الإيرانية أبنوس شلماني: أحرقتُ الحجاب لأن جسدي حرٌّ لكنه مستهجَن في الفضاء الإسلامي


حميد زنار *


أبنوس شلماني فرنسية من أصل إيراني، مخرجة ومنتجة أفلام قصيرة وصحافية، ترفض أن تكون مجرد ضحية صامتة من ضحايا الخمينية والحرب والمنفى. اختارت الكتابة لكسر جدار الصمت، على ما قالت في هذا الحوار. في “الخميني، الماركيز دو ساد وأنا”، تحليل عميق لداء التطرف الديني، من طريق العودة إلى الذاكرة وسرد التفاصيل ومساءلة الواقع.

■ لماذا كانت ثورة الخميني مهووسة بفرض الحجاب، وجنسنة حتى أجساد الأطفال؟

– هل الخمينية هي المهووسة بهذا الفرض، أم هو بالأحرى تقليد إسلاموي؟ لا يختلف ملالي إيران عن “الأخوان المسلمين” في الرغبة الجامحة بشطب جسد المرأة. حدّت كل الديانات، عموماً، من حرية الجسد الأنثوي في الفضاء العام. يبقى حضور جسد المرأة مستهجناً في الفضاء الإسلامي، ويبقى هاجس الرجل المسلم المركزي. فما دام جسد المرأة ينعم بالحرية فكأن هذا يعني أن سلطته في خطر. الهدف من فرض الحجاب وسيلة استعراضية لتأكيد الانتماء إلى الإسلام ومطالبة الآخرين بالاعتراف بذلك. هو تأكيد علني لدونية المرأة، سياسياً، اجتماعياً، وثقافياً. ما هو الخطر المحتمل في جسد فتاة في السادسة حتى يغطّى بهذا الشكل؟ لماذا الذعر؟ بفرضهم الحجاب على الصغيرات مثلما يفعلون مع النساء جميعاً، يضعون أجسادهن في مستوى البالغات. هكذا يجنسن وهنّ في سن الطفولة! جسد يُستَر ويُغطى بهذا التشدد، لا يمكن أن يجلب سوى نظرات الاشتهاء وتأجيج رغبات الناظرين؛ في حين لا جنسانية في جسد طفلة صغيرة! يحزنني ويغضبني جداً رؤية الخمار والحجاب على رأس طفلة بريئة لا علاقة لها بإيديولوجيا الكبار. أما بالنسبة إلى النساء البالغات، فكل خصلة شعر تمرّدت على سلطة الحجاب الأسود ستستدعي في الحال رد فعل شهوانياً. هكذا، فمحاولة المتديّنين تغطية المرأة، تجنسن جسدها بإفراط. يركن الحجاب المرأة في المجال الخاص، فيحرمها من حقوقها ويحولها إلى ضحية مختصرة في مجرد جسد. حينما يُفرَض الحجاب يتحول إلى سجن.


■ … وحينما يأتي الحجاب نتيجة اقتناع؟

– يكون في هذه الحالة اختياراً مبرراً باقتناعات تناقض مبدأ المساواة، أو يكون اتجاهاً سياسياً يبتغي فرض نظرة تقليدية إلى الوجود. في الحالتين تكون النساء هنّ الخاسرات، حتى وإن كان اختيارهن.

■ هل الاختلاط والحداثة متلازمان؟

– أعتقد أن المجتمعات غير المختلطة هي الأكثر عنصرية. انظر في مصر: لم تسلم من التحرش والاغتصاب في الشوارع والحافلات، لا المتحجبات، ولا المتقدمات في السن، ولا حتى الصغيرات. هذا كله نتيجة غياب الاختلاط. تحت نظام التمييز الجنسي، يكون الناس عاجزين عن التمييز بين الخير والشر. يصبح الأمر شكلاً من أشكال الجنون: “هذا الجسد الذي حرِّم عليّ منذ الطفولة، والذي كان خطراً دائماً، ها هو أمامي، في متناول يدي، أمام رغباتي المكبوتة، سأستولي عليه من طريق العنف”. الاختلاط هو مدرسة لتجاوز الاختلافات الجنسية، لتجاوز الشهوانية المريضة وقبول الآخر كإنسان وليس كوسيلة جنسية. هو الطريقة الوحيدة التي تعلّم العيش من دون أن يتخيل أحد أن جسد الآخر محرّم، وأنه شرفه أو ملكيته. لا يمكن لأي كان الزعم أنه حرّ إذ حرم زوجته، ابنته، أو أمه، من الحرية.

■ تقولين: “كنت عاجزة عن التأقلم، لم أكن أرغب أن أشبه كل الأخريات. كنت أريد أن أكون عارية”. هل العري فعل ثوري؟

– العري في ذاته ليس فعلاً ثورياً، ولكن يمكن أن يكون كذلك في ظروف معينة. حينما نشرت الشابة علياء المهدي صورتها عارية، أرفقتها بنصّ نددت فيه بالنفاق وممارسات المجتمع المصري التمييزية وختمته: “أملك جسدا”. هذا فعل ثوري، إذ يصبح العري مقاومة للحجاب، في بلد يحاول فيه الملتحون اختزال المرأة إلى مجرد جسد. لو كنت مكانها لكنتُ كتبتُ: “أملك جسداً سياسياً”. العري في الإعلانات، لا علاقة له إطلاقاً بالفعل الثوري. ولكن أن تكشف امرأة على صدرها في بداية القرن العشرين في أوروبا، فهذا بمثابة تحرير للجسد الأنثوي، يفتح في وجهه الطريق للتحرك، ومن هنا هو فعل ثوري. ولأن جسد المرأة كان دوماً ضحية المنع والتحريم، يمكن أن يكون العري سلاحاً لتدمير التقاليد المتكلسة.

■ كيف عشت اكتشاف ما تصفينه بـ”غراب في المترو”؟

– كانت تلك صدمة كبرى، إذ لم أكن أتجاوز الثامنة. أتذكر إلى اليوم ذلك الإحساس بالخوف الذي انتابني، وتلك الدهشة! كنت وصلتُ لتوّي هاربة مع عائلتي من إيران الخميني، ولم يكن يخطر في بالي البتة أن أرى لا “الغربان” ولا “الملتحين” في فرنسا. لم أفهم شيئاً حينما وقعت عيناي على امرأة تحت قماش أسود داكن. كنت أظن أن الحجاب مرتبط بالخميني وثورته، بالدم والدموع. حتى اليوم لا أزال أستغرب الأمر، ولو أن عدد الغربان بات في تزايد. في الأحياء الإسلامية في فرنسا، من الصعوبة أن تنجو فتاة من ارتداء الحجاب، جراء ضغط المحيط الإسلامي. يؤسس الحجاب ضمنياً في الفضاء العام مقياساً خاطئاً للفضيلة والأخلاق: فإن كان يُنظَر إلى المتحجبة على أنها ذات فضيلة فكيف يُنظَر إلى مَن تلبس تنورة تكشف فخذيها؟

■ وماذا عن الخميني؟

– هزّ قلوب الإيرانيين بتأكيد قيمتهم الحضارية. كانت قوميته قوية كإيمانه الديني. وكانت الحرب ضد العراق عاملاً حاسماً في ترسيخ سلطته. ثم عمل على إيهام الناس بأنهم كلما ذهبوا بعيداً في تطبيق الشريعة أصبحوا أحراراً وأعزاء. يا لها من سخرية!

■ كيف يمكن مقاومة الأصولية من طريق الأدب الإباحي؟

– الأدب الإباحي كما تقول، يعيد النظر في كل وجوه السلطة والأحكام المسبقة التي ترتكز عليها للبقاء. يقدّم هذا الأدب نماذج من رجال ونساء يسيّرهم الجشع والنفاق ويستعبد الناس البسطاء. تخترق كل أدب القرن الثامن عشر الإباحي إرادة كسر المألوف وفسح المجال لتحول الرعايا إلى مواطنين. أجد هذا الأدب راهنياً، إذ يقدم للرعايا العقل، وهو السلاح الوحيد القادر على تحريرهم. ولا يمكن استخدام العقل من دون ممارسة الشك، وهذا ما يناقض كل الديانات. الرائع في هذا الأدب هو أن الشخصيات تمسك بيد القارئ، تهذّبه وترافقه حتى الوصول إلى قبول الحرية. يبدأ كل شيء عبر بطل (في أغلب الأحيان بطلة) يستمع مصادفة إلى حديث أو يكتشف كتاباً، فيتغير كل شيء في حياته. شيئاً فشيئاً، يبدأ في النظر إلى العالم الذي يحيط به بعين جديدة. ويكتشف أن الممنوعات ما هي سوى التبرير والترسيخ للحكم المطلق، وأن حرية مشروطة ليست بحرية. في نهاية الرواية يكون البطل حراً لأنه اختار. تبقى ممارسة حرية الاختيار هدف كل أبطال الرواية الإباحية. وهذا أمر قابل للتعلم. أؤكد هنا أهمية الجسد في هذا الأدب. ينبغي للجسد والعقل أن يتحررا معاً، وهذه ميزة كانت أساسية بالنسبة إلى البنت التي كنت تحت الحجاب الإسلامي. لم يكن جسدي (الجسد الأنثوي) فاحشاً، خطيراً، محدداً. كان حرّاً وأنوفاً. ولذلك أحرقتُ الحجاب نهائياً بعد أن كنت قد خلعته منذ مدة. من البديهي أن تمجيد الجسد هو هجوم حقيقي على مبادئ الكنيسة والمسجد.

– النهار

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *