كيف نتأثر بالسيرة الذاتية للكاتب عندما نقرأ الأدب؟



*توماس مالون وآدم كيرش / ترجمة: ميادة خليل

(1)

توماس مالون*:
حياة الروائيين أقل إثارة عن ما تبدو عليه, أطول, نعم, لكنها أكثر جفافاً, بكل معنى الكلمة.
النقد الحديث دخل في شيخوخة عندما بدأت دراسة الأدب قبل 45 عاماً. وحتى في جوهره. المدرسة التي تفكر بأن نبذ استخدام السيرة الذاتية للكاتب هو مفتاح لعمله تبدو دائماً مهمة لبنية الشعر أكثر منها للراوية, هذه الفكرة قادها هنري جيمس بفوضوية وارتجال ليطلق عليها اسم: “الوحوش الفضفاضة الحرة”. 
تطبيق سيرة الكاتب الذاتية على قارئ الرواية يبدو لي مثل غش أو بذاءة أكثر منه متعة إضافة عرضية: آه, أعرف من أين جاءت هذه. معرفة عصر “ديفيد كوبرفيلد” في مستودع السيد موردستون للنبيذ يكتسب عاطفة أكثر من معرفة زمن النقد اللاذع لشباب ديكنز داخل مصنع الدهان الأسود. (“ديفيد كوبرفيلد” من روايات ديكنز المفضلة لدى فرويد، وهذا دليل آخر على عدم وجود حوادث). باختصار, نقل اهتمامنا من الشخصية الى الكاتب لا تبدد الوهم الدراماتيكي كما يحدث أمام مشاكل الشاشة لنجمة سينمائية تمنعنا من الاستمتاع بالفيلم.
في أفضل الحالات, التفسير النقدي عُرف من خلال أن السيرة الذاتية يمكنها التعمق في متعتنا العاطفية واستيعابنا الفكري للرواية عندما نقرأها. من خلال الاطلاع على مقالات أدب السيرة الذاتية ومذكرات الكتّاب الذي قمت به لهذه الصحيفة على مدى سنوات, يمكنني أن أرى مثالا تلو الآخر عن كيفية عمل الأدب الذي ينتهي مشرقاً بتسليط الضوء على حياة الكاتب.
في 2007, أدهشتني نظرية كلير تومالين في الكيفية التي وصف بها توماس هاردي موهبة تيس (بطلة روايته “تيس أوڤ ذي ديربيرڤلز”) “موهبة لا تقهر من أجل المتعة الشخصية”، ربما امتلك الحيوية من خلال إدراك الغيرة لقلة ما يتقاسمه معها من موهبة. قبل هذا بعدة سنوات, مذكرات باولا فوكس “Borrowed Finery” (أناقة مستعارة) تركتني أقل من راضٍ تماماً, لأن الكتاب كشف بشكل مثير كل الطرق التي توصل لها كتّاب الخيال من خدع الانحراف لتجارب الحياة الواقعية الموجودة اليوم.
الكثير من الروائيين ــ من ديكنز نفسه الى ويلا كاثر, الى حد التطرف, جي. دي. سالينغر ــ حاولوا التصدي لنشر السيرة الذاتية الأدبية للكاتب بعد وفاته, والتي كُتبت من قبل “أوغاد النشر” (جيمس مرة أخرى). في الحقيقة, أعتقد أن الكاتب الوحيد الذي أحتاج لشخص آخر من أجل إتمام كتابة سيرة حياته بينما لا يزال حياً هو غور فيدال. لكن كتّاب السير والروائيين عموماً أقل ضرراً من منظري ومروجي الأدب و”الدراسات الثقافية”، التي حلت محل النقد الحديث داخل الجامعات, والذين جعلوا من تلك التوضيحات السابقة توضيحات إنسانية دافئة. هناك الكثير من الفائض, للتأكد من ذلك, ضمن السيرة الأدبية: صناعة دار نشر بلومزبري المفرطة صنعت أكوام من الشبق الممل والتفاهة.
لكن هل أن فرجينيا وولف كانت ستحظى بهذا العدد الهائل من القرّاء خلال فترة السبعينات لولا السيرة الذاتية المشهورة والمكتوبة بشكل جيد جداً من قبل ابن أخيها كوينتين بيل؟
الخلاف حول وقائع السيرة الأدبية على الأرجح يخمد افتراضياً, مثل الشكل الذي يبدأ في إطفاء نفسه. حتى من بين أولئك الذين يحبونه, فان الطلب مقيّد بالتهاون: حياة الروائيين أقل أثارة بكثير مما هي عليه. أطول, نعم, وأكثر جفافاً بكل معنى الكلمة, أقل من مشاجرة متنازعة, مسلوبة بشكل أقل من البطالة التي غالباً ما تكون قدرهم قبل أن يقدم لهم برنامج الكتابة الإبداعية وظائف يومية. شيء آخر, السيرة الأدبية سوف تغيب بسبب العديد من أدواتها القديمة. مسودات الكتّاب, المخطوطات التي تُعرض, سطر بعد سطر, كيف يكتب الكتّاب ما يكتبوه, اختفت الآن مع سحبة “المسح” من قبل الفأر الالكتروني.
ومع كل المشاركات الدائمة المفترضة في تويتر والفيسبوك, استبدلت الرسائل المدروسة التي استخدمها الكتّاب لحفظها وجمعها بشكل كبير بالرسائل الالكترونية والنصوص التي لا تقلق بشأن الأرشفة. موقد الورق الشخصي الذي أشعله ديكنز في جادس هيل (بنجاح غير مكتمل) في 1860 لا يحتاج الآن حتى الى كبريت.
____________
(2)

آدم كيرش**:
لا يمكن قراءة “كبرياء وتحامل” دون تنامي شعور حي بشخصية جين أوستن وكيف تبدو.
هناك عدالة شاعرية وربما درس, في حقيقة أن الكاتب الإنكليزي العظيم فارغ السيرة الذاتية. يواصل الباحثون كتابة الكتب عن حياة ويليام شكسبير, لكن في النهاية تختزل هذه الدراسات إلى عمله أو تاريخ عصره. قصاصات الأدلة القليلة التي نملكها عنه هي ببساطة هزيلة جداً لجعله يعود إلى الحياة كفرد. بالنسبة للبعض, هذا الغياب فضيحة أو إثارة, لذا يحاولون ملأ الفراغ بالإصرار, اللاعقلانية, بأن شكسبير لم يكن شكسبير لكن إيرل أكسفورد, أو شخص آخر يمكننا معرفة المزيد عنه. لكن بالنسبة لكثير من القرّاء, أظن, أن عدم التعرف على شكسبير هو العنصر الرئيسي في عظمته. “الآخرون التزموا بسؤالنا, أنت حر”. كتب ماثيو أرنولد في سوناتته “الشاعر القبلي”, وبهذا المعنى يبقى شكسبير متقدم بخطوة عنا, ويعرف المزيد دائماً عن حياة وطبيعة البشر أكثر من ما نعرف, هذا يتناسب تماماً مع سيرته الذاتية المراوغة.
هل سنكون أفضل إذا كان كتّابنا مراوغين بالمثل؟ الجدال في القضية مغرِ, القول بأن معرفة حياة الكاتب هي مجرد إلهاء عن ما حدث بالفعل: عمله. هذا المجهول الصارم كان واحداً من مبادئ الحداثة: تي. أس. أليوت أصر على الفصل التام بين “الرجل الذي يعاني والعقل الذي يبتكر”. هنري جيمس هوّل نفس المبدأ في قصته “الحياة الخاصة”, وفيها يعثر كاتب مشهور على حوار “صوت ودرجة ثانية” في حفلة وينعزل في الطابق العلوي في مكتبه. يقود حياته الحقيقية على مكتبه. 
قصة “شبح جيمس” تعود بحقيقة أن المعلومات عن حياة الكاتب هي نفسها المعلومات عن حياة أي شخص آخر. الكتّاب يتزوجون ويطلقون, يكسبون المال ويخسرونه, يشربون كثيراً أو يبقون رصينين, مثل ملايين الناس. لكن الملايين الأخرى من الناس لا يكتبون كتب عظيمة تشير الى أن مصدر العبقرية يكمن في مكان آخر, في مكان حتى مدقق السيرة الذاتية نفسه لا يمكنه العثور عليه. مع جنرال شهير, أو نجم رياضي, أو سياسي, الحياة والأفعال تصبح مهمة, وفي سردها تُستنفذ أهمية الموضوع. مع الفنان, الحقيقة بالعكس: ما يهم هو بالضبط ما تركه عندما سُجلت أفعاله…
حتى لو تبعنا هذا المنطق الصارم الى نهايته, فسوف لن يكون هناك حاجة لوضع اسم الكاتب على صفحة عنوان كتابه. الى أن نعرف عملين لنفس الشخص, نبدأ بالربط بينهما ــ لتدوين التشابه بين الموضوع والفكرة الرئيسية, المعالجة والتقنية. وبما أن كاتب السيرة هو القاسم المشترك الوحيد بين الكتب, فاننا لن نستطيع مساعدة تطور الفكرة البدائية عنها. حتى لو لم نعرف إلا الاسم. نفس الشيء يحدث لنا كقرّاء وهو أن الشخص الذي نصادفه أو نفترضه هو صفحات الروائي. لا يمكن قراءة “كبرياء وتحامل” و”إيما”, على سبيل المثال, دون تنامي إحساس واضح جداً لشخصية جين أوستن وكيف تبدو, بالتأكيد, متعة مجموعة أوستن الفكرية هي واحدة من الأسباب الرئيسية التي تجعلنا نقرأ لها. وفي هذا هي تقف في القطب المعاكس لـشكسبير, كاتب مسرحي مموه حتى في شخصيته الأدبية.
السؤال هو في ما إذا كنا نتعلم أي شيء مهم عن هذا الأدب نفسه عندما نصل الى معرفة سيرة حياته الحقيقية. أعتقد بأننا نستطيع ذلك, لكن لو أخذنا بنظر الاعتبار أن هدف السيرة الأدبية ليس تقديم مادة للشائعات (أو التبجيل). ولا لمساعدتنا في إصدار حكم أخلاقي سهل. بدلاً من ذلك, السيرة الأدبية تستخدم الحياة لتوضيح العوامل التي شكلت العمل ــ لإظهار كيف أن الحياة والعمل يشكلان كلاهما نفس المجموعة من المشاكل والدوافع. وعلى العكس من ذلك, نحن ببساطة نختزل الكتّاب لعدد من المشاهير أو المعرفة الشخصية, وهل لدينا بالفعل أكثر من الكافي لكلاهما؟
* توماس مالون: مؤلف لثمان روايات من بينها: “هنري وكلارا”, “علبة القبعات”, “زميل المسافرين” و”ووترغيت”. وصل الى القائمة القصيرة لجائزة بن\فوكنر. صدر له أيضاً كتاب عن السرقة الأدبية “كلمات مسروقة” وكتاب يوميات “كتاب عن ملكية شخص ما”, رسائل “أنت للأبد” وعن اغتيال كينيدي “السيدة باين غراج”، وكتابين ضمت مقالاته “الصواريخ وسوق الماشية”، و”في الواقع”. نشر أعماله في الـنيويوركر والأطلسي الشهرية وفي مطبوعات أخرى. حصل على الدكتوراه في الأدب الأمريكي والإنكليزي من جامعة هارفارد ودرّس لعدة سنوات في كلية فاسار. حصل على تكريمات منها: زمالة غوغنهايم وروكفلر, جمعية النقاد للكتاب الوطني للنقد, وجائزة فورسل من الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب لأسلوبه النثري المتميز. عمل كمحرر أدبي لصالح مجلة “جي كيو” ونائب لرئيس المؤسسة الوطنية للعلوم الانسانية, وفي 2012 أنتخب عضواً في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم. وحالياً يعمل كأستاذ للغة الانكليزية في جامعة جورج واشنطن.
** آدم كيرش: محرر أقدم في صحيفة النيو ريببلك وكاتب عمود في مجلة تابلت. صدرت له مجموعتان شعريتان والعديد من الكتب الأخرى, بما في ذلك, آخرها: “Why Trilling Matters” في 2010. كما حصل على جائزة روجر شاتوك للنقد. 
________
*العالم الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *