*زهير قاسيمي
نشأت في الفترة الممتدة ما بين (1840-1870) مدرسة للرسم اهتمت بالرسم الواقعي التي حاولت رفض الواقع بكل تجلياته، متناسيا الذوق الجمالي فبعد انتهاء الثورات السياسية بأوروبا، ستدخل هذه الأخيرة مرحلة التصنيع التي ستتوج باختراع القطار الذي سيصل إلى القرى النائية جدا ليفك أسر الأقنان من أراضي الإقطاعيين، ليصبحوا عمالا بالمعامل، وسيدخل معها الإنسان مرحلة الاغتراب عن الذات وتراكم المشاكل المادية.
بدأت بوادر هذا الفن إبان النهضة الأوروبية مع الرسام الإيطالي “ليوناردو دافينشي” (1452-1519)، لكن ما يميز الواقعية في القرن التاسع عشر ابتعادها عن الأهداف الجمالية واهتمامها بنقد الوقائع الاجتماعية، كما أن القرن التاسع عشر سيخرج فيه الفن من أيدي الطبقات المثقفة القليلة إلى أيدي عموم الجمهور، وهذا كله سيتزامن مع حدث كبير حيث سيتم اختراع آلة التصوير الفوتوغرافي وتطويره على يدي الفيزيائي “جوزيف نيبس″ (1765-1833) والفيزيائي “لويس داجير” (1787-1851) وهي قمة ما وصل إليه الفن الواقعي.
جل مواضيع الفن الواقعي كانت مرتبطة بمعاناة الطبقة الفقيرة مع الظروف المادية التي حملتها الثورة الصناعية بأنكلترا، فبعد تدشين أول خط سكة حديد على يد المهندس الأنكليزي “جورج ستيفينسن” (1781-1848) سنة 1825، ستخرج القرى النائية الأوروبية من عزلتها، وسيفر الأقنان للمدن وستنكسر سلاسل الإقطاع وسيتحول الأقنان إلى عمال بمعامل الطبقات البرجوازية وستبدأ المعاناة المادية للطبقة العاملة، فتوجه النقد اللاذع للفن الرومنطيقي لكونه اهتم بالعاطفة والإحساس متناسيا التعبير عن الواقع المعيش للحياة الإنسانية بجميع عوالمها وبكل تجلياتها.
وسيتضح ذلك مع الروائي الفرنسي “فيكتور هيجو” (1802-1885) الذي سيصدر رواية ” البؤساء” وهي أشهر رواية في هذه الفترة، وهي خير تعبير عن معاناة المواطن الفرنسي في الفترة مابين سقوط “نابليون بونابارت” سنة 1815 ومحاولة الإطاحة بحكم الملك “لويس فيليب” سنة 1832.
عبرت هذه الرواية عن معاناة الأم “فانتين” التي توفيت دون أن تقر عينها بابنتها كوزيت التي ظلت تعاني ألم العمل في إحدى المطاعم بفرنسا، قبل أن ينقذها جون فالجان الذي غير مسار حياته من مجرم سارق -لأرغفة الخبز- ذو سوابق عدلية إلى رجل اسمه الأب مادلين المتسم بالاستقامة وحب الخير للناس.
التعبير بهذه الصورة الواقعية عن المجتمع الأوروبي لم تكن كافية في نظر الأدباء آنذاك، بل كان لزاما تحويل ما هو مكتوب إلى ماهو مرسوم، ففي سنة1891 سيرسم الرسام الأماني “هوبرت فون هيركومير” (1849- 1914) لوحة حية تعبر عن معاناة العامل المضرب عن العمل رفقة أسرته، وكأنها تشخيص للواقع الذي شخصه فيكتور هوجو في روايته البؤساء، وهي نقد واضح لما كانت تعاني منه الطبقة العمالية بألمانيا آنذاك من تهميش.
أما في فرنسا فالأمر كان مختلفا تماما عن ما تم التعبير عنه في ألمانيا، فالرسم عند الفرنسيين كان أكثر التزاما وأكثر تعبيرا وكأن اللوحة قصة معبرة تكاد تحكي بالكلمات، ولقد وظف ذلك أحسن توظيف الرسام الفرنسي الأكثر بروزا في المدرسة الواقعية “جوستاف كوربيه” (1819-1877) منتقدا الفن الرومانسي الذي ينقل الواقع بصورة منمقة ومليئة بالزركشات، مع أن الواقع مخالف وبالتالي فإن الفن ليست له رسالة عن واقعه لا يعتبر فنا بل الفن هو الذي يعبر عن الواقع الذي يعيشه الفنان ويتضح ذلك من خلال مقولته الشهيرة “على الفنان أن ينتمي لزمانه”.
ففي لوحته ” صباح الخير يا سيد كوربيه” يظهر جوستاف الرجل الأرستقراطي رفقة صديقه وهما يزيلان قبعتهما احتراما لصديقهما الفقير ” ألفرد بروياس″ ليظهر أن الأخلاق تكسر الفوارق الاجتماعية فالإنسان على حد تعبير كانط “”غاية في ذاته وليس مجرد وسيلة يمكن أن تستخدمها هذه الإرادة أو تلك وفق هواها”.
الحقبة الفكتورية لم تقف عند فرنسا وألمانيا بل انتقلت عدواها لإنجلترا مع الفنان “ويليام باويل فريت” (1819-1909) الذي المشهور بأعماله الواقعية ذات الطابع البانورامي، و لوحته العالمية “يوم الديربي” كشفت هذا البعد، التي تمثل مشهدا بانوراميا للحياة بلندن إبان العصر الفيكتوري وكانها صفحة مجلة وليست لوحة من ريشة فنان.
فهي تحمل كل أصناف الطبقات الاجتماعية وقد وقفوا جميعا ليستمتعوا بيوم السباقات وقد كتب عنها “جيه إي هودجسون”: “هذا الخليط الصاخب من الرياضة البريطانية أبرز ما يميز الحياة بلندن وفخامتها وثرائها وجمالها ورقيها وتعاستها الميؤوس منها”، لقد عبر فريت بكل صدق عن واقع بريطانيا آنذاك لن ينمحي من الذاكرة، مما جعل العديد من المسرحيين أن يقلدوا الشخصيات الموجودة باللوحة.
إذا كانت الثورة الصناعية التي انطلقت من إنكلترا انتشلت أوروبا من القعر إلى القمة، فإن الرسم الواقعي بدوره ثورة على معاناة الإنسان البسيط وسط زخم الحياة المادية الممتزجة بالقلق النفسي، فعالج بالضبط العمل كموضوع جدي متصف بالمعاناة والإرهاق والرتابة، بل الأكثر من ذلك ستذهب الواقعية لتَعْبُرَ إلى القارة الأميركية، مقتحمة المجال العلمي كالطب.
فبعد اكتشاف المخدرات الطبية والمطهرات، أصبحت غرفة العمليات محط اهتمام الفنانين لأول مرة في تاريخ الرسم وذلك لأن الرسم الواقعي يعتبر بدوره وثيقة علمية يمكن تقديمها كحجة ودليل على أي سلوك إنساني مثل الصور الضوئية.
ولقد انتهز الفرصة الفنان الأميركي المتتبع للنزعة الواقعية بأوروبا “توماس إيكنز″( 1844-1916) فرسم صديقه الدكتور “صاموئيل غروس″ وهو يقوم بعملية جراحية أمام طلابه.
______
*العرب