قمح الكلام وزؤان الكتابة!


*خيري منصور

كي لا نتورط مجددا بما ينبغي التحذير منه، فإن ما اعنيه بهذا العنوان ليس مقاربة انثروبولوجية حول نشأة الكلام باعتباره امتيازا آدميا، بل هو البعد المزدوج اجتماعيا وسياسيا لثقافة الزجر وتربويات يحكمها عُنصران تقليديان هما الاحتراز والتجنّب، الاحتراز من التأويل الذي يصل حدّ التقويل وبالتالي العقاب، وتجنب ما هو اشكالي او ذو صلة بأعراف وتقاليد لها نفوذ السّلطة، وبعيدا عن غربال ميخائيل نعيمة التي يفرز الجيّد من الرديء في الأدب، فإن قمح الكلام الذي أعنيه هو المساحة اللامحدودة المتاحة للّسان كي يهمس أو يبوح، مقابل المساحة الضيّقة المتاحة للكتابة، لكأن التدوين تكريس وبه ظلال من القداسة في ثقافة لعب الشفوي فيها دور البطولة.

وما لفتني الى هذه الثنائية، اي قمح الكلام وبالتالي أرغفته وضرورته مقابل زؤان الكتابة المطرود من الغربال ومن عالم الضرورة الى عالم الفنطازيا هو ان ما نقوله لبعضنا او لأنفسنا لا يتسرب منه الا القليل في الكتابة، ولو كتبنا كعرب واحدا بالألف مما نتكلم به لكان المشهد على غير هذا النحو، ولما كان أدبنا وحتى سيَرنا الذاتية بهذا الوقار والتدجين، فالمسكوت عنه والمتروك اضعاف المنطوق به، والمنطوق به ايضا هو اضعاف المكتوب او المدوّن.
لقد حرمنا قمح الكلام من ترجمة نصوص عالمية لأنها مصنّفة في خانة الزؤان خصوصا ما تعلّق منها بالثالوث المحظور وهو الدين والجنس والسياسة، لكن ليس بالمعاني المتداولة لهذه الأقانيم بل في العمق الذي يفتضح التواطؤ، ويبدو ان هناك امثلة تحولت الى فزّاعات في طريق الكاتب العربي منها محاولات لصادق العظم وسيد القمني ونصر حامد ابو زيد، فالأول تعرّض للمحاكمة ومصادرة كتابه نقد الفكر الديني، والثاني تلقى تهديدات بالقتل اوشكت ان تشلّ قلمه ولسانه معا، اما الثالث فقد لاذ بالفرار بعد ان هُدد بعقاب مزدوج، يبدأ منه ولا ينتهي الى الطلاق القسري من زوجته.
ان خطورة الاساليب التي عومل بها هؤلاء ليست في تعرضهم لمصائر تراجيدية فقط بل في توظيفها لردع واجهاض محاولات اخرى في مجتمعات يتحكم في ذهنيتها القياس على حساب الاجتهاد والمبادرة.
٭ ٭ ٭
قمح الكلام هو مؤونتنا اليومية، وعلى مدار اللحظة، فهو سجل انفعالاتنا وردود أفعالنا كما هي، وقبل ان تمرر في مصفاة، فالكاتب نفسه يتولى مثل هذه المهمة في فك الاشتباك بين المنطوق والمكتوب، ويراقب نفسه مُحتكِما الى حمولة من إرث الاحتراز تحت وطأة هاجس مزمن هو هاجس النجاة، وحين يصبح ما نتكلم به أهم وأعمق وأصدق مما نكتبه فإن الشك سوف يتسرب بقوة الى ما هو مكتوب وقد يفسر هذا الى حدّ ما أزمة الثقة المتفاقمة بين القارىء العربي والمقروء، وهناك عبارة تختصر المسألة كلها هي كلام جرايد، وما كان لهذه الازمة ان تنشأ لو أن القليل من حرية الكلام تسلل ولو خلسة الى الكتابة، لهذا لو كان كتاب من طراز د. هـ . لورنس ومورافيا وميلر عربا لما كانت نصوصهم على هذا النحو البريّ والعصي على التدجين، لأن مجرد ترجمة تلك النصوص الى العربية تعد مجازفة، وبالرغم من ذلك تتعرض للحذف او استبدال عبارات بالنقاط وكأن الناقل مسؤول عن المنقول، ولو اخترنا من حواراتنا اليومية في شتى مناحي الحياة عينات منطوقة لأدهشنا ما فيها من بوح وصراحة، لكن كل هذه الشّحنات تتحول الى زؤان ولا تدخل في كيمياء الرغيف اليومي.
٭ ٭ ٭
حاول البعض ممن تنبهوا لهذه الظاهرة ان يعيدوا اسبابها الى ازدواجية التعبير باللهجة المحلية واللغة الفصحى، ومنهم من ذهب بعيدا وقال اننا نفكر باللهجات المحلية او ما يسمى العامية، ثم نترجم ما نفكر به الى الفصحى ! لكن هذا التفسير يبقى احاديا، وشكليا الى حدّ ما، فالكوابح التي تحول دون حرية التعبير ليست من داخل اللغة ذاتها بل من التابوات التي تحاصرها، فثمة مساحات يجب ان تبقى سرية ويكفي ان ينوب الهمس المتبادل فيها عن الكتابة، وهنا يحضرني مثال بل عدة أمثلة من الاحترازات الذي يقدم بها روائيون من العرب لأعمالهم من طراز: ان الشخصيات في هذه الرواية ليست واقعية، ومنهم من يتوغل في الاحتراز والتجنب فيضيف ان اي تشابه بين شخوص الرواية وشخوص من الواقع هو مجرد مصادفة! وقد اخبرني صديق ذات يوم انه كتب فصولا من سيرته الذاتية بضمير الغائب كي لا يلتبس الامر على اسرته ويجد مخرجا للقول بأنه يتحدث عن شخص آخر . وهذه بالطبع سذاجة تتخطى المكتوب الى المفَكّر به، فالخلل في جذر المفهوم وليس باللغة التي تحاول تجسيده، لأن لعبة الضمائر ليست الامر الحاسم في ان تنسب الوقائع لضمير المتكلم او ضمير الغائب، وهناك معالجة بالغة الاهمية وذات مقترب سايكولوجي لاستخدام الضمائر او التلاعب بها للروائي والكاتب الفرنسي ميشيل بوتور. فهل تحوّل موروث الاحتراز والتجنّب والخشية من التأويل الى نمط تفكير سائد؟ واصبح هناك تواطؤ يتلخص في عبارة واحدة، هي قل ما تشاء واكتب ما هو متاح لك ان تكتبه.
٭ ٭ ٭
كنا نتوقع من النقاد والباحثين الذين يرتدون معطف ما بعد الحداثة ان يعلّقوا الجرس، والمطلوب منهم ليس اجتراح معجزات او التحول الى كولومبوسات يكتشفون قارات المسكوت عنه واللامفكر به واللامُتخيّل ايضا، بل تسمية المجرفة باسمها كما يقول مثل انكليزي قديم.
انهم رقباء ايضا لكن بتطوع ذاتي حتى في مجالات البحوث الاجتماعية والتربوية والاقتصادية، إذ نادرا ما يقول هؤلاء لقارئهم كم هو فقير وكم هو مريض وكم هو جاهل لكنهم يعالجون التخلف بمقتربات اكثر تخلّفا . واحيانا نعقد ندوات حول الراهن العربي وبالتحديد عن اسباب التخلّف عن العصر، فتكون اوراق هذه الندوات ومداخلاتها عيّنات نموذجية لتخلّف منهجي وهذا ما انتهى اليه الحال … مريض عربي تتكسر خلايا مناعته ويحتضر ثم يقدم له الاسبرين، واحيانا نراه مسجى بلا تخدير تحت سكين يغمره الصدأ بيد حلاّق القرية !
٭ كاتب اردني/القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *