الحرب.. والحداثة



*فاضل السلطاني

هل بدأت الحداثة، بمعناها الأدبي على الأقل، مع الحرب العالمية الأولى، التي بدأت فعليا في 28 من يوليو (تموز)، وانتهت 11 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1918؟ ليس تماما، فما تلك الحرب سوى نتاج لعالم بدا يتداعى منذ نهاية القرن الـ19، إذا استعرنا تعبير دبليو بي. ييتس في قصيدته «العودة الثانية»، التي يتحدث فيها عن «قوة اضطراب جديدة تجتاح العالم» فـ«تتداعى الأشياء»، وهو التعبير الذي اتخذه الروائي النيجيري تشينو أتشيبي عنوانا لروايته الشهيرة التي تدور عن حرب الإنجليز على بلاده واحتلالها نهاية القرن الـ19. إنه عالم بدأت تسوده الفوضى، ويجتاحه «مد مغموس بالدم»، راسما بذلك أجواء جهنمية لما يمكن أن تنتجه أي حرب كونية.

وقبل نشوب الحرب بأربع سنوات، أي في عام 1910، أعلنت الروائية البريطانية فرجينيا وولف عن ميلاد الحداثة! وقبلها، بنحو 20 سنة، كتب الناقد النرويجي جورج براندز سلسلة مقالات نقدية تحمل عنوان «رجال الاختراق الحديث». وسرعان ما أصبحت هذه الصفة، ونستعير هنا، كلام مالكوم برادبري وجيمس ماكفارلن في كتابهما القيم «الحداثة» – ترجمه إلى العربية مؤيد حسن فوزي – صفة لاتجاه متنام لا يقدر أحد على مقاومته.
وبعد سنتين من ذلك، في عام 1885، أصدرت في ألمانيا مجموعة شعراء مختارات شعرية بعنوان «شخصيات شعرية محدثة»، وأصبحت هذه المقدمة البيان الشعري لحركة الحداثة الألمانية، ومن القصائد التي ضمتها المجموعة قصيدة لأرنو هولز يقول فيها:
«ليكن الشاعر محدثا
محدثا من قمة رأسه لأخمص قدميه»
وتنامى هذا التيار بشكل متسارع وقوي ليغطي مختلف أنحاء أوروبا، وإن بأشكال مختلفة حسب التطور الثقافي لكل بلد، أما في إيطاليا، فقد ولدت عام 1909، الحركة المستقبلية التي بشرت بعالم جديد، هو العالم الصناعي بطائراته ومكائنه، ومطابعه، وشاحنات فحمه، وسفنه الضخمة، وانطلاقا من ذلك، طالبوا بأسلوب أدبي جديد «يمجد المعجزات الإنسانية الجديدة». ومؤسس هذا التيار هو الشاعر والروائي الإيطالي فليبو كاتوماسيو مارتينيتي، وواضح أن ممثلي هذا التيار قد افتتنوا بالمخترعات الجديدة افتتانا رومانسيا ساذجا، وكتبوا عنه قصائد أكثر سذاجة، ولذلك لم تبق طويلا، كما في هذا المقطع من قصيدة كتبها مؤسس التيار نفسه:
«وداعا للأرض القذرة
أخيرا سأزود نفسي بمستلزمات الطيران.. لأطير
فوق النجوم المسكرة
لأستقر في السماء».
وجاء في البيان المستقبلي الأول: سنغني للحشود الكبيرة المنهكة في العمل والمتعة والثورة.. سنغني لتيارات الثورة المتعددة الألوان والأنغام، تلك التيارات الموجودة في العواصم المعاصرة. سنغني لجعجعة الليالي وحرارتها في ورشات السفن ومراسيها، السفن التي تشع فيها الأقمار الكهربائية الصاخبة، سنغني لمحطات القطار التي تلتهم الدخان، سنغني للمصانع التي تربطها أعمدة الدخان بالسحب.
أما في البيان الثاني، الذي يمجد فيه مارتينيتي السرعة، فقد أصبحت الطائرة مصدرا للإلهام:
«عندما كنت جالسا فوق خزان الوقود، وأنا ملتصق بالطيار، أدركت بلادة قواعد النحو القديمة المضحكة، التي ورثناها عن هوميروس، أدركت الحاجة الملحة لتحرير الكلمات من سجن الجملة اللاتينية، إن لهذه الجملة، مثلها مثل أي إنسان غبي، رأسا لاذعا ومعدة ورجلين وقدمين مسطحتين، لكن لن يكون لها جناحان، إنها لا تقوى على المشي أو الركض لحظة واحدة من دون أن تتوقف مقطوعة الأنفاس. هذا ما قالته لي مروحة الطائرة عندما كنت أحلق على ارتفاع مائتي متر فوق مداخن ميلانو».
وفي روسيا، كان أبرز ممثلي التيار المستقبلي هو فلاديمير ماياكوفسكي، لكنه سرعان ما هجره، ووجد ضالته في الشعارات التي طرحتها ثورة أكتوبر الاشتراكية، التي أصبح فيما بعد شاعرها الأول، وسرعان ما ولدت على أنقاض المستقبلية حركة أخرى هي الحركة الدادائية، التي احتفظت ببعض عناصر المدرسة المستقبلية، وخصوصا موقفها من اللغة؛ إذ دعت أيضا إلى كتابة مستقبلية تنسف قواعد المنطق والنحو. ويمكن القول إن الحركة الدادائية هي أول حركة فنية وأدبية ولدت كرد فعل مباشر على الحرب العالمية الأولى وأهوالها. وأساسا، ولدت هذه الحركة عام 1916 في زيوريخ بسويسرا التي كانت ملجأ للكثير من الكتاب والفنانين الهاربين من بلدانهم، احتجاجا على هذه الحرب، وعدم اقتناعهم بالتبريرات التي ساقها السياسيون. ثم امتدت الحركة إلى برلين، ويعتقد البعض أن الحركة قد ازدهرت قبل ذلك في نيويورك عام 1915.
لكن الدادائية عرفت ازدهارها الحقيقي في باريس بعد أن وصلها تريستان تزارا، الروماني الأصل، وأحد أهم عرابي الحركة، وسرعان ما انضم إليها في فرنسا كتاب هم من الأبرز في القرن 20 كأندريه بريتون، ولويس أراغون، وفيليب سوبو، الذين سيؤسسون بعد ذلك الحركة السريالية.
ترافق مع مناهضة الدادائية للحرب، دعوتها لرفض المصالح القومية والكولونيالية، والتمرد على المؤسسات البرجوازية القائمة، والقوانين الاجتماعية والمعتقدات المتعارف عليها باعتبارها جميعها أسبابا رئيسة وراء اندلاع الحرب.
اعتقد كثير من الدادائيين أن الآيديولوجيا البرجوازية هي التي مهدت فكريا ونظريا الأرضية الصالحة لصراعات النفوذ العالمية، وقد عبروا عن رفضهم هذه الآيديولوجيا في أعمال فنية وأدبية سخرت من العقل والمنطق، ومجدت الذات واللاعقلانية والفوضى. لم تكن الدادائية، كما عبر عنها، أحد روادها، جورج كروسز، سوى «احتجاج على التحطيم المشترك».
وعلى أي حال، لم تخلف الدادائية أدبا إنسانيا قيما، بل كانت ذات ضجيج عال على حساب العمل الفني الخلاق، بل إن تزارا نفسه، الذي بدأ شاعرا جيدا، انتهى فعليا بعد تزعم الحركة، وأصدر من البيانات ما يفوق عدد قصائده، ولا غرابة في ذلك، فالدادائية، حسب قول الناقد هيوغو بول، لم تكن بالأساس فنا، بل حركة «ضد الفن»، إنها مثلت نقيضا لكل ما يدعو له الفن، وإذا كان الفن يهتم بالجماليات، فالدادائية نسفت كل الجماليات. وبعد سنوات من تراجع هذه الحركة، وصفها فنانون دادائيون سابقون بأنها «كانت ظاهرة تفجرت وسط الفوضى الاقتصادية والأخلاقية في فترة ما بعد الحرب»، وأنها «رد فعل على مشهد مجنون من القتل الجماعي».
ولعل ميزة الدادائية الوحيدة أنها مهدت لظهور حركة ستترك تأثيرها الكبير على التطور الفني والأدبي في القرن 20 كله، ولا يزال تأثيرها مستمرا إلى الآن بأشكال مختلفة في الكثير من أعمالنا الأدبية والفنية، ونعني بها: الحركة السريالية. الحركة السريالية هي نتاج العالم الذي فقد توازنه بعد أهوال الحرب العالمية الأولى، فمقابل الواقع الذي بدأت قيمه تتهاوى، كان على الكتاب والفنانين أن يجدوا معادلا يعيد التوازن للإنسان على المستوى الفكري والنفسي.
من هنا ولدت السريالية كضرورة أدبية وفنية لإعادة الاعتبار للذات التي طحنتها ماكينة الحرب، أو حولتها إلى مجرد أداة لتدمير الآخر، الذي صورته الماكينة السياسية والإعلامية باعتباره عدوا مجردا، شبحا منزوعا من أية قسمات إنسانية. وعلى مستوى كل بلد من البلدان المتحاربة، انسحبت الذات الإنسانية إلى الخلف وسط الهيجان الجماعي، واستغلال السلطات حالة الحرب لتقييد الحريات الشخصية والعامة. ومن هنا، يمكن تعريف السريالية بكلمة واحدة: الحرية. إنها حركة ضد البوليس الفكري بكل أنواعه، سواء أكان نابعا من دواخلنا أم من الشروط الاجتماعية. لا شيء مقدس عند السرياليين مثل حرية التعبير. لكن هذه الحرية لا يمكن تحقيقها من دون التخلص من الرقابة العامة، والرقابة الذاتية، رقابة الوعي الذي استبطن كل المحظورات التي فرضها المجتمع، وللتخلص من هذه الرقابة، دعا السرياليون إلى تحرير العقل الباطن من كل الشروط التي تحول دون انعتاقه. إن الحقيقة، بالنسبة للسرياليين، تكمن في لا وعينا، والتاريخ الطبيعي يكمن في أعمق أعماقنا إذا استطعنا أن نزيح عنها التراكمات الذاتية والاجتماعية، وتخلصنا من التصنيفات الثابتة والتحليلات المنطقية، أو التي تبدو لنا منطقية.
ومن هنا، اختلفت السريالية عن الدادائية اختلافا جوهريا يكمن في احتفائها بالإنسان وقدراته الخلاقة، وبذلك يمكن القول، إنها كانت برنامجا حياتيا للتغيير وليس مجرد مدرسة أدبية أو فنية، فلا غرابة، إذا انخرط قسم من عرابيها الكبار فيما بعد في النضال السياسي، وخصوصا اليساري، إذ انتمى لويس أراغون وبول إلوار وبيكاسو فيما بعد إلى الحزب الشيوعي. وأقام عرابها الأول أندريه بريتون علاقة جيدة مع اليسار الفرنسي، وارتبط بصداقة وثيقة مع ليون تروتسكي، قائد الجيش الأحمر الروسي آنذاك، قبل أن يصاب، مثل كثيرين غيره، بخيبة أمل كبيرة من المسار الذي اتخذته ثورة أكتوبر الروسية. وربما بسبب الشعور الداخلي العميق بالحرية، وعدم الفصل بين الذاتي والموضوعي، أنجبت السريالية عددا كبيرا من أعظم كتاب وفناني القرن 20 مثل أنطوان آرتو، وبابلو بيكاسو، ولويس بونويل، وألبرتو جياكوميتي، وماكس أرنست، ورينيه شار، ولويس أراغون، وبول إيلوار.
وعلى مستوى النتاج الإبداعي الفردي، لا يمكن أن نغفل عملين، أحدهما شعري والآخر نثري، ربما ما كانا أن يولدا لولا الواقع المفجع الذي ولدته الحرب، وأثرا على مجمل النتاج الأدبي في القرن 20، الأول صدر بعد أربع سنوات من انتهاء الحرب العالمية الأولى، أي في 1922، وبعد 12 سنة من إعلان فرجينيا وولف عن مولد الحداثة في بريطانيا، ونقصد به «الأرض اليباب» لـ تي. إس. إليوت، هذه القصيدة التي أصبحت علامة فارقة كبرى في الحداثة الشعرية، ومنها العربية، عرف عنها د.لويس عوض عام 1968 في مجلة شعر اللبنانية، ثم ترجمت عدة ترجمات، أهمها في رأينا ترجمة د. عبد الواحد لؤلؤة.
أحدثت «الأرض اليباب» ضجيجا هائلا، ربما لم تحدثه مدرسة شعرية كاملة، والحقيقة، أن هذه القصيدة هي مدرسة بحد ذاتها، كل دمار الحرب، اجتماعيا وأخلاقيا ونفسيا، وما نتج عنها من انهيار قيم ظلت راسخة أجيالا طويلة، وعدم اليقين بالحاضر والمستقبل، وتشظ بلا سبب مفهوم، كل ذلك تجسد في هذه القصيدة الطويلة – كان إزرا باوند قد اختصرها إلى أكثر من نصفها – وقد وظف إليوت كثيرا من الأساطير القديمة، اليونانية والرومانية، والشرقية لتجسيد هذا التشظي، مستفيدا من كتاب «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر، بالإضافة إلى إدخال مفردات من لغات أخرى، وخصوصا الإغريقية والرومانية. والقصيدة عبارة عن قطع يبدو أن لا علاقة ظاهرة بينها، ولا نموا عضويا ينتظمها، لكن يوحدها، في النهاية، الموضوع العام الذي توحي به القصيدة عبر استخدام ما أسماه إليوت نفسه بـ«المعادل الموضوعي»، ويعني به أن على الشاعر الحديث، بعكس الشاعر الكلاسيكي والرومانتيكي، ألا يعبر عن عواطفه بشكل مباشر، بل عبر إيجاد «مجموعة من الأشياء، وضع، سلسلة من الأحداث التي ينبغي أن تكون الصيغة الفنية لهذه العاطفة المطلوبة، بحيث تستثار العاطفة مباشرة بمجرد أن تعطى هذه الحقائق الخارجية المحددة في التجربة الشعورية».
والعمل الثاني هو رواية «يوليسيس» لجيمس جويس، التي صدرت في العام نفسه الذي صدرت فيه قصيدة «الأرض اليباب» 1922، وهي الرواية التي أقامت العالم الأدبي ولم تعقده بعد، رغم مرور هذا الزمن الطويل على صدورها، وقد صرف جويس سبع سنين في كتابتها، لكن زمن الرواية لا يتعدى 44 ساعة، ولم تترجم هذه الرواية الصعبة إلى العربية إلا بعد 60 سنة على صدورها، وأنجز الترجمة د. طه محمود طه، وترجمها حديثا د. صلاح نيازي.
______
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *