*ضحى عبدالرؤوف المل
يفتح الروائي ” وول سوينكا ” ديناميكيته الروائية نحو التفكر الإنساني في روايته ” المفسرون ” التي ترجمها الى العربية ” سعدي يوسف ” والصادرة عن دار المدى فالنظرة الانسانية في روايته تجمع بين الفنانين والمثقفين ، ومعاناتهم النفسية والاجتماعية، وما يتعرضون له فاتحا مساحات الفكر عند القارئ. ليستوعب النحات، والصحفي، والإنسان العادي ، والمرأة بكل عواصفها. كما ان روايته لم تخل من سياسة دمجها بأسلوب سلس بين الأفكار الروائية الناطقة بالحياة الاجتماعية ، ومؤثراتها السوسيولوجية من خلال حوارات دراماتيكية مبنية على معالجة روائية تعتمد على الحوار السردي. ” ان ستالين مثل الدكتاتوريين الآخرين اشترى طول العمر بحيوات بشرية. كذلك فعل هتلر . لكن طبيعة الدكتاتوريين ان يكونوا نهابين للبشر.”
رواية بانورامية متلونة اجتماعيا تظهر فئات من المجتمع النيجيري مع استثناءات برزت مع الحاج سيكوني، والمفارقات المنطقية من اجبو لكولا وسواهم من شخوص. الا ان دهينوا تمردت كما تمرد ساجو على العادات والتقاليد والمفاهيم التحررية ايضا التي أغضبت من حولهما ، وتركتهما يحاولان مكافحة صعوبات الحياة كل على حسب مفاهيمه المكتسبة من البيئة المحيطة من حولهم مع الخوض في ماهية النساء العابثات والمتقلبات، والملتزمات ببيئة معينة ليتساءل على لسان شخوصه. ” هل النساء كلهن مثل هذه قادرات على معرفة الرجال بمجرد النظر؟ قادرات على جعل داخلهم خارجهم؟” .فالواقعية في روايته امتزجت مع الحوارات المتثاقلة بتتابعها الفكري المحمل بالأفكار الثائرة على كل التقاليد ، وحتى السياسية منها ليبتدع في الرواية الفلسفة الافراغية الساخرة من نوعيات تشمئز منها النفوس الانسانية التائقة الى تحقيق العدالة الانسانية . ” الافراغية ليست حركة احتجاج ، لكنها تحتج : انها ليست ثورية ، لكنها تثور، الافراغية ان شئت القول هي الكمية المجهولة، الافراغية هي آخر منجم لم ترسم خارطته بعد، للطاقات الخلاقة”.
بناء درامي في رواية اجتماعية سياسية ناقدة لافكار توجه بها للقارئ على مدار الزمن الروائي والأمكنة الصاخبة . ليطرح فلسفته والآراء التي تثير سخطه باسلوب حواري درامي يميل الى حبك توليفات ذات استعارات وكنايات ، ولوحات جميلة رسمها بالكلمات. ليخرج من رتابة الحوارات الطويلة والتقلبات النفسية بين الشخوص التي تنوعت من نحات وصحفي وغير ذلك وكانه يشير في روايته الى فئة خاصة من الشعب المبدع الذي يحتاج الى رعاية دولة واهتمام اكبر .”حتى ذلك الاختيار هو جراء تسلط وطغيان. ان هبة الانسان الحياة يجب ان تكون منفصلة، شيئا غير ذي علاقة. كل اختيار يجب ان ينبع من داخله وليس من تلقينات الماضي . ” ان شيفراته السياسية مدموجة ضمن الحوارات التي يقدمها بحبك ساخر احيانا من المجتمع النيجيري بالذات، ومن انسانية مقتولة بيد الانسان نفسه. لتنشأ المفسرون على ايدي المثقفين ومعانتهم الغير مفهومة في الحياة.
تخضع رواية ” المفسرون ” الى انتقادات ذاتية يوجهها بفنية الحوار الروائي المتين القادر على مشاركة القارئ في العصف الذهني، من خلال الافكار التي يدسها بين التراكيب المضمونية، وبأسلوب شعبي محفوف بروح النكتة احيانا ، وبالمثل الشعبية المعروفة في نيجيريا. الا انه ترك للتكهنات المستقبلية رؤية روائية مبنية على التحليلات، وذلك من خلال بعض تلقينات الماضي للحاضر، وما ينتج عن ذلك من امور مستقبلية دون ان ينسى منح الفنون قيمة تحليلية” فإن لم تكن منحوتة المصارع واحدة من تلك الأعمال التي تحدث مرة في العمر، نتيجة تناسقات بين الخبرة والتفوق، فإن سيكوني، فنان انتظر طويلا ليجد نفسه” .
بعض المفردات او الحكمة الموجوعة من مواقف تعرض لها الشخوص ، وتركتهم بأسلوب غير مباشر قول حكمة تحمل من المعاني الحياتية ما هو ناتج عن وجع لا يمكن إزالته الا بكلمات تخفف حرقة الوجع ” القناعة ان تكسب شيئا مقابل لا شىء” . ” الثوب لا يصنع الرجال”مع الصور التخيلية التي جبلها بالمعاني. لتكون بمثابة فن يوازي فنون الصحافة والنحت والموسيقى التي منحها لشخوصه. ليبرز قوة في فنه الروائي الجامع للفنون كلها من حيث القدرة على ترك الابعاد مفتوحة من حيث التحليل والدلالات ” الامهات الحاكمات المهيآت تخلين عن كل قوتهن، وتمددن في ترتيب هندسي عند قدمبه.”لان ” وول سوينكا ” غمس المفاهيم الفنية من ادب وصحافة، وفن في مجتمع ما زال ينتقد هذه الفئة، ويسخر منها ولا يقدم لها الا المتاعب المضافة التي نقتل الأحلام، وفي ذلك تأخر المجتمعات في الدول الفقيرة او النامية.
نماذج فطرية وضعها بين يدين القارئ، ليدرك ان المواهب الفنية انما تنمو من الطفولة، وقدرتها على امتصاص الشوائب التي تقف في وجه الفنان ليكمل اعماله دون الاهتمام بالاسباب التي تجعل منه الفنان المعروف اعلاميا ، وذلك بمشهد غني بالأركان التصويرية” عليك ان تعرف الآن أني لست فنانا حقا. ولم اعتزم أن أكون. لكني افهم طبيعة الفن، وهكذا صرت أستاذ فن ممتازاً . هذا كل ما في الامر. هذه اللوحة مثلا أجبو هو الذي حرضني عليها، بدون فطنة طبعا، وكان ينبغي ان يجهد هو فيها، لا أنا لشيء واحد هو انه اقرب الى الموضوع. فهل من الهام فني يولد فجأة ويتسبب به الاخرين؟.
حبكة حوارية طويلة ، وأفكار مدها بتفاصيل حياتية وبفلسفة افراغية ايحائية نثير الضحك ، والاشمئزاز في آن، ولكنه لم ينس الموسيقى والايقاع ، وما تتسبب به من تنمية للحس. ان من ناحية الطبيعة الغناء من صوت للمطر او من حركة الماء في نهر يتأمله. ليدمج ذلك فجأة مع الفقر الذي يمنع الشعب من التذوق” طغى صوت سوبرانو على طرطشة الزيت.ايطالية ، اتحبها؟ انا احب الصوت البشري. انا اعتبر الصوت البشري أفضل آلة بعد الكمان. انا لا استمع الى مفضلياتي الا حين اكون وحيدا. فأنا قد أبكي، كما تعرف.”فهل في هذا تخفيف من عبء الكم في الافكار ؟ ام ان الفن والموسيقى والنحت، وما الى ذلك هو نوع من التركيب الروائي الهادف الى خلق استراحات ترفيهية يشعر القارئ فيها بالعالم الروائي المتكامل من حيث التنوع في الصور الحياتية التي يمدها لتشمل فئات المجتمع بشكل عام.
يتحكم الروائي ” وول سوينكا ” بشخوصه ضمن مسارات طبيعية لم يشعر القارئ من خلالها بالتحكم الروائي بالمصائر التراجيدية او حتى بالسلوكيات الغريبة في بعض الشخصيات التي قدمها عن الاخرى . ليقيم الحجة والدليل على الوجود الانساني المشبع بالفقر ، وبالاهمال الاجتماعي الناجم عن السياسة وعن الثقافات المحتاجة الى نمو او الى دعم نفسي ومادي توجهه الدولة للابناء الذين يعانون من الرشوة والفساد وما الى ذلك” بتشنج عصي على التحقق المحدد للمعنى، شعر بإحساس السلطة ذات أهمية قليلة، وأن الفعل، على لوحة الخيش، او المادة البشرية، هو عملية الحياة، مما اوصله الى الخوف المتوتر من التحقيق ” فهل من خوف بناء في الاعمال الفنية الابداعية الناتجة عن التفكر او الخوف الطبيعي؟ ام هو الخوف السلبي الذي يريد محوه وول سوينكا في روايته المفسرون؟.
المفسرون هم الشعب المضطهد الرازح تحت قسوة الاحتياج والجهل ، وعدم المتابعة للعلم او حتى صقل المواهب القادرة على حمل هوية وطنية من نوع آخر هم الاصداقاء الذين ترعرعوا في زمن واحد وبيئة واحدة ، فالفنون على انواعها ترفع من القيمة الانسانية المحاطة بالاحباطات المتكررة من كل النواحي الممكنة ولكن القارىء ثابر الى النهاية ربما ليحيا مع اجبو بعض معاناته الشبيهة بالماضي والحاضر والمستقبل ” لكنهم حملو اللوحة، وعلقوها في بهو المسرح، حيث سيغني جوغلدر، فيما بعد، ليلا. جاء السادة كلهم، ومن بينهم آل أوغازور، لكنهم انصرفوا سريعا، حين ابصروا ذبابة منزل او ذبابتين تستبقان مسرب خمر النحيل. عملية الذبح، ومذاق الخمر، مع الرائحة النفاذة للحم المشوي، حملت اجبو الى الماضي” لنشعر فعلا مع اجبو انها فنطازيا خيالية تضع القارىء امام مشهد هرب منه السادة او الطبقة المتعالية في المجتمع. ومن ثم ينتقد بسرعة السياسات بعد كل مشهد ميلودرامي ” ان سياستك الدولية او القومية لا تساوي شيئا ان لم تكن شديدا على بنية الماضي ونسيجه.” فهل نسيج الماضي هو الحبكة المستقبلية لجيل سيقرأ المفسرون ويشعر بزمانها، فيتفاعل كما تفاعل القارىء في الحاضر او الان وشعر بالاسى من مستقبل المفسرون الذي يخاف منه كل مثقف او فنان؟.
_______
*المدى