رنا قباني*
في السنين الخمس والعشرين قبل النكبة، بدأت منظمات صهيونية، اختارت الإرهاب كخريطة طريق، في التشكل. كانت تعاني من خلافات عميقة بينها، أهمها أفكارها الأيديولوجية المتعادية ولمن تقبل منح الولاء. فمنظمة الهاغانا، مثلاً، مرنها جنرال في الجيش البريطاني يدعى أورد وينغايت (كان مسيحيا متدينا وصهيونيا كبير التأثير، اعتبر ان بوصلته الأخلاقية حثته على مساعدة يهود أوروبا على فرض دولتهم على أرض فلسطين) وسلحها وحضرها لكي تكون النواة التي ستصبح قوات الدفاع الإسرائيلية، والتي استلمها لفترة دافيد بن غوريون، لتصبح حليفة بريطانيا (الى حد معين) في استعمارها الكارثي لهذه البقعة من بلاد الشام. اما المنظمات الأخرى، مثل الشتيرن والارغون، التي أسسها أناس من أوروبا الشرقية، وخاصة من بولندا، فكانت متطرفة الطرح، لا تريد التعامل مع الحكم البريطاني، حتى اعتبر أكثر رموزها ان عدوهم الأساسي تكمن عاصمته في لندن لا برلين. كانت هذه المنظمات وحشية في خطتها لترحيل الجيش البريطاني والشعب الفلسطيني معاً من البلاد، فأتت بالإرهاب كما يعرف اليوم الى المنطقة. كانت الارغون هي المسؤولة عن تفجير فندق الملك داوود (والبروباغاندا السوداء التي بدأت بنشرها فور التفجير، والتي ظل يستعملها بحذافيرها جابوتنسكي ثم بيغن ثم نتنياهو، ولعقود مريرة بعد الحادث). هي التي ارتكبت مجزرة دير ياسين، التي لم ترحم كهلا ولا امرأة ولا طفلا ولا جنينا ولا حتى حصانا ولا بقرة ولا قطة ولا شجرة. تفاصيل المجزرة تناقلتها الأفواه المفجوعة، وقرر الكثير من أهل فلسطين محاولة النزوح الى أماكن أقل خطورة كما ظنوا في ذعرهم المعدي، واختاروا الإنقسام الى فئات صغيرة، على أمل ان لا يقتل الجميع. والتاريخ أعاد نفسه، اذ لم يجد من «يبنشر» دولابه القاتل: فها هم أهالي غزة في يومنا الحالي يفعلون ما فعله آباء أجدادهم، وبدون أي جدوى ولا رحمة.
بين الناجين من مجازر النكبة كانت عائلة طفل من الجليل، عمره 6 سنوات، نحيل الجسد، أشقر الشعر، يحب قطف حبات الكرز المتضخمة من حرارة الصيف، والتي كان ينتقيها بمهارة، كما انتقى الكلمات بعد ان كبر. كان طعمها يسكره، وهو في طريقه الى برية هاربة من بيت العائلة الحجري المتين، حيث كان يجمع أوراق الميرمية التي تطلق عطرها حين تفرك بين الأصابع. كان جده يحب غليها في «ركوة» نحاسية على كوم من الجمر قبل ان يصبح رمادا. كان مقل الكلام، ولكن حفيده اختار الجلوس بقربه دوما، كأنه خيال لزيتونة، يصغي معه الى السنونو وهو يشق بجناحه العنيف صمت المساء. لم يعرف بعد هذه اللحظات طمأنينة، ولا الفراق من حزن تأصل في أحشائه، لان جده- الميسور الهادئ الأطباع- اضطر، وخلال لحظات، ان يأمر أطفاله وأحفاده بالتوجه الفــوري نحــو لبنان، وعانى من نار العذاب وهو يأخذ قـــرارات قـــاسية ليــفرق بالغصب بين أم وطفل، وبين أخــت وأخ، بأمل ان ينجو البعض، ان لم ينج الكل.
لم ينس محمود درويش في حياته، حتى آخر لحظة من عمره، رحلة الرعب التي ذهبت بهم ولم يذهبوا بها باتجاه اللا معروف. مشوا حفاة، والدماء البريئة تسيل من أقدامهم، ليصلوا مع عشرات الآلاف الى لبنان، ويجدوا خياما نصبت عشوائية، مكتظة بالجياع. فقرر الجد بعد فترة قصيرة، وبعكس المنطق (سوى منطق عاشق من فلسطين) ان يعودوا كما أتوا، ليتسللوا تحت أخطار متزايدة الى أرضهم. كل هذا ليجدوا ان أرضهم قد اختفت مع دارهم، وحقولهم. أصبحوا غرباء في وطنهم، لا يملكون أوراقا تدل عليهم، في مخيم وسخ في قرية دير الأسد، لا يبعد كثيرا عن حياتهم السابقة في البروة، التي أصبحت مجرد أرض خراب، نسفت بالديناميت ثم لمت الجرافات ركامها، لكي تخرج من الواقع وتدخل الذاكرة بحدية الخنجر. صمت الجد حين عادوا الى العدم. لم يفارق محمود أبداً في السنين الخمس التي تزوجنا خلالها مرتين. كنت ارتجف من البرد، حتى في حر ليل بيروت في شهر آب، حين كان يصرخ في نومه من نفس الكابوس المتكرر، ويستيقظ والعرق قد أغرق غرة المراهق الشهيرة على رأسه، لانه حلم بجده، واقفاً الى جانب حائط من أسلاك شائكة- قصدت تحويل المخيم الى حظيرة حيوانات- لا يستطيع الجلوس أبدا رغم تعبه، ينظر الى «هناك» حيث كان بيته، ومفاتيحه ما زالت في يده المهزومة. كانت هذه الرؤية اليومية تطارد محمود، فيحاول ان يؤجل مجيئها الحتمي بالسهر أو بالسفر.
ولكنها كانت ترافقه حيثما ذهبنا، الى باكو أو سمرقند أو أثينا أو بغداد، رغم اختلاف البحار والنهار وفن العمارة واللغات والثكنات؛ رغم تفاوت القارات والأزمنة وغرف الفنادق التي لا تشبه في شيء تفاصيل مخيم الكابوس. لكن محمود ظل الى يومه الأخير طريد الذاكرة، التي أرهقته في ليله، لتجعله في نهاره يجمع الصور والمفردات وسحبات الموسيقى، جعلته يقول ان على هذه الأرض ما يستحق الحياة، بالرغم من قلة الحياء في الجريمة. كانت دموعي تسيل وأنا أرنو الى وجهه النائم، ولكنني لم افهم أبعاد مأساته المدمرة، حتى أصبح شعبي المعنف هو الآخر سجين المخيمات، وبالملايين، لا بمئات الألوف كما كان شعبه آنذاك.
* القدس العربي