*رجاء ملاح
يواخيم سارتوريوس (1946) من أبرز شعراء ألمانيا ومدير مهرجانات برلين، يحمل شهادة الدكتوراه في القانون، لكنه بدأ حياته المهنية كدبلوماسي على غرار أبيه. أقام في تونس ونيويورك وإسطنبول ونيقوسيا، وعمل لفترة مديرا لمعهد غوتة. نشر أربع مجموعات شعرية، كما ترجم الشعر الأميركي والفرنسي، وله دراسات في الشعر، منها «أطلس الشعر الجديد»، كما لعب دورا في مد الجسور بين الثقافتين الألمانية والعربية، سواء من موقعه كمدير لمهرجانات برلين، أو عبر مساهمة مجلة «ديوان». ومن أبرز كتب سارتوريوس «الإسكندرية سراب» الذي صدرت ترجمته العربية بتوقيع فارس يواكيم، ومختارات شعرية عن «دار توبقال» المغربية بعنوان «ما الذي يرى المرء حين يرى؟» ترجمة مصطفى السليمان، ومجموعة «فندق الغرباء» عن مشروع «كلمة» للترجمة في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، من ترجمة مصطفى السليمان أيضا.
التقينا بالشاعر والكاتب يواخيم ساتوريوس أثناء معرض أبوظبي الدولي للكتاب، وطرحنا عليه مجموعة من الأسئلة:
_________
* من المعروف أنك من المهتمين بآداب العالم الثالث، وقد استضفت عددا من الشعراء الأفارقة في مهرجان برلين الذي ترأسته أعواما طويلة، كيف تنظر إلى هذا الأدب؟
– طرحت محورا حيويا في مهرجان برلين في عام 1988، وهو أوروبا كما يراها الكتاب من الخارج. واستضفنا لذلك عددا من الشعراء الأفارقة أمثال: شينوا آشيبي من نيجيريا، وجان ماري أديافي من ساحل العاج، ونيغوغي وا ثينغو من غينيا، وغيرهم من الشعراء والأدباء. وطرحوا عددا من الموضوعات الساخنة في قصائدهم وتناولوا أمورا تخص: الفساد والعنف ومرض الإيدز وتدمير الطبيعة وتاريخ أفريقيا ومواجهة السردية ولغة الثقافات في أفريقيا. وقد أنار هؤلاء الشعراء تلك الموضوعات بشتى أنواع الرؤى، مما زاد من معرفتنا بهذا العالم الذي نبقى، نحن الأوروبيين، نجهله، كما ألقوا بدورهم نظراتهم الخاصة بعالمنا الأوروبي، وهكذا حصل نوع من التبادل الثقافي والمعرفي، وهو أحد أهداف مهرجان برلين الذي سعى لأعوام طويلة لتقريب الرؤى بعضها من بعض.
* أنت شاعر ولكنك مترجم أيضا، كيف تنظر إلى الترجمة باعتبارك ترجمت من اللغتين الإيطالية والإنجليزية؟
– تتمتع كل لغة بكم هائل من الرموز والمعاني، لذلك من الصعوبة القيام بالترجمة.. وهناك من يدعي معرفة لغات كثيرة: كالفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية، إنما تلك خدعة كبيرة، لأن اللغة ليست عارية وحدها، بل تحمل من الأساطير والحكايات والألغاز ما لا يتمكن شخص واحد من فك أسرارها وأنفاقها التي لا تنتهي. هناك نظريات كثيرة حول الترجمة، ولعل أفضل من يترجم الشعر هم الشعراء، ولكن من الصعوبة بمكان ترجمة شعراء موتى لأنك لا تستطيع أن تسألهم عن المعاني العصية والغامضة في شعرهم، بينما يمكنك ذلك مع الشعراء الأحياء، كما أن الموسيقى ضرورية للغاية في عملية الترجمة، يجب أن ننتبه لموسيقى اللغة الأخرى، ومن دونها لا يمكن القيام بالترجمة. ولا بد من توفر الأسباب الكافية لدى المترجم لكي يترجم عملا ما، أي الدافع الذاتي الحسي والمعرفي في آن واحد. على سبيل المثال، قمت بترجمة الشاعر الإيطالي جياكومو ليوباردي كانتي، الذي لم يكن معروفا في اللغة الألمانية، لأنني أعجبت بما قاله عن سعادة الإنسان، التي يؤمن بأنها تكمن في الأوهام، وهي فكرة سحرتني ودفعتني لترجمته، وهناك سبب آخر لأنه عاصر شاعرنا هولدرلن.
* كيف تختار الشعراء الذين تترجم لهم؟
– ترجمت لمجموعة كبيرة من الشعراء، وهم: جون آزبري، وإي. إي. كيمنغز، وولاس ستيفنز، وهو محرر وناشر أعمال مالكولم لاوري، ووليم كارلوس وليمز. ولكل شاعر مكانة في نفسي، وكما قلت قبل قليل، لا بد من خلق أسباب لترجمة هذا الشاعر أو ذاك، بمزيج من الظروف الموضوعية والذاتية.
* ما رأيك في ترجمة الشعراء لشعراء آخرين؟
– هذه مسألة في غاية التعقيد. قبل كل شيء، أعتقد أن الترجمة عمل مستحيل حقا، ولكنني حين أستعير كلمات الشاعر الفرنسي ميشال ديغي: كلما كانت القصيدة تعبر عن نفسها كانت ترجمتها ممكنة، واحتمالية عدم إمكانية ترجمة الشعر عارضها ألف مترجم ومترجم طوال سنوات، لذلك أقول إن الترجمة الناجحة يجب أن تعتمد على البعد الكوني الذي تحتويه كل قصيدة، من حيث المصطلح والإيقاع، وهي عبارة عن صورة لأشعة إكس للأصل كما يقول الشاعر ميشال ديغي. وبالنسبة لترجمة الشعراء للشعر، أقول هؤلاء يدمجون الأعمال المترجمة بحساسيتهم. وقد كتبت مطولا حول هذا الموضوع في كتابي «الكلمات الأجنبية» وتطرقت إلى المشكلات التي تنتج عن ذلك. يمكنني أن أذكر ترجمات انغيبورك باشمان لشعر مونتالي، وترجمات بول سيلان لشعر أوسيب ماندلستام، الذي ظهر بأنه يتكون من 50 في المائة من روحية وشعر ماندلستام و50 من روحية وشعر بول سيلان. ومن ناحية أخرى، يقول الشاعر تيد هيوز، الذي نشر ترجمات من سبع لغات: إن تقديم أي شيء من حقيبة دواء المترجم مسألة غير ممكنة. إنني أتعجب كيف استطاع أن يتجنب ذلك، أي أن لا يضفي من شعره على الشعر المترجم! ومن ثم يمكن أن نورد مثال الشاعر الأميركي والاس ستيفنسن، الذي يعتبر أصعب شاعر عملت على ترجمته، لأن هناك أربع مستويات في شعره، أولا: مستوى الفكرة، التفكير والفلسفة، وثانيا: الموسيقى، وثالثا: التنظيم والشكل واللغة، ورابعا: المحتوى الثقافي.. ويمكنني أن أورد مثال ترجمتي لشعر جون آشبي بالتعاون مع كريستا كوبر، وآشبي نفسه أصبح مترجما من اللغة الفرنسية. وهكذا.
* كنت مهتما بالعلاقات التركية الألمانية منذ كنت مديرا لمعهد غوته في برلين، هل يمكن أن تتحدث عن أهمية هذه العلاقات بالنسبة لألمانيا؟
– قبل كل شيء، كنت مديرا لمعهد غوته الذي يعنى أصلا بنشر اللغة والثقافة الألمانية في أنحاء العالم، من ناحية، ومن ناحية أخرى، عملت في المجال الدبلوماسي، الذي يهتم في جزء منه بالعلاقات بين البلدان وثقافاتها، فكنت في المكان الذي يمكنني أن أقوم بهذه المهمة. كما أن تركيا استطاعت أن تنهض بنفسها على الصعيد السياسي، وبالخصوص الصعيد الاقتصادي دون الحاجة إلى ألمانيا أو الاتحاد الأوروبي الذي سعت ولا تزال تسعى إلى الدخول فيه. وهكذا بدأت العلاقات الثقافية المتبادلة بين البلدين تأخذ أبعادا أوسع. وبطبيعة الحال، لا يمكن تصور ألمانيا، هذا البلد الواسع بثقافاته وعمقه، دون الجالية التركية المهاجرة، وهي قادرة على إنجاز ما نطلق عليه الاندماج في الثقافة الألمانية. لذلك كان من واجبنا أن ندعم المؤسسات التي تعمل على تشجيع التنوع الثقافي. ولعل سياسة تركيا الثقافية في التخلي عن تقاليد أتاتورك، وسقوط مفهوم الأمة الموحدة والانخراط في العلمانية، أديا إلى نهضتها المعاصرة، وعلى الخصوص عندما بدأ البلد يكتشف جذوره الإثنية المتعددة وفنانيه وثراء إسطنبول المتعددة الثقافات. وتتعدى العلاقات الألمانية التركية السياسة لكي تغطي قطاعا واسعا من الفنانين والموسيقيين والمعماريين والأكاديميين والمخرجين السينمائيين، وغيرهم. وعلى الرغم من العلاقات المتبادلة بين هذين البلدين، تبقى ألمانيا بحاجة ماسة إلى تأسيس سياستها الثقافية تجاه تركيا، وهي تمتلك الأدوات والوسائل الكافية لذلك.
* إذن أنتم تركزون على العلاقات الثقافية بين البلدين رغم التنوع الشديد بينهما؟
– ما يهمنا بالدرجة الأولى هو هذا التنوع الذي تتحدث عنه، هو إغناء بشكل أو بآخر، لا يوجد لدينا أهم من الثقافة في ترسيخ العلاقات العاطفية والمعرفية بين الشعوب. وكما لدينا قناة تلفزيونية مشتركة مع فرنسا تعمل وتبث برامجها باسم «آرتي»، نطمح إلى تأسيس مثل هذه القناة مع تركيا في المستقبل، وذلك نابع من أن وسائل التواصل الاجتماعي أخذت بالتنامي بدرجة كبيرة في العالم. هناك جيل جديد يتخاطب فيما بينه من خلال هذه الوسائل، بل ويتبادل من خلالها المعرفة. نحن لا نستطيع أن نقف في وجه الأساليب التقنية الجديدة التي تسلح بها الجيل الجديد، والتي تختلف عن أساليب التواصل التي اتبعها الجيل القديم.
* يعني يمكن أن نقول إنك شاعر منفتح على حضارات العالم وثقافاته المتنوعة؟
– بطبيعة الحال، الشعر كونيّ بطبيعته، وإذا بقينا منطوين على أنفسنا فلا يمكن تحقيق كونية الشعر وإنسانيته.
* ما المدن التي أدهشتك وأثارت فيك الكتابة؟
– لقد أدهشتني دمشق، فهي من المدن القلائل في العالم التي تحمل الكثير والكثير من الذكريات التي تعود إلى حضارات مختلفة ومتنوعة جدا. في دمشق تستطيع أن تمشي في طبقات مختلفة من الحضارات والثقافات، وكذلك الإسكندرية، فهي من المدن النادرة التي وجدتها مطابقة للصورة التي رسمتها في خيالي عنها من خلال قراءاتي. ولا ننسَ أن الإسكندرية كانت مركز العالم الغربي طيلة ثلاثة قرون، وهي أيضا بلد الأدباء الذين شيدوها في ذاكرتهم أمثال: لورنس داريل واونغاريتي وكفافي وفوستر وإدورد الخراط وأندريه أسيمان وغيرهم من العمالقة، ويكفي أن هذه المدينة عاشت مع رواد الحداثة في الشعر العالمي. إضافة إلى أن أسطورة هذه المدينة أدبية بالدرجة الأولى، ومكتبتها عبارة عن فردوس مفقود. ويمكن الحديث عنها إلى ما لا نهاية، ويكفي أنني ألفت كتابا عنها «الإسكندرية.. سراب». إن الإسكندرية مدينة الانفتاح والكوزموبوليتية، فالمجتمع الإسكندراني يتميز بتعدد الجنسيات والثقافات، وهو ما جعل منها مركز إشعاع حضاري متألقا، منذ تأسيس المدينة وحتى منتصف القرن العشرين. إنها من طراز المدن التي يخلدها الأدباء والكتاب والشعراء، وهي تولد على الدوام من رمادها.
* ماذا يمكن أن تقول عن الشعر العربي؟
– يمكنني القول إننا نتعلم المشاعر العظيمة من الشعر العربي، والحوار مع الحضارات والثقافات الأخرى. وهنا تكمن أهمية المهرجانات، تأتي من أنها لا تقتصر على الحضور وإلقاء القصيدة، ومن ثم الرحيل. فقد تولدت لدي أحاسيس جميلة من زياراتي لمهرجانات في كل من دمشق ودبي وغيرهما لأن التفاعل الحيوي بيننا جعلنا نعيش الآخر في صورته الحقيقية، وليس صورته النمطية التي ورثناها من الآخرين.
* ما مشاريعك الحديثة؟ حيث إنك تجمع بين كتابة الدراسات والشعر؟
– أهيأ لإصدار كتاب يتحدث عن السياسة والشعر في القرن العشرين، وهو عبارة عن دراسة كبيرة انتهيت منها قبل أشهر، وستصدر في الخريف المقبل في مدينة كولونيا.
* جئت إلى دبي في عام 2008 وشاركت في مهرجانها الذي انعقد لدورة واحدة، وأنت الآن في زيارة لمعرض أبوظبي للكتاب، كما ترجمت لك أعمال كثيرة إلى اللغة العربية، في كل من المغرب والإمارات. ما مدى اطلاعك على الأدب العربي؟
– إنني أطلع على الأدب العربي من خلال الترجمة، لأنني لا أجيد اللغة العربية، وهو أمر مؤسف لأن الشعر المترجم يفقد الكثير من جاذبيته وسحره أثناء الترجمة. قرأت لأدونيس وكتبت عنه، وقرأت بعض الروايات العربية لكل من نجيب محفوظ وعلاء الأسواني وإدوارد الخراط وجمال الغيطاني ونجم والي وفاضل العزاوي. وقد أمضيت أسبوعا في الإسكندرية مع الصديق الكاتب خالد الخميسي، وهو يعرف لغات كثيرة مما سهل عملية التخاطب والتفاهم بيننا. نحن الألمان كنا متابعين لأدب أميركا اللاتينية لسنوات طويلة، وقد أهملنا الأدب العربي كما يبدو.
_______
*الشرق الأوسط