*حسن عبدالحميد
تختصر القاصة والشاعرة والناقدة الفنية (مي مظفر) حدود تجربتها الإبداعية عبر توالي نشر مجاميعها القصصية(خطوات في ليل الفجر- بغداد/1970/البجع-بغداد/1979/نصوص في حجر كريم-بيروت/1993/بريد الشرق – بيروت/2003وكتابها القصصي الأخير/لم يبق منهم أحد)ثم تعاشقات نشر مجاميعها الشعرية على النحو الآتي:(طائر النار- بغداد 1985/غزالة في الريح- بغداد 1987/ليليات-عمان/1994/محنةالفيروز-بيروت2000/ومجموعتها الأخيرة/من تلك الأرض النائية-عمان)الى جانب مجموعة مؤلفات في الترجمة الأدبية والفني.
كلها جاءت لتعزز من ثقة ثراء مقومات وعيها، ووضوح زوايا رؤيتها للحياة، وبإزاء ما تعرضت له من ويلات ونوائب، وما فتئت تحمله من خبايا وخيبات ومصائب، أضحت توازي-بل تفوق-وهج ما مر من سعادات ماض، وحلاوة ذكريات، أخذت تتراخى حبالها وتتهدل جراء ما أصابها من وهن وشحوب، من فرط مرارة البعد وقسوة الواقع وتكرار تلاشي الوجوه من مرايا الذاكرة، بفعل تفاقم وطأة الرحيل والغياب وتحولات أشكاله النفسية والواقعية، كما تكرس ذلك بوجع مضن وأنين كتوم في أغلب نصوص مجموعة (مي) الأخيرة (من تلك الأرض النائية)، تلك التي وقعت في يدي-مصادفة- خلال زيارتي الأخيرة للعاصمة الأردنية/عمان نهاية نيسان/2014أي بعد سبع سنوات على صدورها عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر-عمان، فأوقدت فينا جمرات الأسى والحزن على نحو ما سعت الى تلخيصه الشاعرة باختصار بعض مشاهد وصور من(ألبوم) ذلك الماضي القريب، الذي امتزج فيه الخاص بالعام، وتداخلا كتوأمين سياميين.
لا عناء في لغة البحث ومفردات التعبير، سوى كل ما يديم متانة الصلة بذلك الماضي الذي شهقت تنشده برهافة روح وخفة بوح، وأسى سخي ومحتدم في ذات البيان والوضوح وبمنتهى الكبرياء واللوعة :
(هزمت بنا الأرض
لم تبق السماء لنا رمق
طارت على كل الجهات عباءتي
منسوجة بخيوط نار..
حملت على ريش الجناحين اللذين تعاندا
شعبا ينام على ورق) ص20
لم نجد في عبارة(أوسكار وايلد)القائلة:(ان أجمل ما في الماضي … أنه مضى)-رغم صلتها وقرابتها المعنوية،هنا،في خضم موضوع تفكيرنا بسطوة الماضي-ما يمدنا بمحاولات تبرير شقاء الشاعرة من ألآلام توجعاتها -الأقرب-من حيث مرارة معنى وجوهر من قال ملتاعا من الشعراء:(ما أقسى أفراح الماضي على الذاكرة!!) لتمضي(مي) في مسالك القبض على جمرات ماضيها، بود حنين خاص تارة، وبحزن قاتم،راسخ ومتجذر تارات أخرى في نفوس وأرواح الآخرين ممن أحييوا وجودهم في ذاكرتها،طوال كل سنوات البعد والغياب الاضطراري:
(من بين الأسراب الحيرى في ساحات مدينتنا
وجه صديق فر وغاب
ظننا أن النهر طواه..
وأن ظلالا منه تكاد تلوح خلف الباب
وجه يترقرق فوق الماء
ويسكن قلب الريح
فينبض حيا كل مساء) ص31
لقد تعمدت الشاعر إقصاء جميع العناوين الفرعية من ملاك مجموعتها، بإستثناء نصين، الأول بعنوان(رؤى) ص30والثاني بعنوان(صورة) ص32 لكي تمهد لعالمها أن يحيا بحرية تامة وتماه ضمني، لا يبتعد كثيرا عن جوهر العنوان العام للمجموعة، والتي توزعت على أربعة محاور أو مداخل عامة، تسلسلت وفق الترتيب التالي:
– الأول حمل عنوان (في أحوال الغربة والتغريب) ليضم ثمانية وعشرين نصا قصيرا.
– الثاني بعنوان ( أينما تكون…. سلاما) حوى على عشرين نصا قصيرا هو الآخر.
– الثالث بعنوان ( ما بين … بين) حفل بنصين اثنين فقط اتسما بطول متوسط نوع ما.
– عنوان رابع (أوطان مفخخة) الذي أشاع بحضوره نوعا من الاستفزاز-الخانق والمباشر وليضم سبعة نصوص قصيرة.
وهذا ما أعطاها نسقا دالا، وتكثيفا واثقا بغية إيصال أصل الفكرة التي ألزمتها إتباع رصانة لغوية ناصعة، واضحة وطرية من حيث(سبغة-الشكل) ومعتمة ، قاتمة من حيث (سيغة- الجوهر) في عموم ترسيم حدود وخطوط غاياتها، وصولا الى ضبط إيقاع درامي متواتر، متواصل لا يدع اي مجال لدخول أية كلمة زائدة، مقحمة ولا تؤدي غرضها وأثرها، كما لا يدع مجالا لإفلات الفكرة من قبضتها المحكمة بخبرة وبراعة التعامل مع السرد، أو القص-بمعنى أدق-والمدعمة بسحر براءة الشعر وقوة تأثيره الروحي والغريزي على إمبراطورية الوجدان من خلال(مملكة الأذن) : (فليس هنالك من يشتري بضاعة اللسان…غير الآن) كما يقول(جلال الدين الرومي)،من هنا تستدعي الشاعرة بعض صحائف سفر ذاكرتها لكي تبوح:
(استنشقت رائحة الغمام
أراك في طرف قصي
في أعالي الكون تنسج للعراق بساطه الذهبي
تقرأ من صحائف مائه سفرا من الأسفار
يحكي عن خراب مدائنه
فبصرت في بلوره حزم السنابل تستقيم ونرتعش
ولها سعى النهران في أرض السلام)ص62
وفي نص آخر يداني ويجاور نصوص مداخل أو بوابات قصائد(أوطان مفخخة) من حيث فداحة الحدث ومحاولات تسريب الأوهام للتخفيف من شدة قتامة الواقع الممهور بالحروب والفقدانات ومسببات الرحيل ودواعي الغياب :
(تنأى بجسمك غيمة حبلى بحبات المطر
هل قادك الوهم الجميل
فسرت في غابات نخل لم تشوهها الحروب؟
ياليت وجهك، حين يعبر فوق دجلة،
أن يشق ضبابها
ويمر من فوق المدينة وهي بركان تهيج وانفجر
يدنو ليلمس راحتي
معلقا بين الأصابع قطرة
بلورة من مائها) ص64
وما بين أن تحيي الشاعرة من رفات دواخل مواضيها القريبة،النائية حد الغموض والتوغل عميقا في غياهب الغياب ومدوناته البعيدة عبر قطف مشاهد حياتية،يومية،قد نلمسها مجرد مشاهد واستذكارت عادية ومعاشة،فيما لو إنها أغفلت هموم عالمها الكوني،وسعة تلك الدواخل والمديات التي تسكنها،وتحاول أن تستدعيها وتسحب بها،الى حيث تلك التصورات والتداعيات،كلما أغمضت عينيها وأشاحت ببصرها نحو ما تتعرض اليه حبيبتها بغداد،وباقي مدن العراق من خراب ودمار واكتظاظات هواجس وخوف وخشية على مرتع طفولتها،ونزق صباها ويفاعة شبابها،مستخلصة كل تلك الدواعي،بأن شاءت ظروفها أن تحيا بعيدة عنها،حتى أضحى النائي عنها موتا مستمرا،سرعان ما يتغلغل في ثنايا روحها ويتسرب مفتونا في قيعان وجدانها المفضي للخاص(الشخصي)وللعام(الوطني)،إذ يتسلل الحزن مسكوبا في وعاء رحيل أخيها(نمير)والتي أهدت لروحه نصوص المجموعة كاملة:
( شايك جاهز هذا الصباح
والخبز طازج
لكنني
لا أعرف كيف أوصله إلى فمك المعبأ بالأنابيب
حتى تصل الى حدود نهايات لائبة،تلك التي تبادل وتعلل وجود الأمنيات بالرهان على تحقيق المستحيل:
(ليتك ترسل بعضا منك
يلم الحصى من عيني
ويرشهما بالماء)
ص83
تتناهى لتتضح فكرة الغياب عبر مدونات نصوص(من تلك الأرض النائية)-بجميع محاورها الاربعة-عبر التسويغ المعلن لفكرة الإيمان بالمجهول وتفويض ضمير الغائب في الإنابة عن المتوقع، لكن الشاعرة سرعان ما تبدد غيوم تلك الفكرة،بأن تعود الى وعيها لكي تؤمن بحتمية ذلك الرحيل المفجع:
(عيني تفتش في رحاب البهو عنك
فلا أراك..
تركت نافذة مشرعة
وكرسيا وحيدا
لم يضم فتى
سواك.
لم يبق بعدك في الفضاء سوى الغياب
و رحيلك المشكوك فيه
يتوق سعيا للإياب)ص23
وتتبدد الشكوك لتتضح ملامح الخوف والضياع بحثا عن ملاذ أو خلاص ينهي عذابات شعب كامل، ووطن أمسى يخوض في مستنقعات ضيم وخراب الحروب ومتواليات حتى لم يعد في يحفل في قاموسه أي معنى من معاني التعلق بالأمل
(يقول شهود عيان
إن الطيور التي حومت في سماء ذلك الصباح
أسقطت مفتاحا ذهبيا في المقبرة
ففاضت الأنهر في الدمع
ولم تخمد النار التي أشعلت في البادية.)ص93
تستعيد الذاكرة الفردية-كونها الأقوى أثرا وثباتا من الذاكرة الجمعية-ملامح من صور يصعب أي تمهيد وتعليل وإغفال لتجاوزها،أو مجرد محوها لطالما وأنها نبتت في حقل ذاكرة شعرية-قصصية-مدعمة بحس نقد تشكيلي ومنحى جمالي يشى بتوصيف بالموت حتى معادلا موضوعيا مابين وحشية القاتل وبراءة وأحلام الضحية:
(تجرأ بسام ذات صباح
وأطل من نافذة داره
كان الطريق فارغا
وحين توغل فيه
اخترقت عنقه رصاصة سامة
الجندي الأمريكي لا يريد أحدا يزاحمه
في شوارع مدينتنا !ص91
وثمة سؤال مثمر قد يقطع الطريق على من يعمم فكرة الموت بالغياب ،كانت(مي مظفر) قد اجترحته في متون أحدى نصوصها، وأجدني نفسي تبارك إعادته على سجية حجم الرقة وكمية البراءة التي جاء يحملها ذلك السؤال :
(يتجاور الموتى أغرابا
فهل تتحاور الأرواح أحبة وأصحابا)؟!!
______
*المدى