رفقةُ رفقا ونون الموصل!


زاهي وهبي


نستأذن غزة الكتابةَ عن وجع آخر من أوجاعنا العربية المتكاثرة وجراحنا الغائرة المحتاجة عقوداً وربما أكثر كي تلتئم، فما يحدث الآن ليس نهاية التاريخ لكنه بالغ الخطورة لأنه لا يُدمي الحاضر فحسب بل يؤسس لمستقبل مرعب اذا لم نسارع لإنقاذ ما تبقى.

أمس ذهبنا الى دير ماريوسف جربتا في أعالي البترون اللبنانية حيث ضريح القديسة رفقا، الدعوة من رئيسة جوقة القديسة رفقا الأخت الراهبة مارانا سعد، والأمسية للفنان شربل روحانا برفقة الجوقة التي أنشد وإياها أغنيات وتراتيل تفتح معبراً نحو الأعالي وتؤلفُ سُلماً الى سماء تنحني برفق وحنو لملامسة رؤوس جبال طالما احتضنت اللاجئين اليها هرباً من ظلم وجور وعسف واضطهاد خبره مشرقنا العربي على مدار قرون بفعل طغاة أجلاف وسلاطين غلاظ لم يتورعوا حتى عن قتل آبائهم وأبنائهم في سبيل السلطة متسترين بأردية الدين طمعاً بالدنيا وزينتها الفانية.

هناك، في تلك الأعالي اللبنانية المضمخة بالقداسة تفوح أبخرة الإيمان وتتعالى صيحات الأجراس، يتردد صداها في الأودية والسفوح كصلاة سرمدية تمجيداً لما صنعته يد الله من سحر وجمال حيث الحوار أزلي أبدي بين زرقة السماء وخضرة الطبيعة، مشفوعاً بصلوات وابتهالات وتراتيل وبنذور كثيرة ليست وقفاً على المسيحيين وحدهم اذ يقصد الدير وضريح قديسته أناس من أجناس وملل متعددة مدركين أن الطرق كلها على اختلافها مُوصلة الى الإله الواحد الأحد.

لا يحتاج شربل روحانا شهادة في رقيه والتزامه الفني وسعيه الدؤوب الى تقديم موسيقى وأغنيات تحترم ذوق المتلقي وتخاطب وعيه ومشاعره في آن واحد، وقد عرف كيف يمزج بين أغنيات عاطفية ونقدية اجتماعية وتراتيل دينية جاعلاً الأمسية أشبه بصلاة جماعية تتوحد فيها الأفئدة وترتعش لها الأبدان، لكن على رغم جمال الأمسية برفقة القديسة رفقا وراهباتها وجوقتها المنشدة، كانت ثمة صورة أخرى قاسية موحشة لم تبارح مخيلتنا. ثمة مقارنة تلقائية تحضر الى الذهن بين ما نسمعه هنا ونصغي اليه بأفئدتنا قبل آذاننا وما يحدث هناك، والـ «هناك» تعني العراق والموصل تحديداً حيث تم اقتلاع المسيحيين من أرض آبائهم وأجدادهم على أيدي همج القرن الحادي والعشرين الساعين لإعادتنا قروناً الى الخلف.

تلك الليلة، في دير مار يوسف جربتا، على مقربة من ذخائر القديسة رفقا، تتأكد للمرة المليون أن الحضور المسيحي في هذا المشرق، ليس عابراً أو طارئاً، بل متجذر كسنديان لبنان وأرزه، موغلاً في حضوره وقدمه، وفي ما أعطاه على مر العصور من قيم نفيسة وجمالات آخّاذة ولقيات نادرة، وهو ليس حضوراً تزيينياً أو حتى قيمة مضافة على أهمية الأخيرة، لأنه قيمة متجذرة وجزء عضوي من أرث هذه البلاد، من ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وسيبقى كذلك مهما جار بعض مَن يريد اعادة عقارب الزمن الى الوراء ومهما أخطأ وتمادى في الخطأ بعض قادة الشأن المسيحي (الذي لا ينبغي البتة أن ينفصل عن الشأن الوطني العام) خصوصاً في لبنان المتروك بلا رأس في وطن بُترت رؤوس أحلامه.

تضافرت عوامل عديدة على اقتلاع السيحيين من مهد مسيحييتهم، فإلى داعشية البغدادي ورهطه ثمة داعشية أخرى ترتدي ربطة عنق تتمثل في غرب متوحش سياسياً و»مصلحياً» يسارع في هوى داعش فاتحاً الأبواب لمن يرغب من المسيحيين في الهجرة ومغادرة أرض أسلافه، يقولها صراحة وعلانية بلا لف ولا دوران كما فعلت فرنسا، حتى يغدو المقصود واضحاً لا يحتاج فلسفة وتحليلاً: إفراغ المشرق من مسيحييه لغايات لم تعد خافية على أحد وفي مقدمها ترك المنطقة لبراثن فتنة سنية شيعية لا تُبقي ولا تذر.

ومع ذلك، ومن وحي تلك الليلة في جربتا، سنظل متشبثين بجذور مسيحية ضاربة في أعماق تاريخ المنطقة وجغرافيتها، متمسكين بالأمل على غم مما حلّ بمسيحيي العراق وفلسطين وسورية ولبنان، قائلين: سنبقى معاً، هنا برفقة رفقا ورفاقها القديسين الذين يمنحون الشرق فرادة تنوعه وتميزه واختلافه مهما كره الكارهون، أما النون فلا نريدها سوى نون الـ «نحن» جميعاً، نون الوطن الجامع… والكنيسة معاً.

– الحياة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *