بنية التضاد في أعمال عز الدين المناصرة الشعرية




د. ديانا رحيّل*

( ثقافات )



إن الحياة كلها تحتضن الكثير من حركة التضاد: خير وشر، وظلام ونور، وعدل وظلم، وهذه الحركة لها إيقاعها الطبيعي المتميز في الحياة، والشاعر جزء من هذا الوجود يصور الكون وحركته فيه، فتصبح بنية التضاد الشعرية صورة للتضاد الماثلة من مفردات الحياة اليومية، وبذلك يتحقق التوافق بين حركة الذات في الواقع الخارجي، وحركة الذات في الواقع النفسي، وتكون لغة الشعر هي محك ذلك كله.
واللافت للنظر استخدام الشاعر عز الدين المناصرة لبنية التّضاد، وما لها من قيم أسلوبية وجمالية تتنوع وتختلف باختلاف الأبعاد الدلالية الناتجة عن التشكيل التماثلي والتضاد، تبعا للكيفية التي وظف بها الشاعر كلا منهما من نص الى آخر، ومن ثم تتشكل بنى التّضاد وتمثل أدوات فنية وتعبيرية يصوغ بها الشاعر خطاباته الشعرية.
ومن خلال التشاكل بين عناصر بنية التّضاد كظواهر تعبيرية يتبلور الخطاب الشعري بأبعاده الدلالية والجمالية، ومن ثم فإن بنية الخطاب الشعري حينئذ تكون قائمة على مبدأ ثنائيات التّضاد، التي تحقق مبدأ المفارقة، ومن ثم يتمتع النص بحالة من حالات التوتر الوجداني والشعوري، مما يجعل النص متميزا بقدر الديناميكية تجعله قادرا على تجسيد مشاعر المبدع وأحاسيسه إلى المتلقي.
إن أنساق التضاد تمثل ظواهر أسلوبية تمتلك دورها البارز في تكوين الصورة الشعرية، ومن ثم فإن هذه الصورة تشكل المحصلة النهائية لحركة الشاعر، وتفاعلاته مع الواقع ومدى انعكاس رؤيته على النص الشعري، إذ أن طريقة الشاعر في الحياة ورؤيته لها وانفعالاته وتكويناته النفسية والأيدولوجية، تتحكم في صياغاته وأساليبه، ومن ثم تتبلور هذه الأساليب والتعابير في صورة أنساق لغوية كان التضاد أبرزها، وله دوره المتميز في إنتاج دلالة خاصة، تسير في اتجاه مواز للأبعاد النفسية والواقعية والوجدانية والانفعالية للشاعر. 
نجد أن بنية التّضاد قد شكلت ــــ بما تمتلكه من طاقات إيحائية ــــ أبعادا دلالية ووجدانية في شعر المناصرة، كما أنها عمّقت إيقاعية القصيدة سواء عن طريق الاتفاق أو الاختلاف، وساهمت في تأسيس شعرية البنية النصية للقصيدة، سواء على المستويات الصوتية أو مستوى البنية المفردة، والبنية المركبة، أو المستويات النصية والدلالية.
أهم عناصر بنية التضاد في شعر المناصرة وما تمثله من مثيرات أسلوبية في السياقات الشعرية:
أولا: سلطة الخفاء /سلطة التجلي:
يوظف المناصرة مستوى التضاد من خلال تجادل نمطين: نمط تراثي ونمط أسطوري، ويتشاكل النمطان من خلال أبعاد مراوغة يتجلى من خلالها البعد التراثي، في حالة من حالات الجدال مع النص الحاضر، وينتج من هذا الصراع انحياز الدلالة لصالح نمط يبرز لتصبح له سلطة الحضور في مقابل تنحي واختفاء النمط الآخر، وتمثل البنية النصية للخطاب الحاضر سلطة متميزة تتجلى على مستوى أعمق من سلطة البنية التراثية، تلك البنية تظهر وتختفي متماورة في النص الشعري لتسهم مع البنية النصية الحاضرة في إبراز الدلالة الكلية للخطاب الشعري، الذي يحتضن سلطتين تتميز احداهما بالتجلي تارة والاختفاء تارة أخرى، ومن ثم يتجادل في أجواء الخطاب الشعري بعدان ثنائيان: بعد تراثي وبعد اسطوري، واستنطاق النص من خلال هذه الرموز يجعل منه بنية إشارية تثير ذهن المتلقي وتستدرجه لأجواء هذه العوالم التي تستثير القدرة الايهامية والتأويلية للنص، وبالتالي تتشكل أبعاد اللذة النصية، ومن ثم يمثل مستوى التضاد للتجلي والخفاء أبعادا ثرية تعمق البنية النصية للقصيدة.
وتتمثل هذه البنية لسلطة الخفاء والتجلي:

أولا: المستوى الأدبي التراثي:

تتصارع الدلالتان الأدبيتان في أجواء النص الحاضر، وسلطة تغليب أحدهما على الأخرى تلعب دورا بارزا في تجلي دلالة بعينها يفرضها السياق الشعري الذي يتميز بالبروز، ويشير ذلك الى حضور الرموز الأدبية واستدعاؤها من التاريخ القديم وتجليها لحظة الكتابة، كما يشير ذلك إلى اغتراب الذات الشاعرة عن واقعها الأدبي، وارتحالها عن واقعها المعيش والتحليق في أجواء زمنية تتعالق بزمن الابداع الشعري التراثي، واستدعائه في اللحظة الآنية التي تمثل لحظة تصنيع القصيدة.
كما يشير ذلك إلى الوقوع في غواية الرموز القديمة، وهي غواية مؤثرة وجذابة، يستخدمها الشاعر كحلية وزينة تتجلى في نصوصه الشعرية، كما يستخدم الشاعر هذه الرموز الأدبية ليعمق بها البعد الدلالي لقصيدته مستدعيا زمنا تراثيا بفطرته وعذوبته في مواجهة زمن معاصر يطحن ويدهس الذات الشاعرة، ومن ذلك استدعائه لشخصية “امرؤ القيس” في قصيدة “أضاعوني” التي يعبر فيها عن خيبة أمله وخذلانه من الأمة العربية التي نكصت به ولم تقدم له العون في طلب ثأر أبيه من بني أسد:

الكل أقسم أن ينام
يا هذه المدن السفيهة، إنني الولد السفيه
لو كنت أعرف أن نارك دون زيت
لو كنت أعرف أن مجدك من زجاج ما أتيت
إن الذين أتيتهم صبغوا الوجوه
وتلفعوا بالصمت في هذا البلد
وأنا أريد بني أسد
قتلوا ابي واستأسدوا
ما عاد ينهرهم سوى الخيل الضوامر
والسيوف بلا عدد

فالذات الناتجة عن تماهي ذات الشخصية التراثية وذات الشاعر تمثل حضورا مختلفا عن الشخصيتين المتجادلتين، بحيث أصبحت ذاتا لا يحكمها منطق صارم أو واقع محدد لأنها ذات مضللة، مليئة بالرمز والغموض.

ثانيا: المستوى التاريخي الأسطوري:

كما تتمثل بنية التّضاد عبر المستوى الأسطوري كما في قصيدة “فروتا طائر أخضر” إذ يستدعي الشاعر (أسطورة جبل المغناطيس) في قصص ألف ليلة وليلة، كرمز أسطوري وتاريخي، فهو الجبل الذي يجذب السفن التائهة ويحطمها، يوظفه الشاعر على مستوى الرؤية الشعرية بصورة مفارقة لدلالته الأسطورية ليتولد رمز جديد لجبل المغناطيس ومغاير لدلالته القديمة، إذ تتوالد دلالة جديدة نتيجة ما يضفيه الشاعر على هذا الرمز الأسطوري من أبعاد إيحائية، ليحوله إلى رمز جديد يتعالق بذات الشاعر، وبالحالات الوجدانية والشعورية، فالرمز الذي أصبحت تجسده الأسطورة هو مأساة الشعب الفلسطيني، الذي أصبح تائها تدفعه الريح الى جبل الحديد والصوان الذي تتحطم عنده الآمال، وتصبح منارة للمآسي والأحزان:

وألقانا الزمان المر في بحر بلا أطراف
ورحنا نسأل العراف
عن الجزر الرمادية
عن المرجان والياقوت والسفن الشراعية
فتمتم ثم عزم قال إن الريح تدفعكم
إلى جبل الحديد الصلب والصوان
على هاماته السمراء
تغيب الشمس يهجم ليله الظمآن
يظل منارة تأوي إليها الريح في الشطآن

وبذا يحتضن الخطاب الشعري دلالتين: دلالة أسطورة جبل المغناطيس، ودلالة الغربة والنفي، وشعوره كفلسطيني دون وطن ودون أرض ودون هوية، فامتزجت الأسطورة بذات الشاعر، وتولدت أجواء من (ألف ليلة وليلة)، لتلقي بظلالها على النص الأدبي، من أجل مزج أبعاد دلالية جديدة تشير لرحلة الشاعر في واقعه المعيش، وصراعه مع ما يلاقيه من أهوال وأمنيات، كما يصور تجوال الذات الشاعرة بمغامراتها المحبطة الكسيرة، وأحلامها المهترئة، وتمثل ذلك كله عبر (سلطة الخفاء/سلطة التجلي).

ثانيا: التشظي الصوري/ التماسك الصوري:

الصورة الشعرية عند المناصرة جزئية وكلية تجيء لتتفجر معبقة بالأحاسيس التي تنبعث منها طاقات اللغة الخلاقة لتعمق الشعور بالفكرة، وهي صورة في غالبيتها مرسومة بتأن وعمق، تنطلق من حركة الدوال المشعة، لتوظف كل إمكاناتها الصياغية والتركيبية والإيقاعية والدلالية، من خلال تكنيكات فنية وإبداعية يضفي عليها الشاعر مسحة من وجدانه ومشاعره، فتأتي الصورة فياضة ومشعة بالإيحاءات والدلالات، وتضفي على النص ظلالا وجدانية ونفسية. وتعتمد بنية الصورة الفنية في شعره على صياغة تشكيلية تجمع بين نمطين متضادين، نمط الصورة التماسكية، ونمط الصورة المتشظية.
والصورة المتشظية تتميز بالغرائبية، المتولدة نتيجة للتوتر العلائقي بين الأشياء ذات الدلالات البعيدة، فيصبح التشكيل الصوري تشكيلا متمردا على نمطيته متطلعا لارتياد اللاعادي واللامألوف، وتتماهى العلاقات المتولدة بين الدوال وتصبح الصورة المتشظية متولدة عبر قانونها الانزياحي الأكثر عمقا وغموضا.
أراك عمودا من الملح في الحلم قبل الغسق
كما نخلة الملح بين الدخان
يعم القرى في تعاريجه جمرة في ضلوع الدخان
ويتعمق بروز الدلالة الكلية في الخطاب الشعري من العلاقة الجدالية بين بنية هذه الصورة المتشظية وبين الصورة التماسكية، وتسعى الصورتان المتضادتان (التماسكية والمتشظية) لتصنعا البعد الدلالي الكلي، الذي يشير للأبعاد الرؤيوية والوجدانية للذات الشاعرة وموقفها الداخلي والخارجي إزاء واقعها المعيش، ويتولد عن هذه الحركة الصورية التّضاد تناغما إيقاعيا يسهم في تعميق الدلالة وأثرها على المتلقي.

ثالثا: الزمن الواقعي/ الزمن الحلمي:

تحتضن بنية الخطاب الشعري في بعض قصائد المناصرة زمنين متضادين، زمن خارجي وزمن نفسي حلمي، يمثل الزمن الحلمي (اليوتيوبية) التي يتطلع لها الشاعر الرومانسي هربا من دوامة الحياة الطاحنة التي تمارس فعل القهر على الذات الشاعرة، وتحولها إلى ذات مهترئة مطحونة، تهرب إلى عالم الداخل، تصنع أزمنتها الحلمية وتظل تتطلع إليها وتطرح عليها رؤاها، ولكن الزمن الخارجي يظل يترصد حركة الذات، داخل أنسجتها، كما تضفي حركة الواقع الخارجي بظلالها القاتمة على حركة الذات، تجاه الزمن فيتمثل الزمن الداخلي بمستويه الحلمي والكابوسي، وتبقي الأنساق الأدبية والنفسية فارزة لأبعاد الزمن التّضاد.
كما في قصيدة “قاع العالم” اذ يستنجد بتاريخ الكنعانيين، متحسرا على الواقع المعاش، اذ لا يجمعه في الليل الا الكأس المكسور، وهذا دلالة على الهزيمة التي توحدنا جميعا، ويحاول في هذه القصيدة استعادة زمن غابر لمكان ينتظر رجوع ملامحه الجميلة السابقة، عن طريق التخلص من عبودية زمن أسود قاس، فتقود انفعالات الشاعر هذه الى تفجير موقف جديد يحلم به، وهو كشف الحقيقة لانه غاضب من تسلط الزمن الراهن:

يا قاع المدينة
يا قاع الكنعانيين
يا وقع خيول عمالقة جبال النور
نتوحد في الليل على الكأس المكسور
زمن مقلوب كالبحر المقلوب
يا عرق العالم يا حقل الليمون
با إثم العالم يا بحري الموجوع
اخلع عنك لحاف التوت
ارقص أرقص لنتوب
قاع العالم معطوب

كما تبرز حركة ثنائية تضادية أخرى في شعره تمثلت في الزمن الصياغي التضادي التي يتوافر عليه السياق الشعري، وتنمو الحركة السياقية بين زمنين أحدهما ماض والآخر آتي أو استقبال، وبروز زمن صياغي على الآخر، يشير لطغيان دلالة أحدهما على الآخر، كما تتمثل أيضا أنماط متضادة للزمن في العلاقات القائمة بين (الليل/ النهار) و(الرحيل/ الانتظار) مما يشير إلى حالة (الفعل/ حالة السكون) اللتين تتردى بينهما الذات الشاعرة، ويشير في النفس (الشجن/ السفر/ الارتحال/ الشوق للأحبة).

رابعا: الشعرية/ المعيارية:

تعد بنية التماثلات والتّضاد من أهم الآليات التي تحقق شعرية القصيدة، التي يتحقق من خلالها تعانق بنية الثنائيات المتضادة في الخطاب النصي، وتتوافق بنية التّضاد مع الأبعاد الرؤيوية للخطاب الشعري، وتظل البنية تتنازع وتتشاكل بين التداخل والتخارج في تعالقاتها مع البنية الدلالية الكبرى، ويمثل ذلك آلية من آليات التشكيل الجمالي في شعر المناصرة.
وينبني النص الشعري على التعارض بين الألفاظ بدلالتها المعيارية والألفاظ بدلالتها الرمزية، ومن ثم يجمع النص بين الدلالتين الدلالة الواقعية التي تشع من معيارية اللغة، وبين الدلالة الإيحائية والإشارية التي تنبع من إمكانات الدوال الرمزية المشعة، إذ يتميز الرمز في كثير من شعره بثرائه الإيحائي، ويتمثل بعده الرمزي في عدة مستويات تجمع بين الدلالة القريبة والدلالة الإيحائية المستعصية التي تقبل تأويلات مختلفة، فقد أصبحت اللغة متوافقة مع تغيرات الواقع الاجتماعي والثقافي والقومي، الذي طرأ على المجتمع العربي في حقبة الستينات، وعلى وجه الخصوص هزيمة 1967م، وانهيار حلم الوحدة العربية، وما ترتب عليه من موت الحلم، وطغيان الهزيمة إثر الصدمة التي أصابت الشعراء، وجعلتهم أقل ثقة بالمعطيات الواقعية فانطووا على أنفسهم، وارتدوا لذواتهم يعيشون آلامهم وذكرياتهم يجترون ملامح الحلم بواقع قومي أفضل، كما في قصيدة “البلاد طلبت أهلها”:

يا خيول الجبال التي لا تنام
يا كروم المطر
انت لي مهرة كالقمر
انت لي فرس جامح في المروج
يا خيول الجبال التي لا تلين
يا خيول القرى في غبار الفجر
كلهم باطل في البلاد التي تحلمين
الليالي هنا علمتني السهر
الليالي هنا علمتني الحنين

ومن ثم لم تعد الأشكال اللغوية الواقعية هي أكثر توافقا مع الأبعاد النفسية والوجدانية التي يعيشها الشاعر في ظل هذه المتغيرات الحياتية، ومن ثم تراجعت الأشكال اللغوية وأصبحت هناك حاجة ماسة للغة ذات أبعاد جديدة تتوافق مع النتغيرات الحياتية والوجدانية، ومن ثم تولدت لغة جديدة لا تتكئ على الترابطات المنطقية بين عناصر اللغة وإنما الترابطات النفسية، وأصبحت هذه اللغة تعتمد على الرمز والإيحاء.
وإذا كان التشكيل التضادي في شعره يبرز بحضور مستويين من التوظيف الإشاري للغة: المستوى المعياري والمستوى الشعري، فاللغة المعيارية التي يضفي عليها الواقع أبعادا منطقية تتميز بملكة التعبير اللغوي المنطقي أو الواقعي، والشاعر يتكئ على لغة معجمية ينتقيها من معجم لغوي خاص متميز، ينتقي الشاعر من خلاله لغة أقرب للغة المعيارية، يبعثها في واقعنا السريع والمدجج بالمتغيرات الحياتية الكثيرة، كما يتميز المستوى الشعري بالإيحائية والترميز وتعالقه بأبعاد إيهامية ووجدانية.

خامسا: الثابت/ المتحول:

يوظف المناصرة تقنية الاستفهام، التي تلعب دورا سيميائيا وتنشط بنية السؤال في الخطاب الشعري لتستجلب معها بنية تضاد تتمثل في البنى السردية المتولدة، والمبنية على أساس حضور تقنية الاستفهام، وتتضافر البنيتان من أجل تأسيس خطاب شعري متميز يتغير بتغير الخلفيات القرائية للمتلقي، كما تتنوع حالات التوالد الدلالي مع كل قراءة تأويلية تتجدد بتجدد حالات التلقي، ومن ثم يمثل حضور السؤال بنية (الثابت) وتمثل بنية الأجوبة (المتحول)، التي تلعب دورا دلاليا مع بنية السؤال كحالتين متضادتين على المستوى الشكلي الطباعي والمستوى الدلالي.

كما في قصيدة” كم تكون المسافة”:

تظل القبائل تبكيك حتى الشروق
وانت على الرمل تمر الرحيق
ومن أين في البرد نأتي بأجنحة للحمام المهاجر
في رحلة الألف ميل
ومن نأتي بثوب الكروم المطرز
في هذه المدن الساكنة؟؟
ومن أين نأتي بقش لعرس البتول؟
ومن أين في الثلج نجلب عاصفة ضد هذا الذهول؟
…..
كم سيبقى من القهر من حصتي يا يسوع

يوظف الشاعر اللغة الإيحائية ليعمق بها شعرية النص، وتتحقق هذه الإيحائية عبر تجمع الجمل التي يسهم في تشكيل اللوحات الشعرية، فتتبلور في النص الجمل القصيرة التي تشكل الصورة الشعرية عبر الأبعاد الإيحائية المكثفة التي تولد جملا قصيرة مشحونة بطاقات تعبيرية ودلالية، تسهم في تكوين الصورة الشعرية، لتتبلور من خلالها الأبعاد الأيدولوجية التي تتوافق مع الحالات التي يتوخى الشاعر التعبير عنها، من خلال هذا النمط الصياغي المكثف، الذي يبرز من خلال لغة شعرية، وجمل مكثفة، كما تتدفق اللغة التأملية عبر الجمل الطويلة التي تناسب الرومانسية، ومن ثم تميل للاستطراد والتفصيل والإطالة في السرد الشعري، ويرجع ذلك إلى طبيعة الرؤيا التي يطرحها الشاعر.

سادسا: الذاتي / الموضوعي:

كما يتميز الخطاب الشعري عند المناصرة بحضور بعدين متضادين يشير أحدهما للذات وينمو هذا البعد الذاتي في مقابل الموضوعي، ويتبلور البعد الذاتي من خلال بروز (أنا/الفاعل) في مقابل تنحي (الآخر/الموضوعي) وتحتضن بنية الخطاب الشعري كل ما هو ذاتي في صراعه مع كل ما هو موضوعي، لتتحول الحركة إلى حالة من الدفع والتراجع بين المتلقي والمبدع، تطوي في دلالالتها مجموعة من الأبعاد الوجدانية الانفعالية.

سوف أفتح باب التطوع للنهر
والبحر والسهل والزيزفون
ثم هذا الصنوبروالسرو والكروم افتح باب التطوع
للنار حتى يثور الحنين
كان عرس بقانا الجليل وفاطمة الآن تكتب لي
أن جحر المسجى على الرمل لم يدفنوه

كما أن بنية التّضاد التي يتشاكل فيها الذاتي بالموضوعي، تمثل أداة تعبيرية تسعى لتأسيس أبعاد دلالية بين (أنا الشاعر/ أنا العالم)على مستوى التقدم للخارج والتراجع للداخل، والذي قد تتوالد عنه علاقات التنافر والانفصال من خلال البعد الدلالي (للذات/ الآخر) التي تشير إليها حركة البنية التّضاد والتي يتولد من خلالها نموذجا مغايرا للمألوف لا ينفص عنه، وإنما يخاتله طامحا إلى تأسيس رؤية فلسفية تتمتع ببعدين مزدوجين أحدهما يشير للباطن والآخر يشير للخارج، وبالمقدار الذي يتم فيه تغليب أحدهما على الآخر تبرز دلالته التّضاد في السياق الشعري.
وأخيرا فإن بنية الخطاب الشعري عند المناصرة تتمتع بامتلاكها أنساقا بنيوية خاصة، تهيؤه لتشكيل خطاب ذي أبعاد وملامح جمالية، تتكئ طريقة تكوين هذا الخطاب الجمالي على أنساق لغوية وإشارية ترتبط فيما بينها لانتاج الدلالة الجزئية التي تحتمل بعض المعنى، وتتآلف هذه الأنساق اللغوية بما تملكه من دلالات جزئية من أجل انتاج دلالة عامة، التي تحدد نمط الاتصال بين مبدع النص ومتلقيه.

* باحثة وأكاديمية من الأردن

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *