**سعيد علوش
( ثقافات )
“لم يعد الآن ما يفصل بين الواقع والخيال غير شعرة معاوية”
عتبة
تستدعي طبيعة النص الروائي للكاتب عبد الله لغزار، قراءة تستنطق النص في ضوء ما يحيل عليه من تأويلات وتصورات، هذه التأويلات والتصورات أو ما يمكن وسمه بالمرجع الاستباقي ونظيره الاسترجاعي قد ينفتح عبرها النص على واجهات جديدة تسمح بإعادة تشكيل هيكلته ثانية وثالثة، لا سيما وأن الرواية باعتبارها شكلا لغويا يجمع بين الشعري والسردي تتميز بثنائية التشابك والتعقيد في كل مكوناتها الخطابية. إنها متن سردي بالغ التراكم على مستوى أحداثه وتعدد المسارات وتراكب نقائض الشخوص والجماعات، وتعاقب الفضاءات والأزمنة وغير ذلك… لأجل التقاط مجرى زمني اجتماعي بخصائصه النفسية والتواصلية، وعلاقته بذاته والقيم قيد التأسيس، هذا المسار الموفق من اللعب الفني قاد الكثير من الأقلام في زمننا اليوم إلى الكتابة الروائية بصفتها كراسة إبداعية تتيح إمكانات متنوعة من التعبير وتتيح مساحة زمانية ومكانية للكتابة وفسحة لتصوير الواقع.
فما هي الإمكانات السردية التي تنفتح عليها رواية فتنة السنونو؟
عتبات الرواية وجمالية الإيحاء
العنوان:
يأتي العنوان باعتباره عتبة قرائية دالة، فهو في الأدبيات النقدية يفصح عن النص ويفضحه، هكذا يأتي عنوان الرواية مكونا من وحدتين معجميتين هما” فتنة” و “السنونو”، الأولى كلمة مفردة تحيل في المتخيل الشعبي العربي الإسلامي إلى حالة من الفوضى الاجتماعية التي يغيب فيها النظام وإحكام العقل، بينما تلبسها الأدبية ثوبا خاصا يحولها إلى كلمة مثيرة، تسبح بالذهن في عوالم البحث عن مواصفات هذه الحالة. إن الفتنة في الحقيقة غواية أدبية فنية، وتستمد الوحدة المعجمية “فتنة” إثارتها بإسنادها إلى الكلمة الثانية”السنونو”، حيث تطرح في ذهن القارئ تساؤلات عدة: هل للسنونو فتنة؟ وإذا كانت فما هي؟ وكيف يمكن أن تكون؟ إن هذه المتسلسلة من الأسئلة هي التي تكسب النص الروائي قدرة على استمالة القارئ، وتتعقد بنية العنوان أكثر بكونها مجردة من أي قرينة زمانية أو مكانية(فلا نعرف قبل قراءة الرواية طبعا) أيتعلق الأمر بفتنة واقعية أم متخيلة.
فتنة السنونو إذن، عنوان يأخذ صيغة مزدوجة ذات بعدين اثنين فهو من جهة: بُعد قريب المدى باعتباره عنوان لمعرض فني حضره أبطال الرواية في مدينة البيضاء، وبُعد بعيد المدى بوصفه عنوانا للرواية ككل. يمنحنا العنوان ببعديه المثيرين قدرة على تصور أولي حول النص، كما يؤكد على الصبغة التخييلية للمحكي في النص، وهو ما تؤكده المقتبسة الأولى في النص والتي تقول” هذا النص ليس سردا واقعيا وإنما هو من نسج الخيال”.
المفارقة هنا غاية في الجمالية ففي الوقت الذي يصر العنوان في بعده القريب إلى جر القارئ نحو فضاءات واقعية ” البيضاء” المعرض، يصر الكاتب على توجيه القارئ نحو المتخيل، إن المقتبسة هنا حيلة سردية بالغة الأهمية استطاع الكاتب أن يجعلها مسخرة لصالح بناء فهوم وتأويلات مختلفة.
الإهداء:
يلح عبد الله الكاتب الروائي (الجسد من لحم ودم) على إهداء النص لروح واحدة وحيدة هي : روح محمد القاسمي
“إلى روح الفنان محمد القاسمي
في سفرها بين البني والأزرق”
يهدي عبد الله الجسد الحي روايته (النص المخلوق بقلم على ورقة بيضاء) إلى روح محمد القاسمي، فيصبح الإهداء هاهنا إيحائيا وإيحاليا في واقعيته، إنه إيحائي لأنه مهدى لشخصية فنية بارزة في علم وعالم الألوان والريشة وهي شخصية الفنان محمد القاسمي، وإيحالية لأنها تنبئنا بأن الكتابة هي لروح الفن التشكيلي بالمغرب، فالروح المحرومة من طاقتها في الواقع تجعلها الألوان تسافر في الخيال، هكذا فالمُهدى له بوصفه جثة ميتة وروحا ناطقة حية لا توجد خارج الدلالة، ولهذا فقد عمل الكاتب على مخاطبتها باعتماد قناة غير متعارف عليها وهي الانتقال من قناة اللون والفرشاة إلى قناة الكتابة والقلم.
إن الإهداء هنا ينم على رغبة متوارية لكنها أكيدة عند الكاتب، رغبة في البعث والإحياء. أعني إحياء هذه الذات المرجعية في مجال الفن عبر مخاطبة روحها النشطة في رحلة السفر بين الألوان.
المقتبسات
تحضر المقتبسات في الأعمال الإبداعية أو النقدية بوصفها نصوصا تسبق عادة متن النص الأصلي وتكون لها وظيفة توجيهية نحو النص ووظيفة شعرية كذلك. وهكذا فالانتقائية التي يقوم بها الكاتب لاختيار المقتبسات تجعل القارئ يطرح أسئلة حول السر في اصطفائها دون غيرها.
تحضر في الرواية ثلاث مقتبسات تختلف شكلا ولغة وأسلوبا، لكن الخيط الناظم بينها هو من جهة الحمولة الدلالية والرمزية لمرجعياتها: مالك حداد- ابراهيم الكوني- عبد الله زريقة، ومن جهة ثانية ارتباطها بمتن النص، إن المقتبسات هنا إلى جانب الوظيفة الشعرية التي تحققها للعمل الروائي توجه القارئ نحو التفكير في اللامفكر فيه، ففتنة اللغة تحضر عندما يعجز مالك حداد عن التعبير باللغة عن ما يشعر به باللغة نفسها، أما فتنة الحياة فتحضر في مقتبسة الكوني الذي يؤكد أن رتابة الأخطاء الصغيرة تؤدي إلى الموت، الخطأ إذن اضطراب يكسر سيرورة السلامة والصحة أما فتنة الجسد فهي في شذرة شعرية لعبد الله زريقة. تقول إن غواية اللون توقع في عهر نستطيع دون مبالغة وسمه بالعهر الفني، تستحيل معه نهضة الجسد التي هي النهضة الحقيقية.
ترتسم معالم المقتبسات من خلال هذه النصوص الثلاثة التي تتوحد ونواةَ العنوان “فتنة” فتصير فتنة اللغة وفتنة الحياة وفتنة الجسد، أقانيم ثلاثة تفتح ذهن القارئ على تأويلات عدة، وتضعه أمام غواية السرد ومأزق الكثافة الذي غذاه الكاتب بجرعة زائدة من اللون من خلال المُهدى إليه والموضوع.
شعرية السرد وسرية الشعر في العمل الروائي
يقول المجاطي” كم وجدت الشعر في صفحات كثيرة من الروايات وقليلا من الشعر في القصائد”
المتن الحكائي للرواية
تنمو أحداث الرواية من خلال ثمانية مقاطع نصية ( الغرفة والليل- مسمار في عين صورة- شاعرية التابوت- فتنة الصورة- صرخة مكتومة- أرض محروقة- العين نافذة- ظلال مشتعلة) ويبدو للوهلة الأولى أن هذه المقاطع متباينة- لكن تتباعها الورقي وتوحد الزمن والفضاء والأحداث فيها، يجعلها تنشد إلى خيط سردي ناظم وخفي يشي بارتباط متماسك، تتلخص في خمسة شبان تخرجو في مدرسة للفنون الجميلة بالبيضاء، كانوا يرغبون في تغيير الواقع التعليمي للفنون الجميلة بالمغرب من خلال إصدار بيانات خاصة بذلك ولكن سرعان ما تتقاذفهم هموم الحياة كل إلى مكان ليصير البطل وحيدا وهو واحدا من هؤلاء الخمسة بين دروب تادلة وبني ملال مواجها ظروفا مختلفة من العطالة والصراعات الاجتماعية.
شعرية الزمن
يحضر الزمن في رواية فتنة السنونو متجاوزا تقسيمه الثلاثي( الزمن النحوي- الزمن الصرفي- الزمن الدلالي)، كما يتجاوز حتى التقسيم الثلاثي المعروف نحويا، إنها كتابة خارج الزمن وداخله في الوقت نفسه، ومن ثمة فهي كتابة لها زمنها الخاص المفتوح الذي يستند على زمن الواقع.
الزمن في الرواية ليس هدفه هو تنامي السرد فقط، بل يخرق هذه الوظيفة ليصير زمنا مختلطا بالأحاسيس مفعما بالهواجس الداخلية للشخصيات، إنه قائم على استغلال اللحظة وشحنها بكل ما قد يحقق للنص كثافته وشعريته.” أجتر زبد الزمن المتختر في حنجرتي، وتحت لساني، وعلى شفتي”.
إن للنص سياقا زمنيا هو عدم اعترافه بالزمن أصلا.”هذا الليل المضاعف تلبس بحضور الغياب، وتحلل في روحي القرفة من هذا الزمن الصدئ زمن الانتظار والدوران حول الذات حتى الاختناق”.
الزمن إذن لحظة متجددة. تنصهر لحظاتها داخل بوثقة النص، فيتحول إلى لحظة تحفها هواجس الكتابة وأهواء الشخصيات، ويحفها الإحساس بالحنين والشوق، والإحساس بالضياع والغربة.
شعرية الوصف
يقوم الوصف على دعامتين اثنتين:
الأولى: هي تعطيل مؤقت للسرد وذلك بهدف تكثيف مشهد أو توصيف حالة أو رسم صورة.
الثانية: تأكيد إمكانية إعطاء الوصف إيحائية أكبر للعمل الروائي.
تحضر هاتين الوظيفتين بقوة في العمل الروائي للكاتب عبد الله لغراز، فالروائي عندما يتعلق الأمر بلحظة وصف فهو يسعى إلى إقناع القارئ بجدوى هذه اللحظة، إن الوصف عنده محطة تبريرية تقف على أهمية التقاط تفاصيل كل ما هو هامشي غير ملتفت إليه. إن هذا التوقف عن السرد ليس توقفا مجانيا أو حلية زائدة أو موضة في الكتابة، بل هو مكون أساس من مكونات السرد نقرأ في الصفحة 33 من الرواية” سعيد هذا، جسد المحنة على الأرض…وجه للجنون ووجه ووجه للحكمة، وجه للشقاء ووجه للنقاء، ووجه للقبح ووجه يفتخر بكون أبيه سماه سعيدا، ووجه للحزم وجه للهم، وجه للحلم ووجه لتاريخ الألم”
يتميز الوصف في هذا العمل الروائي الباذخ بالذاتي، مما يمنحه شاعرية وشعرية، فالوصف مرتبط بالجوانب النفسية والعاطفية للشخصيات، فهو إذن لا يسقط في إملال القارئ بقدر ما يحفزه على التخيل والبحث في الذهن عن صور للموصوف ثم إضفاء الحالة النفسية للشخصيات عليها، الوصف في الرواية إذن، فرصة تجعل القارئ يتريث في القراءة يتوقف عند تفاصيل المشاهد ليلتقطها.
“قال قاسم: قفَلْتُ الباب خلفي، ونزلت الدرجات العشرة إلى أرض متخمة بالحرّ والعطش وريح الشوم. أمام باب الإدارة المفتوح على أدراجه العشرة وعلى العراء، ثمة شجرة تين تجثم على طرف صخرة. وبعد الصخرة بمسافة قصيرة، تنحدر الأرض فجأة، فتبدو كحوض بحيرة شاسعة جفَّت منذ زمن بعيد. على طرفها الغربي، عند الأفق بالتمام، تتهيأ المدينة كنتوءات صخرية بيضاء وصفراء باهتة”
الملاحظ من خلال هذا المقطع أن الوصف وإضافة إلى تحقيقه للدعامتين المشار إليهما آنفا، فإنه يمتاز بالتفصيل وملاحقته للجزئيات الدقيقة وارتباط الموصوف الذي هو خارج الذات بهواجس السارد الذاتية.
إن هذه القدرة على الوصف وهذه الشعرية الخاصة بها في الرواية تأتي ربما -وأقول ربما- من عمل الكاتب في مجال اللون إن الصورة مجاز للواقع باللون، وهي في الآن نفسه التقاط للمشاهد بالفرشاة. والوصف في الرواية مجاز والتقاط للمشاهد بالقلم.
شعرية المحكي
إذا كان الزمن يحقق شعريته كما ذكرنا سابقا عبر ارتباطه بالهواجس الذاتية للشخصيات، والوصف عبر خرق الوظيفتين الاعتياديتين له، فإن اللغة الروائية في هذا العمل تتأبى أن تكون مجرد لغة عادية تنقل الأحداث عبر منطق التوالي، إنها لغة تتجاوز الوظيفة الإبلاغية كما هو الشأن في اللغة العادية لتصل إلى اعلى درجات الشعرية والبلاغية، عبر اعتماد الكلمة الموجزة والكثافة الجمالية. إنها لغة تستند إلى كل ما هو شعري بهدف البناء السردي للأحداث.
تنمو اللغة في المحكي مستندة كذلك إلى الألوان فنجد الكاتب يطعم الرواية بأعمال فنية عبارة عن لوحات متنوعة هي من صميم أحداث الرواية : – لوحة عنف للجيلالي الغرباوي – موت مارا للرسام الفرنسي دافيد – تفصيلة من العمل المشهور لأنجيلو المعنون ب خلق آدم – جزء من لوحة الصرخة لإدكار مونس.
استطاع الكاتب بذكاء كبير استغلال ثقافته الفنية فيما يخدم أحداث الرواية من خلال تغذيته للغة باللون بعرضه لهذه الأعمال، وكذلك بحثه عن نقطة تماس بين الإبداع الفني والإبداع بالكتابة فجعل القلم/ الريشة يرسمان بطريقة غاية في الإبداعية أحداث الرواية.
” كَتَبْتَ بقلم الرصاص على هامش ورقة في كتاب “الروحانية في الفن” للرسام الروسي”كاندانسكي”: الشعر كالرسم لكن ما معنى الرسم؟ “
إن شعرية المحكي لم تكن لذاتها بقدر ما تكتسب واقعيتها من خلال ربطها بالواقع، تصير اللغة في الرواية إذن نقدا لكل فضائح البلد بعيون السارد آو الشخصيات التي يرتسم على محياها البؤس، إنه نقد بعيون مثقفة للسياسة والإدارة من خلال رسم صورة الانتخابات و المناضل اخليفة، ثم نقد للتعليم والفقر والعلاقات الاجتماعية المبنية على الاستغلال والنفاق الاجتماعي.
تحضر اللغة كذلك ممزوجة باللهجة العامية والفرنسية، من هذه البوليفونية يستمد السرد واقعيته ومرجعيته في نقد الواقع.”بالأمس، في المقهى، كان هناك رجل يُمَرِّنُ نفسه على ركوب الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. يقول إنها الفرصة التاريخية للخروج من التعتيم السياسي الذي مارسته أحزاب المخزن. ويقول بإن حزبه سليل شرعي للحركة الوطنية في هذا البلد. وبأن له علاقات وطيدة مع أقطاب الحزب العتيد… كانت المقهى عبارة عن أرخبيلات، تتلاسن وتتساءل حول كل شيء.. عن المصداقية، وعن الأخطاء التاريخية، وعن تراجع القيادات، وعن ديكتاتورية القرار… عموما، حول ما آلت إليه الأوضاع، وحول الشجار القائم بسبب التكتلات العائلية والقبلية داخل الأحزاب وخارجها”
لقد تآزرت في شعرية المحكي كل من شعرية الزمن والوصف والحوار الذي يكون أحيانا واحدا بين السارد ونفسه وأحيانا بين الشخصيات لرصد حدة التوتر بين الشخصيات، آو لبيان انشطار ذات السارد إلى اثنين وكذلك شعرية اللغة لتقدم للمحكي في الرواية ميزته التي لن يحس بها القارئ إلا حين قراءته للرواية. نقرأ في الصفحة لبيان هذا الانزياح الراقي للغة في الرواية “
إن اللغة بالنسبة للكاتب عبد الله ليست مجرد قناة لنقل الواقع أو سرد الأحداث، بل تتجاوز ذلك إلى نوع من الحساسية في الاستعمال والتأني في اصطفاء الألفاظ والمعاني، إنه يحفر بين ثنايا الدروب ليكون النص صوتا لمن لا صوت لهم.
خاتمة
نستطيع قفل هذه القراءة بتسجيل الملاحظات الآتية:
يشكل النص الروائي فتنة السنون فتحا جديدا على الكتابة الروائية المغربية من خلال المزج دونما خلط بين ما هو شعري وما هو سردي
يتميز النص الروائي بحضور الفن أو الرسم كروح محلقة على العمل من خلال شخصية المهدى له والتكوين الأكاديمي للسارد وموضوع السرد
يمتلك الكاتب عبد الله لغزار لغة روائية متخمة بالدلالات، مليئة بالإيحاءات، طافحة بالمجازية، قادرة على رسم صورة الواقع بالكلمة الدقيقة.
هذا ويحق لي من باب الإنصاف وبعيدا عن كل محاباة أن أقول إن الرواية تستحق أكثر من قراءة، وأنني مهما استفرغت جهدي ووسعي فيها فلن أبلغ الكمال، وأنها تستحق أن تكون العمل الروائي الأضخم في هذه السنة، ونتمنى أن يلقى العمل صداه الذي يستحقه.