أبوظبي.. شرفات ترشف القهوة من دلة القمر..!



لينا أبو بكر *
( ثقافات )


اذهبي إلى الجحيم أيتها النوافذ الضيقة!

إلى مدينة الشرفات خذوني معكم. فقد أصبح الآن عنديَ شرفة!

المدينة التي تبني في كل بيت شرفة، تنجب من كل سماء شاعرا.

ومن كل نجمة قصيدة.

المدينة التي تأخذ قيلولتها على سرير المساء، تسامر بيت الشعر بربابة اللغة، وتشرب نبيذ قهوتها من دلة القمر!

والمدينة التي تسهر مع الكواكب، تتهدل كسدرة منتهى من آنية الجنة!

أنت هنا إذن، جار السماء في مدينة الشرفات!

سارقة الشرفات

وإنها الشرفات.

آهلة بمدينة لها في كل شرفة بيت، كأن البيوت ثكنات سماوية تخفق فيها الشرفات كالرايات، والكراسي الخشبية أبراج فلكية تسبح في أفق يتصاعد من فناجين قهوة معتقة بريق الغسق، تراودك عن نفسها، حتى لتقد قميص السماء من دبر كي تختطف من بحرها شرفة هي حورية المكان!

السرقة صك اعتراف بالفضيلة!

لقد سرقت من كل سدرة شرفة، وجبت الشوارع والناس نيام، تسلقت حبل النجوم، خطفت إطلالة البحر، وتركت دم الرضاب على فناجين قهوتهم هناك، ثم عدت إلى لغتي، كي أؤنس القصيدة بما أوتيت من إطلالات!

ساعة لغة

الشرفة بين المجاز وبين الحقيقة، مساحة رحبة تنطوي على دلالات شعرية ونفسية تتجاوز النسق المعماري إلى التقنيات التأملية التي يتيحها، والانزياحات التركيبية التي تقف على طرف الحياد بين مجازين، وتلك خاصية اللغة التي تستلهم من المخيلة واقعية الإحساس، حتى ليصبح المجاز حاستها الأم، والواقع افتراضها السخي، وبين هذا وتلك أنت في “أبوظبي” مدينة الشرفات!

(يا أم الذكريات، يا سيدة العشيقات، يا أنت يا كل ملذاتي.

الأمسيات على الشرفة تحتجب بالضباب الوردي.

كم جميلة هي الشمس في الأمسيات الدافئة، كم سحيق هو الفضاء، كم قوي هو القلب.لا تلم بودلير حين يغلف حجر القلب بهذا الدفق الوجداني الرقيق، لأن الحالة الشعرية مستوحاة من طقس الشرفة، ساعة اللغة التي يسير عقربها بين مشهدين: (الليل أمسى أكثر عمقا كأنه جدار) و(ترتفع الشموس التي تجدد شبابها إلى السماء/ بعد أن تستحم في أعماق البحر السحيقة).

بالتالي فإن الاستعارة النفسية لهذا النسق المعماري قائمة على تقمص إطلالته، لترسيخ اللحظة الشعرية.

تخطيط معماري

البيوت ليست أكثر من كماليات احتياطية، قد يستغني عنها شاعر صعلوك عندما يجد فسحة صغيرة للقفز من فوق شرفة سامقة نحو لغة تتقن فعل السقوط إلى أعلى، مما يجعل من التخطيط العمراني في البناء اللغوي نسقا هوائيا، خاضعا لإمكانيات تلاقح الدلالة مع عناصر السماء، دون أن يتخلى عن مرونته التي يعدل بها مساره حسبما تقتضي الظروف، وهنا بالضبط يتبدى إعجازه الإبداعي، فبيته الشعري بيت مجازي لا أكثر، يروض مبناه الصارم بمعناه المقاوم للتضخم اللغوي، إذ يخضعه إلى حلول هندسية، قوامها الاستغناء عن العشوائيات الفائضة، وأزمة الاكتظاظ العاطفي، مع ترجيح اللاوعي، دون إنكار ما أقره “بول فاليري” حين اعتبر الكتابة محض وعي تام.

التصميم المعماري يحتاج إلى إدراك، يستوفي حاجات الشاعر الظرفية والإبداعية ضمن خطة زمنية لا تستهلك موارده الفطرية، وتلبي بالضرورة نزوعه إلى الحرية بعد استنفاد مضامين الخطة الشعرية، ففن التشكيل البصري للكتابة منوط بشرط تأملي، يخفف من ثقل التراكم الحجري، تماما كما يعبر عنه فن العمارة الذي يستعين بالشرفات لردم هوة العزلة دون المساس بحرمتها الإبداعية!

شرفات غجرية

هي أندلسية الطبع لا التطبع في قصيدة فيدريكو جارثيا لوركا، لأن متعة الناظر إلى طبيعة الأندلس في القصيدة العربية تكمن في العثور على لغة كاميراتية، يلتقط بعدستها عين المكان، بمشهدية احتفالية وأخرى رثائية، تشي بتأملات صورية تعمق الانفعالات النفسية، وهكذا لوركا، في أوج انهياراته الداخلية، أو انفعالاته الوجدانية المركبة يستعير آلة التصوير الأندلسية، ليمارس فعل المعراج إلى شرفة الانتحار في القصيدة: (من فوق الشرفة رأى برجا/ وأحس بأن نفسه تلك الشرفة وذاك البرج)، فتماهيه مع حالة الشرفة ما هو إلا تقاطع كاميراتي مع الإطلالة، وفي هذا ارتقاء مستوحى من مكانية الشرفة في البناء، مما يؤكده في قصيدة وداع، حيث تطل الحياة من عمق الموت: (عندما أموت أترك الشرفة مفتوحة/ الفتى الصغير يأكل البرتقال/ أستطيع رؤيته عبر شرفتي/ المزارع يحصد القمح/ أستطيع سماعه عبر شرفتي).

إذن.. الموت غير متحقق فعليا لأن الوداع ناقص، ما دامت الشرفة هي الحاسة اليقظة عند الشاعر، وأحد أهم أعضاء الوجود الحركية، التي تتمم إحساسه بالوجود.

إنها اكتمال الحياة بعد الموت.

البناء في مدينة الشرفات مستمد من هذه الرؤية الشعرية الكاميراتية، فالهندسة عامل حيواتي، يجعل منها إطلالة على الحضور حتى في ذروة الغياب، إنها تكريس للبقاء، سلخ من ملكوت العتمة إلى عوالم الصورة.

إنها بصيرة البصر، حتى لو بلغ الشاعر عنان الحزن في قصيدة البكاء: (أغلقت شرفتي/ لأني لا أريد أن أسمع البكاء/ إلا إن وراء هذه الجدران الرمادية/ لا شيء يسمع غير البكاء)، الصدمة الشعرية تجعل منها عامل انكشاف، فما وراء الجدران الرمادية تكمن الشرفة نفسية، بكل مضامينها، ومفارقاتها، وهو ما لا يناقض فلسفة العمران، لأن الإطلالات العمرانية تستند إلى البناء النفسي للبيوت، وأهليها، يبرهنها لوركا في قصيدة بانوراما عمياء فوق نيويورك: (لكن الألم الحقيقي ليس حاضرا في النفس/ ليس موجودا في الهواء، ولا في حياتنا/ ولا في هذه الشرفات المليئة بالدخان) فالمكان يحدد لك كيف تراه، طقسه العام هو إزميل التصميم، والنقش في الحجر، المعاول الرؤيوية لا تستعير طبيعة دخيلة، بل تتأثر طبيعتها العمرانية بمناخاتها النفسية المتأثرة بدورها بطبيعة المناخ والتضاريس والموقع الجغرافي والذاكرة التاريخية للمكان، وهذا ما جعل الشرفة النيويوركية دخانية، مكتظة بالضباب كشرفة عمياء، فائضة عن حاجة البناء، مجرد زخرفة، وليست كاميرا، ما دامت بلا عينين، مهجورة، مصفدة بالخواء مما يثير النفور منها لا الانجذاب إليها!

ألا يحيلك هذا إلى ما قاله آينشتاين مرة: (كل ما هو عظيم وملهم، صنعه إنسان عمل بحرية).

صاحبنا ألبرت هذا كان يتحدث عن شرفة مضمرة عندما قال: (يبدأ الإنسان الحياة عندما يستطيع الحياة خارج نفسه).

وفي نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للإدريسي، تكون (الأرض جاذبة لما في أبدانها من أثقال بمنزلة حجر المغناطيس الذي يجذب الحديد)، بالتالي فإن العلاقة بين اللغة واللغة في العمارتين قوامها جاذبية الإطلالة، صدق بودلير إذن لما رأى شرفة تستحم في البحر، وقد يراها شاعر آخر تركب يختا، أو ربما تحط فوق أعشاش النسور، أو ربما يراها سندباد عربي فرس البحر، وشاعر بدوي سفينة الصحراء، حينها تصير اللغة مدينة الشرفات.

شرفة الملحمة

قد تحتاج فقط إلى خيمة هي شرفة لقمر البدوي، حتى تكتب ملحمة تفوق ملحمة شكسبير الروميوجولييتية، لأن شرفة جولييت في “فيرونا” الشمال إيطالية، ما هي إلا دليل ثبوتي على مخيالية الملحمة الأدبية، مع تقادم الزمن واضمحلال الواقع أمام الحكاية الإبداعية، حتى لتلتبس عليك الأزمنة، من جاء أولا الشرفة أم الملحمة؟ من الذي دلك على الآخر؟ لن تجد جوابا سوى قبول هذا الالتباس كي تنجو بالملحمة من أحابيل الواقع، وتحتفظ بالشرفة تذكارا للغة!

الشرفة الدرويشية

شرفة درويش شرفة ذاكراتية، تكهنية، معرفية، توثيقية، مكتظة بالأساطير والتاريخ، والجغرافيا، واللغة، إنها شرفة العالم: (أطل كشرفة بيت على ما أريد/ أطل على أصدقائي وهم يحملون بريد المساء نبيذا وخبزا.

أطل على اسم أبي الطيب المتنبي المسافر من طبريا إلى مصر/ فوق حصان النشيد/ أطل على موكب الأنبياء القدامى/ على صورتي وهي تهرب من نفسها/ إلى السلم الحجري وتحمل منديل أمي.

ماذا سيحدث لو عدت طفلا وعدت إليك/ وعدت إلي/ أطل على ما وراء الطبيعة.

على المفردات التي انقرضت من لسان العرب/ أطل على لغتي/ أطل على شبحي قادما من بعيد).

الشرفة عنده مشحونة بالموروث الذي يحدد خصال الهوية الإبداعية، ويحفز اللغة على استحضار المكنون العاطفي والمخزون المعرفي للشاعر، عبر إصرار إرادي حر على اختيار الشرفة “تلسكوبا” يرصد التحولات الزمنية والتاريخية بعين اللغة!

وشرفات. شرفات. شرفات.

هي المدينة، التي تسند سماءها إلى مقعد شعري يطل كعرجون قديم من شرفة اللغة، يطل.

يطل على ما أريد!.


– الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *