
*علي العائد
قد يكون الخراب نوعاً من المطهِّر، وقد يكون نوعاً من العقاب، حسب بعض مرويات التوراة والعهد الجديد.
في حال دمشق، الخراب لم يكن يوماً واقعاً، حتى في حالات تعرضها لاحتلالات كثيرة، ولكوارث طبيعية، وظلت دائماً عامرة وعابرة للتواريخ، ولهذا السبب وصفها علماء التاريخ والآثار بأقدم عاصمة في العالم.
أما دمشق نوري الجراح ففي مقام آخر، تقع بين الشعر والميثولوجيا، وتتردد بينهما، تعبر من هناك نحو حاضرها الغامض المحاصر بأوهام الديكتاتور عن أبدية لن تكون؛ وحدها دمشق أزلية أبدية بين المدن، ووحدها الحمامة التي ستدل نوحاً إلى البر بعد انحسار الطوفان.
يكرر الجراح في مجموعته «يأس نوح» المؤلفة من أربع قصائد، لازمة: «نزل الغزاة من المغيب»، كاشفاً أن المجموعة، وقصيدة «يأس نوح» تحديداً، تتنبأ للغزاة الجدد بالأفول مع المغيب، كما قدموا من ظلمة ما.
وبوضوح لا يحتمل التأويل، يعبر الشاعر من باب الفراديس إلى الربوة، وإلى يمينه سفح قاسيون، مازجاً جغرافيا حاضر دمشق التي في ذاكرته بميثولوجيا عتيقة تضعها في المقام الذي تدل عليه حجارتها، وبموروث غير تاريخي يتواتر في الشراكة بينها وبين البنفسج والياسمين «تنام دمشق على اسمها، ويلمع في نومها السيف/ كتبت نشيدي على حبة القمح في قاسيون/ وفي باب الفراديس كان الخلود يتيماً يهيم على وجهه/ ويلهب ذاكرة الصيفِ./ والبنفسجُ،/ يسأل إخوته عن شقيق/ قضى/ دمهُ في المغارة صوت الشقيق إذا ما تقلبَ،/ في دمه،/ وفي/ ما/ مضى/ والشقيق ارتضى/ أن يكون الزمانْ» ص 13.
دمشق، هنا، مقدمة للسياسة التي عبرت بدمشق القهقرى، راجعة بها إلى زمن السيف الأول الذي حاول أن يغيِّبَ إرادتها كرمز، وحاول أن يسلبها مكانتها كسيدة للعواصم.
لعل هذا ما دعا الناقد صبحي حديدي لأن يكتب على غلاف المجموعة «الجراح شاعر حداثي من رأسه حتى أخمص قدميه،… قصيدته عمل رفيع يتوسل جماليات الشعر أولاً، بل لعله لا ينساق إلى اعتبارات أخرى غير كتابة قصيدة فائقة القيمة، عالية التعبير، جديرة بواقعة عظيمة الشأن مثل الانتفاضة السورية».
فالجراح مشغول بالشعر، غير أنه لا يتوسل الجمال خارج المعنى، وخارج لغة الناس، بل في قلب ضمائرهم التي تهتز لدمعة طفل، أو ضحكته؛ الناس الذين يعيشون الحياة ويعيدون إنتاج الفن كمتلقين، فبغير هذا لن يكون للشعر، والفن عموماً، أي معنى، وإلا احتفظ الشاعر بما يكتبه لنفسه فقط، ليصفق لخيالاته بعيداً عن الحياة.
وفي توصيف حديدي للجراح وقصيدته، تأكيد على شيئين في غاية الأهمية، هما القصيدة الحداثية التي يكتبها الجراح، وموقفه السياسي المنحاز بوضوح مع شعبه ضد الظلم الذي لا يزال يعانيه منذ أكثر من أربعين شهراً، بل منذ أربعة وأربعين عاماً «هذا حصان الشام، يا شام افتحي الأبواب/ بردى على فرس/ وفي الشرفات ينتحب الغيابْ» ص15.
يتوسل الجراح، أيضاً، في بعض مقاطع القصيدة التي حمل الديوان عنوانها مفردات ثقافية ذات بعد توراتي، لكنه ظل أميناً لذاكرته الخاصة قبل أن يغادر البلاد منذ أكثر من ربع قرن، مازجاً بين حنينه ذاك وبين تلك الرموز، عاتباً على الساحل الذي صدر الحرف للعالم أن يكون جرحاً في صفاء النشيد السوري «أنا المدينة والبابُ،/ وفضةُ الصفصاف في الساقيةِ/ أنا كتف السماء/ ممزقاً/ والآس الذي شَكَلَ الأسماء/ أنا الدمشقي، والساحل السوري جرح في نشيدي ص20»، نادباً حال دمشق العاصمة والرمز، وناطقاً بصوتها «أ/ يا/ موتُ/ أما شبعت ضرسك من جسدي» ص27.
احتوت المجموعة، بالإضافة إلى «يأس نوح»، ثلاث قصائد أخرى، هي «الأيام السبعة»، و»أكتب قلبي»، و»أطفال قوس قزح» بإهدائها اللافت (لأجل الصغار الذين ناموا الليلة بعيداً عن أسرَّتهم).
ويعود الجراح في قصائد المجموعة الثلاثة الأخرى إلى مباشرته السياسة بالتذكير بأطفال درعا الذين كانوا بشارة الثورة السورية «بأصابعكم التي بُترت مع الكلمات لأنها كتبت على/ الجدران تلك الكلمة/ أكتبُ قصيدتي../ قصيدتي/ صوتي الدامي/ وبصيرتي الدامية» ص124.
هذا بينما يعود حديدي للتأكيد على أن التاريخ قوة محركة للمجتمعات، في نظرة ماركسية «حيث يسجل صراعاتها المختلفة ونقلاتها الكبرى»، وهو نفسه محرك السياسةً، ومحرك السياسات الأعلى العابرة لليومي؛ وصولاً إلى الفن في عمومه، والفن بوصفه الوجه الأكثر إشراقاً كتجلٍّ بشري «الأعمال الفنية التي كرمت ثورات الشعوب من أجل الحق والحرية والكرامة، وبينها أمهات القصائد على مر التاريخ».
*كاتب وصحافي سوري/القدس العربي