒﺘﻪ ﻋﻦ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻨﺴﺎء اﻟﻤقهورات.
.
إنها ﺗﻜﺘﺐ ﺑﺜﯿﻤﺎت ﻏﯿﺮ ﺑﻌﯿﺪة ﻋﻦ ﻧﺒﺾ اﻟﻨﺎس، وكرست رﺣﻠﺔ ﻋﻤرها لهذا اﻟﻔﻦ اﻟﺼﻌﺐ اﻟﺬي أﺣﺒﺘﻪ وأﺟﺎدت ﻓﯿﻪ.
ﻗﺎﻟﺖ ﻟﺠﻨﺔ اﻟﺘﺤﻜﯿﻢ ﻋﻦ ﺳﺒﺐ منحها اﻟﺠﺎﺋﺰة: إن أﻟﯿﺲ ﻣﻮﻧﺮو ﻓﺎزت ﺑﺎﻟﺠﺎﺋﺰة ﻟﻜونها أﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﻛﺘﺐ اﻟﻘﺼﺔ
اﻟﻘﺼﯿﺮة ﻓﻲ اﻟﻌﺼﺮ اﻟﺤﺪﻳﺚ.
.
.
و…ﻗﺮاءة ﻋﻤﻞ ﻷﻟﯿﺲ ﻣﻮﻧﺮو ﻳﻌﻠﻤﻨﺎ ﺷﯿﺌﺎً ﺟﺪﻳﺪاً ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺮة، ﺷﯿﺌﺎً ﻟﻢ ﻳﺨﻄﺮ
ﺑﺒﺎﻟﻨﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ.
_______
*الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *