درويش : لماذا تركت الحصان وحيدا …؟




إسراء عبد التواب *

( ثقافات )



خطفه الرحيل مرارا وكان يقاوم الموت وهو يكتب القصيدة، الموت بالنسبة للشاعر محمود درويش لم يكن يشكل له هاجسا، موته الحقيقي الذي كان يرتعد منه هو نجاح الأعداء في اغتيال لغته، عشق التمرد على ذاته وعلى شعره، وهو يحاول أن يخرج من شرنقة القضية الفلسطينية إلى عالم الشعر الواسع الذي يتجاوز التاريخي والذاتي.
تمر ست سنوات على وفاته وهو ما زال قادرا على إبهارنا بمعجمه اللغوي المتوحش بالجمال.لذا كانت حياته منتظمة يعترف في كثير من حواراته أنه كلما كان يكبر كان يعرف قيمة الوقت جيدا ويودع فراغ وجنون الشباب ويكون حريصا على الإخلاص لتجربته حتى يصل شعره إلى ذائقه الأجيال القادمة.ما كان يؤرقه أن تفقد الأجيال الصغيرة من بعده ذائقتها اتجاه شعره.. هو لاعب النرد الوحيد الذي غرق في الحب كثيرا ولم يسلم من دفقاته. ظل يلاحقه كما كان يلاحق الفراشات في طفولته. كان يمشى خفيفا حتى يكسر هشاشته ويعاود المشي ثقيلا لئلا يطير، وفى الحالتين كانت تحميه الأرض من التلاشي..
في المسافة بين ميلاده ورحيله كانت رحله سفره الدائم التي جعلت أمه لا تنتظر أن يدفن في قريته رغم تمنيها ذلك. قالت أنه منذ زمن لم يعد ابنها.بل صار ابن العالم العربي كله،من قريته إلى حيفا إلى باريس مرورا بالأردن وتونس ومصر كانت الغربة تتلون معه لتكسبه كل جغرافيا أفقا وخيال وفرحا وعند الحزن كان يخفى دمعته. سنجدد الذكرى لا لنبكي فدرويش علمنا أن الحزن والفرح يقفان على التوازي، وأن على عينيه ألا يسرقها الحزن حتى لا تكون أسيره لقهر العدو. بل عليها أن ترسم ملامح الذكريات والطفولة وحلم العودة فيكتب:


مجازًا أقول: انتصرتُ
مجازًا أقول خسرتُ…
ويمتدُّ وادٍ سحيقٌ أمامي
وأَمتدُّ في ما تبقَّى من السنديانْ
وثَمَّة زيتونتان
تَلُمَّانني من جهاتٍ ثلاثٍ
ويحملني طائرانْ
إلى الجهة الخاليةْ
من الأَوْج والهاويةْ
لئلاَّ أقول: انتصرتُ
لئلاَّ أقول: خسرتُ الرهانْ!


طفولة.. ضحية عدوان

كان يلعب الطفل الصغير بين أحراش أشجار الزيتون السمراء بقريته ” البروة” بالجليل. كانت الطفولة لديه لم تفقد بعد براءتها. يتسلق بين الأشجار يغازل حمام البيت يطعمه بيده الصغيرة، لكن فجأة انقلب المشهد بإطلاق الرصاص في صيف قرية البروة عام 1948.ظل يزحف الطفل الصغير الذي لم يتعدى ست سنوات على بطنة وتاره على قدمه هروبا من القتل هو وعائلته مشي في الصحراء فتهالكت ملابسة وتمزقت حتى وجد نفسه هو وأهله في لبنان 
في هذه اللحظة تفقد البراءة معناها سيصير الطفل يتكلم مثل الكبار. سيعرف جيدا كلمات تتسلل إليه تمحو لغة الطفولة….” لاجئ وكالة الغوث الاحتلال، الحدود “، سيجد نفسه في مواجهه كل هذه الكلمات التي يرددها الكبار. ستكبر روح درويش الصغير وسيبدأ في ممارسة التأمل مثل عائلته وهي تنتظر المصير وتحمل عار الإبعاد وهي تحلم بالعودة. يجد نفسه في مواجهه احتلال يسلبه لغة الطفولة يقول هو عن تلك التجربة: “لقد وضعت هذه الطفولة في النار. في الخيمة. في المنفى. مرة واحدة وبلا مبرر تتمكن من استيعابه ورأيت نفسي وكان عمري يومها ست سنوات محرومًا من الأشياء واللغة التي تميزه عن الكبار،وكل ما ورثته من حب للدنيا استبدله الواقع الجديد بضيق شديد بها،ولهذا – أذكر- فقدت موهبة اللعب وتسلق الشجر،وقطف الأزهار ومطاردة الفراش”.

درويش ومعلمه العلماني

الموهبة قد تكون طازجة،وفي حاجة إلى معلم يحنو على جسدها،وهناك معلم قادر على كبتها بخياله المنغلق وأفقه الضيق.لقد كان “درويش” محظوظا بمعلم “علماني” كان شيوعيا.يعترف أن الحظ لعب دورا كبيرا ليمنحه هذا المعلم الذي كان يؤمن بالتعددية وحق التعبير،فمنح لخياله الشعري زخما غير عاديا.يسترجع الشاعر ذاكرته في لقاءاته مع أطفال مدرسة الفرير بالقدس في لقاء حضره قبل وفاته بعام وهو يواجهم بقناعة آمن بها تتعلق بفكرة الحظ التي قد ترافق الطفولة مع معلم يؤمن بقدرتك على التعبير معلم دائما ما يحرض موهبتك الطازجة على الإنفعال. يقول عن ذلك:”هناك نوعان من المعلمين النوع الأول يعلم القواعد اللغوية والتاريخ،وهذا معلم غير جيد، والثاني يشرف على صحة لغتكم ويطور الموهبة ويصقلها وهذا هو المعلم الجيد.
قد يكون المعلم أيضا مدمرا يعترف درويش بذلك: لو كان صاحب تفكير سلفي أو صاحب ثقافة أدبية محافظة،وبالتالي قد يوقعكم في الخطأ،والطلاب المحظوظون هم من كان يعلمهم معلم غير محافظ لا يفرض عليهم ما يؤمن به هو…

رحيل يشبه الدائرة

لم يستقر درويش في مكان واحد.كان يقطع دائرة المنفي بعودة غير دائمة.شهرين في رام الله عشر سنوات في حيفا وعشرًا في بيروت وعشرًا في باريس..يختمها بالأردن التي استقر فيها سبع سنوات بطبيعتها الجغرافية التي أحبها. كان جسر “اللنبي” هو الوحيد الذي يواجهه بأنه ضحية السفر عن بلاده، وضحية حين يعود عندما يدخل إلى الأراض الفلسطينية،وهو يحمل جواز سفره الفلسطيني.تواجهه السادية الإسرائيلية وهو توقفه على الحدود لساعة كاملة.مجبر هو على الرد كل مرة بأسئلة مملة وبإنتظار أشد إيلاما.يقولون له: إسمك على الكمبيوتر،وهو ممنوع من الدخول…في كل مرة كان يسأم ” درويش”، ولكن من الإعتياد لجأ بفطنة الشاعر المتجاوزة إلى السخرية…كان يحاول الهروب من جواز سفره الذي كان معلقا في كل البلاد وهو لا يستقر في مكان لتؤكد أن رحلته دائرة لن تصل لنقطة ما.يواجه الجندي الإسرائيلي كل مرة بساديته فيلجأ هو لسخرية الرد:المشكلة أنكم لا تعرفون كيف تديرون سلامًا مع الآخر المشكلة غير قابلة للحل في أنكم أنتم عاجزون عن إقامة سلام بينكم وبين أنفسكم.
درويش كانت لا تنفصل معاناه رحلته عن معاناة أي فلسطيني كان يقبع تحت الإحتلال،وهو يري أرضه مقسمة ولا يستطع مع هذا الإنقسام أن يري جماليات جغرافيا بلاده.لكن درويش هرب هروبا مؤقتا لخدمة القضية.القضية لا يلزمها فقط دم يسيل على الأرض،ولكنها في أمس الحاجة إلى شاعر يمتلك جناحان ولغة ساحرة. يطير بهما بين البلادليؤكد هويته ويحافظ على ميراثة الثقافي، ورغم أن هذين الجناحين في كثير من الأحيان ينكسران كلما إشتد الصراع.فإن درويش استطاع أن يهرب من الثقل الذي كان يرتمي على جناحية الخفيفيين ليواصل الرحلة التي فرضها الواقع للتعبير عن قضيته حتى لا تفقد الأرض هويتها،وحتى لا ينجح الإسرائيلي في محو لغتها، كان يقطع المسافة بين رحلات متقطعة بين بلاد كثيرة كانت تثير لدى حساده سؤالا مؤرقا: كيف يحقق درويش وحدته الداخلية رغم هذا التنقل الدائم ؟!
يرد درويش في كثير من حوارته ليكشف لنا هذا اللغز: “أنا أحقق الوحدة في حياتي الداخلية بطريقة مجازية. أحققها عن طريق عملي وشغلي في اللغة. أحقق نوعًا من التوازن بين ماضٍ يبتعد وحاضرٍ يهرب ومستقبل غامض. سؤالك يذكرني بأنني لم أنتبه كثيرا إلى نفسي. كيف أحقق هذه الوحدة؟ قد أحاول الطيران بجناحين مكسورين ولكن الجناحين ثقيلان. ونحن في لحظة تاريخية ليست لها سابقة وغير خاضعة حتى لأدوات الحكم، لا السياسية ولا الثقافية. ولكن، هذا هو واقعنا هذه هي حياتي. وقد يكون الخيار أفضل من الاحتفاظ بمسافة طويلة والإكتفاء بالقول أن هذا الوضع لا يعجبني وبالتالي لا اقترب منه. ضميري لم يحتمل أن أجري التطابق بين موقفي الفكري والسياسي وبين سلوكي. قد أحتفظ بفهمي دون أن أقاطع مجتمعي سلوكيا. أشعر أن التصاقي بمجتمعي، إصغائي إلى أسئلته يحقق توازنا في داخلي أكثر من التوازن الذي يحققه الانفصال عن هذا الواقع وعن هذا المجتمع بحجة أن الإطار السياسي لهذا الحل لا يعجبني فقد أكون متحفظًا على الحل وأمارس نشاطات مع مجتمعي دون أن يكون في ذلك تناقض يؤزمه الابتعاد الكامل”.
باريس.. جنة التأمل 
الدخول إلى إنسانية القصيدة يلزمه مسافة تتمثل في مكان نرمي فيه كل أوجاعنا ونكتشف مع أناقة جغرافيته روحنا الداخليه التي لم تنهزم.الروح التي ظل متمسكا بها درويش،وهو يبحث عن مكان يفجر داخله جماليات اللغة ليكتب لنا أشعاره التي تلاحق روحنا أينما حللنا.

باريس كانت هي الملجأ كانت أنيقة في استقبالها لكل المنفيين، وكان يريد منها أن يشعر بالانخراط في عالمها ليذوب في جسدها ويلتصق برائحه شوارعها، وهو يرشف قهوته ويدخل في حوار ها الممتد. ليتخفف من ثقل الجناحان الغارقان في القضية فمصادقه المنفيين في مدينة أنيقة مثل باريس تخفف كثيرا من تأزم المنفي.هذا ما كان يشعر بها درويش اتجاه تلك المدينة الفاتنة التي وضعت يده على أسئله الضياع الإنساني يعترف بجمالها في ثقل موهبته الشعرية:” باريس من أهم المحطات التي أثرت على شعري لأنها خففت لدى وطأة الإحساس بالتاريخ.

اختلط ” درويش” بالمنفيين فيها علمته كيف يجعل صوته أكثر عمق وخفوتا لأن الشعر لا يتحمل الصراخ.لذا ظل يحمل الجميل لها ويعتبر مرحلة البقاء فيها لسنوات من أخصب المراحل لأنها أعادته إلى نفسه ووضعت عناصر قصيدته في بنيتها المناسبة…لكن درويش كان يعرف أن الإستسلام لغواية الفتنة والإصغاء إلى صوته الداخلي في باريس يلزمه واقع أيضا يتصل به،وعندما أدرك خطورة الاستمرار فيها دون اتصال قرر مغادرتها. 
لماذا تركت الحصان وحيدا
عندما نغترب نبحث عن أمان مفقود.نهرب للذكريات.لكن الشاعر ينادى على لغته ليعيد إحياء ماضيه،وهذا ما فعله “دوريش” بعد سنوات أمضاها في باريس،وفي اللحظة التي شعر فيها أن الصراع في الأراضي الفلسطيني يحتدم،وأنه بمواجهه واقع عبثي يفرضه العدو الصهيوني.قرر أن يتذكر الحصان ليجعله رمزا للذكريات ولكل المعاني النبيلة التي تذكره ببيته.يقول لأبيه: إلى أين تأخذني يا أبي؟” يجيبه: “إلى جهة الريح يا ولدي… لا تخف. لا تخف من أزيز الرصاص. التصِق في التراب لا تخف، لا تخف من أزيز الرصاص.. التصق بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو على جبل في الشمال”. ويسأل الابن أباه “لماذا تركتَ الحصانَ وحيدًا؟”. يأتي جوابه مدويًا: “لكي يؤنس البيت يا ولدي. فالبيوت تموت إذا غاب سكانها”!….بهذه الكلمات الرقيقة التي تحرض الذاكرة على رفض النسيان واجه ” درويش” قسوة الواقع.


قبل كتابه ديوانه ” لماذا تركت الحضان وحيدا؟!”.واجه درويش ما يمكن تسميته محاولة لإجراء القطيعة في الزمن بعد حرب الخليج.كان يبحث عن مكان وزمان ولغة ترمم تاريخه الشخصي وجراحة المثخنة.فلجأ إلى ما يشبه كتابة السيرة الذاتية، وهو يعود إلى قريته البروة بالجليل مكان ميلاده، ويتذكر أبيه، وكل ذكريات العائلة، كأنه كان يبحث عن خلاص روحي تساعده اللغة على تحقيقه. العدو قد يسرق الحاضر والمستقبل ويغتالك شخصيا، ولكنه يكون جبانا وقلقا ومتوترا حين تواجهه بلغتك، وتكون قادرا على إيلامه بتتبعك للغة تؤكد هويتك. هذا هو التجاوز الذي بحث عنه درويش فلجأ للإحتماء بلغته ليكتب سفر تكوينه يقول عن ذلك: النجاة الجمالية نوع من الخلاص الجمالي رغبة شرعية لدى أي شاعر فكل شاعر مطالب بأن يكتب سفر تكوينه الخاص أي كتابة أول الأرض وأول اللغة وأول الوعي وأول المعرفة وأول التاريخ. هذا كان الوعي المرافق لمحاولتي كتابة سيرتي الذاتية شعرًا. عندما استمعت إلى خطاب اسحق ربين في واشنطن، آلمني كثيرًا أنه سرق اللغة الفلسطينية. خطابه كان يجب أن يكون خطابًا فلسطينيًا لأنه تكلم عن حيرة الجندي، تكلم عن زملائه الشهداء تكلم عن شرعية علاقته بالأرض بلغة جمالية. كنت أعتقد أن اللغة الفلسطينية كانت تحاول أن تكسر السيف على ذلك المنبر، على منبر التعبير عن الضحية فكان رابين هو الذي تقمص شخصية الضحية ولذلك هذا جعلني أقول أنني أخشى أنهم سيسرقون أيضًا لغتنا. وبالتالي ذهبت للدفاع عن ماضي ولغته وعن لغتي أي لغة الضحية.


القصيدة السياسية والدواوين المحذوفة


أن تحمل قضية يعنى أنك تحمل شعب على كتفك تتنقل به من مكان إلى مكان.هذا كان مصير درويش،ولكن أن يحمل الشعر لديه تعريف القضية.هذا ما كان يثير لديه حساسية خاصة.فهو على قدر تفهمه للقصيدة السياسية التي تمنحه انتشارا كبيرا بين القراء.إلا أن لفظ “شاعر القضية” كان يواجهه بالخبث النقدي رغم احترامه الشديد لبراءة القارئ الذي يطلق عليه هذا التعريف كنوع من التشريف أنه رمز للقضية.يقدر درويش البراءة ويرتعد من خبث النقد لأنه يقلل من قيمته الشعرية ويجرد الشاعر الفلسطيني من شعريته ليبقيه معبرا عما يسمي تدوينات القضية الفسطينية. 
ينتهي غضب درويش لكنه ينتبه جيدا إلى خطورة الانجرار في تجربة القصيدة السياسية المباشرة لأنه جربها من قبل وجاءت سطحيه من وجهه نظره على الرغم من شعبية بعض القصائد التي كتبها حتى أنه حذف كثيرا من دواوينه مثل ” عصافير بلا أجنحة”،” سجل أنا عربي”،وعن أسباب حذفها من أعمالة الكاملة يقول: القصيدة الشعرية غير جميلة إنها تخلو من الشعرية أكثر من القصيدة التي تحرص على أن تنتبه لدورها الإبداعي ودورها الاجتماعي. أي على الشاعر أن ينتبه إلى مهنته وليس فقط إلى دوره. القصيدة السياسية استنفدت أغراضها في رأيي، إلا في حالات الطوارئ الكبرى. ربما أصرخ غدًا غضبًا، تعبيرًا عن أمر ما، ولكن لم تعد القصيدة السياسية جزءًا من فهمي المختلف للشعر”.
يعاود الاعتراف في كثير من حواراته أنه حتول تنظيف القصيدة مما ليس شعرا على الرغم من تسليمه الكامل أن لا أحد من الكتاب يستطيع أن يدعى أنه نظيف من السياسة لأن السياسية شكل من أشكال الصراع، لكنه يحتج بقوه لو مس الأمر شعره بحجه أنه يكتب شعر سياسي. يعشق أكثر منه تعبير التأويل السياسي للقصيدة. لأن القصيدة السياسية من وجهه نظره خطاب مباشر ومستهلك.


درويش وعرفات تحت الحصار


كان عرفات يدخل التاريخ المكتوب عبر قصائد محمود درويش وكان الآخير يدرك جيدا مزايا الاقتراب من السلطة.المزايا التي جعلت لدرويش طقوس حياتية معينة. لم يستطع أن يهرب في تعاملة الإنساني من كونة شاعر يتحرك بهيئة دبلوماسية. كان لا يحب الجلوس على المقاهي الشعبية.كان يريد أن ينظر له الكثير على أنه شاعر يرتدي بذلة دبلوماسي. دوره في منظمة التحرير الفلسطينية التي انضم لها أثرت على شخصيته. محطات كثيرة جمعته بالرئيس الراحل ياسر عرفات. لكنه استقال منها بعد اتفاقية أوسلوا،والتي كانت تقضي بالاعتراف بدولة إسرائيل مقابل الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، وبمنظمة التحرير الفلسطينية التي كانت ممثلة للشعب الفلسطيني.حينها رفض درويش البقاء في المنظمة.عرفات لم يكن مفاوضا بارعا. لكن درويش كان مفاوضا متمكن يقال أنه شارك في مفاوضات غير مباشرة مع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جورج شولتز، وأطلعه شخصيا على مسار أوسلوا قبل أن تعلن، لكنه استقال حين وافق عرفات على الاتفاقية التي لم ترضيه كل بنودها، وبعيدا عن الإختلاف السياسي بين الرئيس والشاعر تظل العلاقة قوية.الذكريات بينهما كانت أقوى من أن تفسدها السياسة. لا ينسي “درويش” اللحظات القوية التي جمعتهما. كان يرى عرفات ينتقل من مكان لآخر إبان الحصار الذي فرض على منظمة التحرير بلبنان لأنه كان يتوقع قصف أي بناية ينام بها، فكان يلجأ إلى الجراشات لينام بها.
في تلك اللحظات الحرجة كان يستدعي درويش وكان الآخير يراه متفائلا وشجاعا فيجد أنه كان يستقبل صحافيا إسرائيليا، هو “أوري أفنيري” الذي يعد من أكبر المعبرين عن الضمير اليهودي الحقيقي، كان يؤمن بحق الفلسطينيين في الإستقلال والحياة. إنبهر “دوريش” بإجابات “عرفات ” حين سأله الصحفى الإسرائيلى: “إلى أين أنت ذاهب؟” (وكانت هناك اتفاقيات حول طريقة خروج الفلسطينيين من بيروت) أجابه عرفات بدون تردد وبدون تلعثم وبدون تأتأة: “أنا ذاهب إلى فلسطين!”.يقول درويش معلقا على هذا الرد، وهو يتذكره:” جوابه يجب أن نقرأ فيه قوة إرادة وقوة تفاؤل وقوة تنبؤ، لا يتمتع بها إلا قائد من طراز خاص، هو عرفات.


تنتهي حالة الحصار التي دخلها عرفات ودرويش، لتبدأ حالة حصار أخرى في رام الله تستمر عامين.

يتم حصار “عرفات” خلالهما ويتم شل حركته نهائيا. لا يتأكد درويش أن شارون سممه طبيا، لم يكن لديه دلالات قوية على هذا الاتهام. لكنه اعترف أنه سممه عاميين نفسيا بشل تحركاته.
كان عرفات مجبرا على التفكير الدائم في حصاره فهو سياسي لا يستطع أن يتحمل حالة الحصار لنشاطه المشلول، والذي ساعد في القضاء عليه بسرعة نفسيا، وأثر على صحته. لكن درويش الشاعر لجأ إلى تجاوز مختلف عن رجل السياسة.إنه شاعر،وهو تحت الحصار نفس ما فرض على عرفات يفرض عليه،لكنه ليس كعرفات.إنه يمتلك خيالا مثل المارد. يستطيع أن يرى الدبابات بعيده عنه مترا واحدا، وكلما كانت تقترب كان يراقب طيران الحمام،وكأنه يبحث عن عناصر الطبيعة الباقية التي لا تتعرض لأي تأثير.
يتذكر تلك اللحظات، وهو يحكي عن فن التجاوز الذي لجأ إليه للهروب من وطأة الواقع: “كنت أبحث عن داخلي الإنساني، وعن قوة الأمل، وقوة العشب كلغة مضاده للغة الحديد،والعنف والقنابل حتى أتحرر تدريجيا باللجوء لعالمي”.

بين ريتا وعيوني بندقية 

قلبه إنفطر..كتب عنها لاحق صورتها في صفحاته البيضاء ليرسم ملامحها وعيونها العسلية،وعندما قبلها… كتب وجده: 


أنا قبّلت ريتا
عندما كانت صغيرة
وأنا أذكر كيف التصقت
بي، وغطت ساعدي أحلى ضفيرة
وأنا أذكر ريتا..
مثلما يذكر عصفورٌ غديره
آه.. ريتا
بيننا مليون عصفور وصوره
ومواعيد كثيره
أطلقتْ نارًا عليها.. بندقيّهْ
إسمُ ريتا كان عيدًا في فمي
جسم ريتا كان عرسًا في دمي
وأنا ضعت بريتا.. سنتينِ.
وهي نامت فوق زندي سنتين
وتعاهدنا على أجمل كأس، واحترقنا
في نبيذ الشفتين
وولدنا مرتين!
تمر الأعوام ينقضي عمر وتحل أعمار،ولا ينسي ريتا.في عام ١٩٩٥ يكشف الشاعر محمود درويش للناقد عباس بيضون في مقابله معه عن محبوته التي كتب فيها قصيدته” شتاء ريتا الطويل”.يعترف أنها يهوديه،وكانت إسرائيليه من أب بولندي وأم روسية لكن دون أن يكشف عن شخصيتها الحقيقية،لكن بعد عامين تلاحقه الأديبة والصحفية الفرنسية” لور إدلر” في مقابلة تليفزيونية لكي تعرف حقيقتها.كانت شغوفة لتتعرف على الوجه الذي إحتل قلبه.يستسلم درويش لملاحقة ” إدلر” فيقول:” لا أعرف امرأة بهذا الاسم فهو اسم فنى ولكنه ليس خاليا من ملامح إنسانية محددة. وإذا كان يريجك أن اعترف أن هذه المرأة موجودة، فهى موجودة أو كانت موجودة، تلك كانت قصة حقيقية محفورة عميقا في جسدى”….


مواعيد كثيرة جمعته بمعشوقته كانت تحبه أمها، وكان يكره أبيها علاقتها العاطفية بعربي..


كثرت رسائل الحب بينهما..أحبها وهو لم يفارق الثانية والعشرون من عمره،وكانت هي لم تغادر بعد ستة عشر عاما..لكن البندقية وقفت بينهما،وجعلته يقف في مواجهه معشوقته التي هجرته لتلتحق بالجندية الإسرائيلية.توسل إليها كثيرا ألا تتركهو تضعه في هذا المأزق..فكيف لمحبوبته أن تقف بينه وهى تواجه أهله وتحمل بيدها بندقية…يقال أنها هي من تركته،وحاول هو النسيان وقرر غلق صفحة الماضي فطاردته صورتها،وتنهد في ألم وكتب…


آه…ريتا 
بيننا مليون عصفور وصورة 
ومواعيد كثيرة 
أطلقت نارا عليها…بندقية

* البوابة نيوز

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *