زهير أبو شايب *
أعتقد أنّ قطاع غزّة لم يوجد، منذ البداية، إلاّ ليكون جرحًا مفتوحًا في الجسد الفلسطينيّ، وأنّ اغتصاب فلسطين لم يكن هدفه حلّ مشكلة اليهود على حساب العرب، بل خلق مشكلة للعرب من خلال اليهود، وحشرهم في دائرة الألم الضيّقة، بحيث لا يعود يصدر عنهم سوى الأنين. على الفلسطينيّ أن يظلّ يتألّم باستمرار، وأن لا يتذكّر عن نفسه سوى الألم، كي يكره كونه فلسطينيّا، وإلاّ فما الداعي لابتكار (قطاع غزّة)؟ كان يمكنهم أن يهجّروا الغزّيّين مثلما هجّروا اليافيّين، وأن يريحوا أنفسهم من ذلك الوجع الّذي اسمه غزّة. لكنّهم اختاروا أن يتركوا ذلك الجرح المفتوح في خاصرتنا، بساديّة بالغة، كي لا نتوقّف عن الألم. ليس ثمّة شبيه لحياة الغزّيّين في هذا العالم. يمكنك أن تحذف الحروب المتعاقبة كلّها، وأن تبقي على تجربة الحصار، هذا يكفي. أن تكون غزّيًّا يعني أن تكون في سجن انفراديّ، يعني أن تنسى العالم وتنسى نفسك، يعني أن تمدّ يدك إلى بحرك فلا تطاوله، وإلى وطنك فلا تطاوله، وإلى جارك فلا تطاوله، وإلى الأفق فلا تطاوله. وهذا ليس له اسم سوى الموت. كان بعض الغزيّين يظنّ أنّ خروجه من غزّة هو خلاصه. لكنّ غزّة كانت تلاحقهم أينما ذهبوا. لقد أخبرني صديق لي عن شابّ غزّيّ قضى أكثر من عشرة أعوام في مطار موسكو لأنّ وثيقة سفره المصريّة انتهت أثناء دراسته في الاتّحاد السوفياتيّ، فرفضت مصر أن تستقبله وأعادته إلى موسكو الّتي رفضته بدورها، ولم تقبل أيّ دولة في العالم أن تؤويه، فبقي في المطار. هكذا، لم يعد لدى الغزيّ سوى الأرض ذاتها الّتي يقف عليها، والّتي راح يحفر فيها لعلّه يصل إلى سماء سفلى ينفذ منها، وبدلاً من أن يكره فلسطينيّته، ازداد التصاقًا بها، وحوّل الألم إلى طاقةِ مقاومة، والمكان إلى سلاح استراتيجيّ. إنّ أنفاق غزّة ليست مجرّد شرايين سريّة للتغذية.
إنّها أعصاب أيضًا لإدراك العالم الخارجي والتواصل معه. هنا تكمن عبقريّة غزّة: في قدرتها على مواجهة الموت، بدءًا من موت الجسد وانتهاءً بموت المعنى. العدوّ الصهيونيّ هو المسؤول عن تحويل غزّة من نقطة ضعف إلى نقطة ارتكاز في الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة، لأنّ الخطر، الّذي عاشــت فيه باستمرار، جعلها ـ على حدّ تعبــير نيتشه ـ تجني من الوجود أسمى ما فيه، وتتحوّل إلى أمثولة للمقاومة.
* السفير