*برنار نويل ترجمة محمد بنيس
* التضخم في الاستهلاك البصري يؤدي إلى امتلاء فوقَ الطاقة يتسبب في الفراغ
* ملايين العيون يجتاحها دفقٌ من الصور التي تُوقفُ نشاط الدماغ عندما تجعله لا مبالياً
* وضع التلفزة في وسط الحياة العائلية يفوض لها سلطة إدخال العالم الخارجي في المدار الحميم
——
يمضي النظر ويعود في عيوننا كما الهواء يمضي ويعود باتجاه رئتيْنا، لكن ما الذي وراء عيوننا يماثل الرئتين؟ يجب أن يراكم التنفّسُ البصريُّ فينا مع ذلك تجربةَ محيطنا وأن يستخلص النظرُ من تكرار الصور قواعدَ علاقة هي بمثابة لغة أولى.
فما هو مدارُ الحركة التي تضعُ العالمَ في الرأس وتسمحُ له، حتى عندما تكون العينان مغمضتين، أن يبقى هناك؟ في أي جهة من الجسد يقعُ مدارُ هذه الحركة؟
——
ربما لم يطرح السؤال قطُّ ما دام طبيعياً أن نرى ونحفظ آثار النظر.
فنحن نتعرَّف، انطلاقاً مما سبقت رؤيته، على عناصر ما نراه، وتنفّسُ المرئي هو الذي يغذّي تعرُّفَنا عليه.
فأن نعرفَ كيف تعمل مناطق الدماغ والخلايا العصبية ونقاط الاشتباك العصبي يؤدي إلى تقديم أجوبة، لكن كيف نحس أن كل تمثّلٍ من تمثلاتنا مادةٌ عصبية؟ وبانتظار أن ننْعمَ بهذا الإدراك العلمي نعودُ في ذلك إلى ما هو طبيعي ونعترفُ بكل بساطة أن حركة الصور وحفظها أسست النفْس.
ثم ألمْ تمارس الرؤية في النفْس التسمية، شيئاً فشيئاً، عندما اخترعت اللغة؟
المخزن الباطني
كلمة “الدخيلة” أشدُّ عضويةً وحسيةً بكثير من كلمة “النفْس”، لكن لماذا لم نتوقف عن أن نجعل من هذا البناء الداخلي مجردَ ملحقٍ نعتقد أن الآلهة قدمته لنا؟ فعدمُ تجسّد النفْس هذا ربما ينتُج منطقياً عمّا تقوم به النظرة من فصل بين النفْس والجسد عندما لا تتوقف عن تغيير العالم إلى صور.
يظل هذا التغيير بطبيعة الحال غير محسوس ما دام النظرُ مباشراً، عملياً، آنياً، لكن يجب أن يفرض وعيُه نفْسَه بقدر ما تكبر ذخيرة الصور، وبقدر ما تمتزج الذاكرة بها، وبقدر ما ينضاف التأمل إلى التجربة.
يمكن أن نخمّن اليوم أن كل هذا يخصّ مناطق الدماغ، لكن كيف ندرك هذا المخزنَ الباطني وتنظيمَه؟ صحيح أننا لا نحتاج إلى هذا الإدراك لنستخدمه، إلا إذا كان الإدراك يسمح بعلاقة ــ إن كان بوسعي قول ذلك ــ تجسّدُ النفْسَ من جديد وكانت إعادة التجسيد هذه من دون شك مسعى أساسياً، عندما نبحث عن أحسن الطرق لمقاومة الاحتلال الإعلامي.
سواء أكنّا متّفقين أم لا على تكوين النفْس وطبيعتها، فإن ثمة إجماعا عاما على اعتبارها كخاصية نوعية للإنسانية بل وكمكوّنٍ لها.
كل واحد يعلم أن النفس تؤسس العلاقة بين الناس، وبالتالي تخلق المجتمع، والثقافة وجميع التطورات التي تؤدّي إليها.
فهي بذلك أساس الشخصية، واستقلالها وحريتها في قبول أو محاربة الشروط الاجتماعية والسياسية.
من ثم قامت السلطة، مهما كانت، بالبحث دائماً عن إقناع النفْس أو إرغامها.
فعلت ذلك بالقانون، الذي ينظم العلاقات باسم العدالة.
فعلت ذلك بالخوف، الذي يهدد المُعارض بعنف لا يرحم.
وفعلت ذلك على الخصوص بالتعليم الديني ثم المدني، الذي يوجه بدوره النفْس في الاتجاه الصحيح لضرورة السلطة والقبول بهيمنتها.
صوْغُ الاعتقاد بهذه الضرورة أكثرُ مردودية من فرضه.
ولا شكّ أننا، بعد انصرام قرون وقرون على هذا التمرين، كنّا نتخيّلُ أننا يمكن أن نستغنيَ ذات يوم عن تكوين يفرض تعليماً طويلاً، وتراتبية عائلية واجتماعية، وإدارة ثقيلة.
فإذا باختراع يحطّ، على نحو مفاجئ وبفظاظة، من قيمة ممارسة هذا الإرث الطويل لأن الممارسة تسمح بالنفاذ مباشرة إلى النفْس أو على الأقل إلى مكانها، تسمح بسرقتها من دون أن يبدو عليها ذلك وتضع فيه العناصر الملائمة لخضوعها.
تضخّم بصري
سهولة هذا الغزو وطبيعية هذا الاحتلال الذي يتبعه تفاجئاننا بمجرد ما نفكر في سيرورة تنفيذهما.
هكذا نكتشف أنه يكفي أن نستولي على العينين ونفرغ فيهما الصور حتى يستسلم فضاءُ النفْس إلى دفْقها كما لو كان هذا الفضاءُ الفاعلَ وليس الضحية.
لم يكن لأي آلة في القديم على الإطلاق قدرةٌ على النفاذ إلى المنطقة الأشدّ حميمية لدى الناس، على اكتساحها واحتلالها بواسطة فرجة لا تترك، بحجة الإخبار، أو التعليم أو الترفيه، أيَّ هامش لأدنى مسافة نقدية.
كل واحد، بطبيعة الحال، يحتفظ بمراقبة جهاز التليفزيون وباستطاعته في أيّ لحظة أن يوقف البرنامج الذي يستمتع به، لكن البرنامج يتوفر في غالب الأحيان على غواية عليا أو له القدرة على أن نتتبّعه حتى النهاية.
والنتيجة هي أن عدداً كبيراً من معاصرينا يقضون على الأقل أربع ساعات يومياً أمام التليفزيون.
إضافة إلى أن الشاشات يتضاعف عددها، ثم إنها وقد أصبحت من الآن فصاعداً محمولة، تملأ مكاناً في الجيب أو في الكيس وتصبح غير قابلة للانفصال عنا.
والأفظع من ذلك أنها أصبحت مستعملة أكثر فأكثر في التعليم وتهدد بالقضاء على العلاقة الإنسانية والتواصل بين الناس.
هذا التضخم في الاستهلاك البصري يمكن ألاّ يمثل سوى نوع من الهيجَان في مجال يخص الاستهلاك تحديداً، لكن ما هي تأثيراته؟ إنها قبل كل شيء امتلاء فوقَ الطاقة يتسبب في الفراغ.
نعم، هو ذا تعبير غريب، لكن هل عرفنا من قبل نظاماً قادراً على أن يملأ مكاناً ليفرغه من خصائصه الذهنية الطبيعية؟ وهو أكثر من ذلك موجودٌ داخل جسدنا ويعتبر من طرف الجميع كمكان أساسي رغم أننا لم ننظر إليه قط من حيث ماديتُه.
هكذا يتحول دفق الصور المفروغ في عيوننا إلى نشاطنا “الروحاني” فيما هو يحافظ على مظهر فرجة مُسالمة.
موضوع هذه الفرجة خدعة: إن أهمية حركة تدفق الصور أقل بكثير مما تنتجه وهي، بحركتها وحدها، أقل ممّا تحتل به نفْسنا لتحتفظ بها جاهزة لاستقبال الرسالة المثيرة التي سترسل لها من حين لآخر.
إن نفْسنا، باعتبار أنها محتلةٌ بهذا الدفق من الصور التي تواصل غزوها، لا تفكر في الغزو بسبب أنها لا تحتاج إلى أن تتمثل ما لا يتوقف، وهو يحتلها، عن أن يكون أمام عيونها.
لابد بطبيعة الحال من التذكير هنا بأن الفرجة التلفزية هي النشاط البشري الوحيد الذي لا يتطلب كمجهود وحيد، من أجل أن يبدأ، سوى الضغط على زر قبل أن يواصل المتفرج بشوق تتابع صورها.
وإلغاء كل مجهود في بداية الفرجة هو أساس الانجذاب إلى التلفزة.
إذ يكفي أن تشعلها وتفتح العينين.
ربما كانت هذه الوضعية تعوّض عن النفْس في وضعية أصلية: وضعية يكفي فيها أن ترى لتكون في أوج الرضا.
إلا إذا لم نكن أثناء الرؤية، ونحن أمام الشاشة، في حالة تأمل، بل نهجر التأمل في حالة الإطعام البصري بواسطة أنبوب الصور، الذي يعمل بالعكس على تجميد التأمل.
مدير سابق لأشهر قناة تلفزية شعبية فرنسية قدّم ذات يوم اعترافاً أصبح مشهوراً، مفاده أن دوره يتمثل في خلق “دماغ جاهز” لتلقي إعلانات زبائنه.
كيف يتم الحصول على هذه الجاهزية؟ بالجريان المستمر لدفق الصور التي حركتُها تتولّى مهمة أن يتمّ التعامل بلامبالاة مع استقبال الصور.
وإلى هذه التعبئة للنظام البصري تضاف بطبيعة الحال تعبئة المسار السمعي بكلمات وأصوات تكمّل الغواية، لكن أيكفي هذا لتفسير صناعة “الدماغ الجاهز”؟
كان الإدراك البشري، منذ أقدم الأزمنة، يجمع بين السمعي والبصري لكن كان يلزمه ألوف السنين لإتقان التعبير عن طريق اللغة والكتابة، وباختصار عن طريق نظام للترميز يرتبط دائماً على نحو دقيق بموضوعه.
نظام الترميز هذا مصنوع من طريقتين متكاملتين، لكن الطريقة الثانية، وهي حديثة العهد نسبياً، تركت على الدوام كل فرد حراً في تأويل الطريقتين بطريقته الخاصة من خلال بذل مجهود في التصور والخيال.
وبالنسبة لهذا التاريخ الطويل، فإن التسجيل الميكانيكي للصور الذي تولّد عنه السمعيُّ البصريُّ، يبدو مفاجئاً وكاسحاً بسرعته الفائقة، التي تُضخّمُ تأثيرَه منذ نصف قرن.
لا ريب أن التجديد، الذي تم نسيانه، هو أن هذه السرعة الفائقة في عرض الصور قد انغرست في حميمية كل واحد ولا تتطلب أيّ تعلم.
يكفي أن تملك جهازاً ملائماً، تضعه في وسط المسكن وتجلس أمامه.
تضغط على زر فإذا بعرض الصور يبدأ، ويتكرر بالصوت الذي يرافقه بطبيعة الحال.
عندها، يصبح حقل إدراكك كله محتلاً لأن الرمز ومضمونه يلْتبسان كما يتلازم توالي الصور مع السمع من دون أن تستطيع التدخل بشيء آخر عدا توقيف تشغيل الجهاز.
كل الأعمال المخترعة حتى الآن، وفي جميع المجالات، كانت ناقصة بطريقة متكتّمة: كانت تعتمد على التأويل والخيال، وبالتالي على الذكاء لبلوغ اكتمالها.
أما المشهد السمعي البصري فيكتفي بذاته لأنه يعتمد كلياً على الصور ولأنه تام في كليته مهما كانت جودته أو رداءته.
وسواء أكانت موضوعاته متفردة أم مبتذلة، فهي متساوية القيمة، حسْبُها أن تُشعر بتشابه سريع وتحافظ على شهية المستهلك مفتوحة.
كل هذا أصبح معروفاً ومفضوحاً حتى وإن كان الفضح، البعيد عن أن يكون له تأثير أو يكون رادعاً، قد اختُزل إلى ملاحظة أن الصورة المتحركة والمعززة ببعض فقاعات الخطب تصلح الآن للبرنامج والفكر السياسيين.
يبقى من اللازم مع ذلك أن نحاول فهْمَ لماذا يصبح الإنسان ضعيفاً بما يؤسس بالضبط إنسانيته، أي “نفْسه”.
من اللازم أن نحاول فهْمَ لماذا دفق الصور، وهو ينفذ من خلال عينيه، يمكن أن يحتل هذه النفْس إلى الحد الذي يجعلها “جاهزة” بالفعل لأي مناورة دعائية أو سياسية.
إن العلم، الذي توصل منذ سنوات إلى معرفة معلومات عديدة عن الدماغ والتفكير، سيصل ذات يوم من دون أدنى شك إلى ضبط حركة الصور التي تسمح بهذا الغزو وهذا الاحتلال.
فهل سيصلح العلم عندها لحمايتنا أم لإخضاعنا؟ وبالنظر إلى ما يعلمنا إياه التاريخ، فإن الحظوظ بين الاحتمالين متساوية.
الصورة هي الأصل
من التمثيل الرمزي للأسطورة إلى الحرف، ومروراً برمز الفكرة، تطور الترميزُ في مجال الكتابة بسرعة نسبية.
وما يثيرنا في هذا التطور، هو أن أيّ صورة مختزلة، في البدء، إلى رمزها الخاص تصلح لتسمية الشيء، الموضوع، الحيوان.
.
.
فماذا عن النطق بهذا الاسم الذي هو بطبيعة الحال سابق على محاولة كتابته؟ لا شيء يدلنا عليه لأنه لا توجد حفرية تحفظ طريقة النطق بالكلمات.
فالكتابة ليس لها أكثر من خمسة آلاف سنة، وتعود الرسوم الجدارية إلى فترة أبعد، تتراوح بين ست وثماني مرات، أما الكلام فيأتي من زمن بعيد لا يمكن حسابه.
ولابد من التنصيص على أن الترميز يبدأ بالرموز التشخيصية التي، تصبح، بسرعة فائقة، تجريدية.
يبتعد الأصل كلما أردنا الاقتراب منه.
لكن العين توجد هنا دائماً، فهي التي انفتحت منذ أن كان الجسد وكانت الحياة.
وهذه العين ترى، وبالرؤية تبعث بالصور نحو الدماغ وفيه تراكم معرفة.
لا شيء حتى هذا الحدّ يخرج عمّا هو طبيعي وحيواني، لكن ما الذي يحدث في اللحظة التي يدرك فيها هذا الحيوان، وقد أغلق عينيه، أنه لا يزال يرى ما لم يعد أبداً يراه؟ هذه الوضعية، عندما ننظر إليها انطلاقاً من زمننا، تكون من طبيعة أسطورية، ولها في هذه الحالة جميع حظوظ أن تكون طبيعية بكل بساطة، إلا إذا.
.
.
بين الرؤية العادية والرؤية المحفوظة في الذاكرة، ثمة انتقال أساسي من النظر إلى التمثيل.
وهذا الانتقال أصبح عادياً جداً ومنذ أمد بعيد إلى الحد الذي لا نرى أنه يدشّن ميلاد التفكير، في الوقت ذاته الذي يؤسس مكانه.
إذا نحن افترضنا أن الانتقال من النظر إلى الصورة الذهنية للنظر، التي هي أساس التمثيل، هو أيضاً أساس التفكير، فإن هذه العملية التي يمكننا القول عنها إنها فريدة بقدر ما نقول عنها إنها أصلية تفترض، لأجل أن تتطور، مجهوداً متواصلاً للتأمل المولد للذكاء.
عندها كان لابد أن نعرفَ بسرعة، إن استطاعت العين، في اللحظة الأولى، أن تكتفيَ بالنظر، ما الذي نراه، لابد أن نقارنَ، نستنتجَ، ونعرضَ بل ونصلَ بين ما نراه.
لا يتعلق الأمر بأن نحلم بالمجهول لكن أن نحرك المحتمل في الحدود التي تظهر لنا فيها العين، والعين وحدها، هي المؤسس للإنساني المفكر حتى ولو لم ننس مشاركة الأذن.
وإذا ما تعرض العنصر المفكر لاعتداء ذهني يمر عبر العين، أليس ذلك حجة في التساؤل عما يجعل من العين المدخل الأساسي لهذه المنطقة الحميمة؟
ملايين العيون يجتاحها كل يوم دفقٌ من الصور السمعية البصرية التي ستحتل النفْس حيث تزداد سرعة هذا الدفق.
فبين هذه الصور وتلك التي تأتي من اليومي، من العمل، من اللقاءات أو من الأنشطة، ثمة فرق في طبيعة الصور، الذي لا أحد، بالإجمال، يدركه.
إن الصور العادية تغذي النفْس بطريقة طبيعية من خلال تمثلات تقوم بتحليلها وتأملها، أما الصور الأخرى، صور الشاشة، فتُحدث في النفْس نوعاً من الشلل الذهني، الذي وصفه المدير السابق للقناة التلفزية الأولى في فرنسا بدقة وهو يتحدث عن “الدماغ الجاهز”.
أما زلنا نحتاج إلى أن نسائل هذه الجاهزية؟ إنها تُوقفُ نشاط الدماغ أفضل الآن كلمة “الدماغ” على كلمة “النفس” عندما تجعله لا مبالياً.
تتوالى الصور بسرعة تبدو معها وكأنها عادية باستثناء أنها في ذاتها تمثلُ نفسها بسبب ما يحجبه هذا العرضُ العاديّ.
ما يحتل دماغك لا يتوقف في أيّ لحظة عن الدفع إلى أن تخلط العينان بين الرمز (الصورة) ومضمونها حتى يصبح معها التمثل واقعاً يحيط بنا.
واقع مستبدٌّ لا يترك أي هامش للخيال ولا للتدخل بطبيعة الحال، باستثناء الحسم السريع.
وسببُ هذا الاحتلال التام للفضاء الذهني مرتبطٌ بالاحتلال المتزامن للمدار البصري والمدار السمعي مع نتيجة أن الفرجة لا تُدرَك كما هي بل بما هي في كليتها معيشة.
صناعة الاستسلام
إن وضع التلفزة في وسط الحياة العائلية يفوض لها سلطة أن تُدخل في المدار الحميم كل ما يركّب العالم الخارجي: الأخبار، الترفيه، الثقافة.
يظن أعضاء العائلة أن شراء التلفزة فوّض لهم سيطرة على الآلة، فيما سيطرتُهم تنحصر في إشعال وإطفاء الآلة.
وهم، كمتفرجين، في وضعية يمكن مقارنتها بوضعية العامل الذي لا يمكنه، أثناء التركيب المتسلسل للآلات، محروماً من أي مبادرة، إلا أن يكرر الحركة ذاتها باستمرار.
نعلم إلى أيّ حد أن الاستسلام الذي يتولد عن هذه الحالة مضرٌّ بالإنساني لأنه ينتزع منه كل خبرة ويترك جسده يتصرف تصرفاً آلياً.
ينطبق هذا حتماً على التدريب على الاستسلام الذي يولده جهاز التلفزة.
فأن يكون في بيتك مصْدَرٌ كهذا للصور يحمّل هذه الصور بواقع يدمجها، من دون بذل أيّ مجهود في التأمل، في الحياة اليومية والحياة الذهنية.
ونتيجة لذلك، لا تعود ثمة مسافة مهما كانت بينك وبينها وتصبح الألفة سريعة الزوال مع هذا الدفق الذي، وهو عابرٌ دائماً، ولا شخصي وغير خاضع للتأمل، يشلّ التأويل مثلما يشل الخيال.
مصنع الاستسلام هذا هو بالتأكيد أحد الاختراعات الاجتماعية اللافتة للنظر في عهدنا.
إنه يحتقر الإنساني، ولكن ربما كان ينبغي أن يسمح بالتخفيف من القمع إلى درجة يصبح العنف معها لا مجدياً.
لا شيء من ذلك لأن شهية القامعين تزداد شراهتها بلا هوادة خارج كل معيار ودائماً على حساب عدد أكبر من الناس.
وكلما تضاعف عدد الشاشات، لا تكون الحرية هي التي تكبر ولكن وسيلة مراقبة كل واحد من مستعملي التلفزة حتى في حياته الحميمة.
والضجة التي أثارها اكتشاف سيطرة المخابرات الأميركية على جميع وسائل التواصل الخاصة يؤكد السيطرة من دون أن يعمل، مع ذلك، على توقيفها.
والغريب هو أن نلاحظ كيف أن جميع تجاوزات السلطة التكنولوجية لا تثير غير سخط سطحي للغاية.
فهل لأن وسائل الإعلام تتسرع بالانتقال من موضوع إلى موضوع آخر أم لأن السخط نفسه ليس سوى ردة فعل طبيعتُه هي المُناورَة.
إن الاستسلام هو في العمق أحسن وقاية ضد أيّ تمرد.
نرى أن النقابات نفسها اليوم متواطئة ما دامت المظاهرات التي تنظمها ليست سوى خدعة هدفها بالضبط هو إرهاق المتمردين.
لا جدوى من إضافة أن الاشتراكية لم تعد تحمل هذه الصفةَ إلا من أجل الترويج لما هو مضاد لها.
ثمة إذن بين جميع مراكز السلطة تفاهمٌ من أجل إحباط قوة المعارضة من جهة، ثم، من جهة أخرى، تنمية الوسائل التي تجعلها منعدمة.
لذلك، يجب أن تجعل من غير الإمكان تصور التمرد، وبالتالي تعمل على احتلال الدماغ حتى تفصله عن التمرد: أي احتلاله بالمعنى العسكري للكلمة.
وتبقى أحسن أداة لتحقيق هذا المشروع هي التلفزة ومشتقاتها المختلفة تبعاً لجميع الأسباب التي سبق ذكرها، ولأن الشلل الذهني الذي تبثه ليس غير مؤلم فقط، بل يغري.
عندما تكون العين منذهلة بتوالي الصور الصوتية والمتحركة التي تحتل الفضاء البصري برمته، فإن الواقع المحيط يعثر على نفسه مضاعفاً رغم أن الإدراك يضيع فيه.
عند ذاك ينحرف التفكير على امتداد الفرجة الذي يسمح له فقط بالتماهي مع نفسه ويمنعه، بالتالي، من التأويل والتخيل.
على هذا النحو لا ينمو سوى الحرمان من المعنى الذي يسهّل الاستسلام.
عندما انبثقت المقارنة بين العمل المتسلسل في المعامل والفرجة المتلفزة، كان عليَّ أن أتمسّك بواقع أن العمل المتسلسل والفرجة يؤديان إلى فقدان الاستقلال الفردي، أي فقدان الالتزام والمشاركة الجسدية اللذين كانا يجعلان الاختراع يمر، على الدوام، عبر الجسد.
فهذه الصلة بين الذكاء واليد هي التي تندثر في التقنيات الجديدة.
يجري فصل الروح عن الجسد، وهو، أبعد ما يكون مشجعاً، كما ساد الاعتقاد من قبل، على الروحانية، بل يتجه نحو العمل على اندثارها.
لم يعد الأمر يتعلق بغير القيم المادية، وفيما هي هذه القيمُ يهددها الإفلاس، تعلن جميع السلطات على العكس من ذلك عن عودتها، وأنها ستكون المُنْجية.
إن المحافظة على هذه الخرافة المبشرة بالإنتاج، تمر عبر عناد انتحاري، وعبر قمع لم يسبق للبشرية أن عرفت عنفاً مثله قبل اليوم، عنفاً يدمر التوازنات الطبيعية، والمناخ، وجودة المواد الغذائية، والمكتسبات الاجتماعية، والخدمات العمومية، والتعليم.
يجب العمل على الاعتقاد بأن هذا الدمار لابدّ منه لأجل وجود تقدم في المستقبل، وبالتالي جعل الأدمغة جاهزة لهذه “الحقيقة”.
وبانتظار ذلك، أصبحت أجسادنا مصابة بالتدهور العام الذي نعاينه، في الوقت نفسه الذي أصاب التدهورُ شروطَ الحياة، لكن الفرجة في البيت تلهينا عنه.
تتواصل الأخبار بطريقة يفقد معها الخبرُ تلو الخبَر كل قيمة على نحو يصبح تحديد المسؤوليات دائماً مؤجلاً أو ملغى.
يعمل كل شيءٍ على الاستحواذ على عيوننا وعلى أن تفرغ فيها جرعات الصور التي تحسّنُ مشاهدة الأخبار، التي هي البعدُ الوحيدُ للعالم بعد الآن.
لماذا هو الاستيلاء على عيوننا حاسم بهذا القدر؟ إنه السؤال الذي يبرر المحاولة المحفوفة بالمخاطر للتساؤل عن أصل لا تبقى آثاره على قيد الوجود، إلا إن هي كانت في أجسادنا.
لا يُحصَى عددُ الدراسات التي تسعى اليوم إلى توضيح بناء خلايانا وتحديد مناطق فيها ومدارات.
وما هو مستعجل في هذه الحالة هو أن نعثر على الطريقة التي نسترجع بها المقاومة الجسدية لما يحتقر جسدنا ويستولي على فضائنا الذهني ليبذر فيه استسلاماً يفعل فينا كردّ فعل.
كان الأمر يتعلق هنا باختراع، بمعنى الكلمة في الحفريات، للدور الأساسي للعين، الذي هو في جميع الأحوال دورها، حتى تقوم بفضح استغلالها بغاية الاستيلاء على “دماغنا”.
فهل من السذاجة أن نعتقد بأننا إن عرفنا الطريقة التي نؤثر بها في العدو سنحْصل على وسيلة الاعتراض على فعله؟ لا شك أن هذا ليس بالبسيط ولا بالكافي بسبب أن المعرفة لا تكفي: لابد أن نضيف إليها الإدراك والوعي بما ينْفُذ إلينا من السمعي البصري في الوقت الذي يهجم ما ينْفُذ على فضاء الدخيلة كلّه.
ما ينْفُذ يسلك المدار الأصلي الذي يؤدي من النظر إلى التفكير ويعود فضلُ قوّته في الاحتلال إلى الخبرة بهذا المسار.
فالمتفرج المستمع، في هذه اللحظة، يقبل أو يدافع عن نفسه: إنه على علم، وله الاختيار.
______
*الاتحاد