أجرى الحوار: حسام عبد القادر
( ثقافات )
رغم مرور أكثر من عشر سنوات على إنشاء مكتبة الإسكندرية إلا أن هذا المشروع الثقافي الضخم ما زال يحمل العديد من الأسرار لا تقل عن أسرار احتراق المكتبة القديمة، فهو ليس مجرد مكتبة تحوى عدد من الكتب، وإنما هو مشروع ثقافي متكامل استطاع أن يغير الخريطة الثقافية للإسكندرية وللمنطقة بأكملها دون أي مبالغة، حتى أننا أصبحنا نؤرخ للثقافة المصرية بقبل وبعد إنشاء مكتبة الإسكندرية.
أحد الشهود على العصر تجاه هذا المشروع العملاق هو المؤرخ الدكتور مصطفى العبادي أستاذ الآثار بجامعة الإسكندرية والعالم الشهير في تاريخ مصر في العصر اليوناني الروماني، والعضو الرئيسي في مشروع إحياء مكتبة الإسكندرية والذي وظل صابرا ومثابرا سنوات طويلة من أجل أن يخرج المشروع للنور، حتى تمكن من رؤية هذا المشروع حقيقة واقعة أمامه في أكتوبر عام 2002.
ورغم أن د. العبادي لم ينل حقه في تسليط الضوء عليه كشاهد عيان وكأحد الجنود الذين رسموا الطريق من أجل إعادة إحياء هذا المشروع الضخم، بل إن البعض من رموز النظام المصري السابق يحاول سرقة هذا الإنجاز ونسبه لنفسه، إلا أنه سعيد تماما بما حققه وليس لديه أي مشكلة تجاه هؤلاء، لأنه يعرف أن التاريخ سينصفه ويعطيه حقه
ويؤكد أن النظام السابق بدأ منذ عام 1952 واستطاع إقناع المصريين أنهم غير مستعدين للديمقراطية، وأنه الواصي عليهم وهو كلام عار تماما من الصحة بل إن من يقول أن المصري لا يصلح للديمقراطية هو نفسه غير مؤهل للديمقراطية، لأن الكلام صفة المتكلم.
مضيفا: لقد خرجت فى مظاهرات وأنا طالب بالثانوية ضد الملك من أجل الديمقراطية، وكنا نتمتع بديمقراطية ونمارسها، فكيف يقولون أن المصريين غير مستعدين للديمقراطية، وكنا نمارسها بشتى صورها، وأتذكر ناظر مدرستى الرمل الثانوية “الناصرية فيما بعد”، وهو أحمد بك الحكيم وكان ابن عم توفيق الحكيم، أنه قام بفصل الطالب “شريف ذو الفقار” شقيق الملكة فريدة لمدة أسبوع لأنه جاء إلى المدرسة ودخل الفناء بسيارته الخاصة، ولم يحدث له أي شئ أو يلومه أحد، فماذا كان يمكن أن يحدث لو تم موقف مثل هذا فى نظام مبارك؟
لقد فسدت الإدارة المصرية كلها فسادا شديدا، وبعد إصابتنا بحالة من اليأس والانكسار قام الشباب بكسر حاجز الخوف ونحن الآن في مرحلة حاسمة وهو ما يجعلني متفائلاً، وكل ما أتمناه أن يقوم النظام الجمهوري البرلماني في مصر حتى يمنع قيام ديكتاتور جديد لأننا ضعاف النفوس أمام السلطة والأموال، وحتى أمنع الفرصة لهذا الإغراء، فهناك مثل إنجليزي يقول: “القوة مفسدة والقوة المطلقة مفسدة مطلقة”.
من هنا كانت البداية
طلبت من د. مصطفى العبادي أن يفتح خزانة أسراره ويروى لنا شهادته على العصر، فى إحياء مشروع مكتبة الإسكندرية.
فبدأ د. العبادي حديثه مستشهدا بما قاله الدكتور طه حسين فى افتتاح جامعة الإسكندرية فى أكتوبر 1942 حينما ألقى الدكتور طه حسين كلمة هامة أمام الملك فاروق وكانت الحرب العالمية على أشدها، ومنها فقرة هامة حيث قال: “.. وقديما يا مولاى قال هيرودت مصر بلد العجايب، وها نحن فى خضم حرب عالمية وقوات الحرب على مرمى منا، تتصارع عند العلمين ونحن نؤسس جامعة من أجل المعرفة والمستقبل والسلام”.
موضحا أن بلد العجايب، التى تحدث عنها هيرودوت ومن بعده طه حسين استطاعت تنفيذ مشروع إحياء مكتبة الإسكندرية، هذا المشروع الذي كان يصاحبه رعاية إلهية، لأنه مر بمشاكل عديدة وظروف صعبة وكان يمكن أن يتوقف لأسباب كثيرة، إلا أن هذه العناية الإلهية كانت صاحبة الكلمة العليا فى إنهاء المشروع وخروجه للنور، وهو ما سأشرحه لك تفصيلاً..
فالحكاية بدأت في نوفمبر 1972 في محاضرة عامة بنادي أعضاء هيئة تدريس جامعة الإسكندرية بدعوة من الدكتور لطفي دويدار، قلت فيها “إذا كانت جامعة إسكندرية تريد الاستنارة والاستزادة علميا وفكريا فلابد أن تؤسس مكتبة لأن ظروف الحرب أثناء افتتاح جامعة الإسكندرية لم يجعل هناك فرصة لعمل مبنى خاص للمكتبة”، وتحمس لكلمتي وقتها الدكتور فؤاد حلمي أستاذ الهندسة والعمارة، ونائب رئيس الجامعة وقتها، وكانت هذه المحاضرة بمثابة اللبنة الأولى للمشروع، فبدأنا أنا ولطفي دويدار وفؤاد حلمي، في البحث عن أرض لتنفيذ هذا المشروع، وكان أمامنا ثلاثة أماكن: أرض كوتة، ومكان المكتبة الحالي، وأرض مصطفى كامل وكانت تابعة للجيش وبها أكشاك للجنود الإنجليز، واقترحت وقتها أرض مصطفى كامل ولكن وجود الجيش بها وظروف الحرب حالت دون ذلك، وكنا وقتها في 1974، واخترنا الموقع الحالي للمكتبة نظرا لأنه أكبر مساحة من أرض كوتة، وكان ملكا للجامعة ومرت سنوات توقفت فيها الفكرة بسبب ظروف البلد، وفى أوائل الثمانينات بدأنا نعيد الموضوع مرة أخرى، وفى عام 1984 قام الدكتور فريد مصطفى رئيس جامعة الإسكندرية وقتها بتكوين لجنة ثلاثية لدراسة مشروع إحياء المكتبة، وتكونت اللجنة منى، والدكتور لطفي دويدار والدكتور محسن زهران، لأن الدكتور فؤاد حلمي كان قد رحل، وكان من المهم أن يكون لدينا أستاذ في الهندسة باللجنة، وكان اليونسكو يريد خطابا موجها من الحكومة ليتم دراسته بشكل جدي، ويأتي هنا دور جندي مجهول من الجنود الذين ساعدوا في إحياء الفكرة وتنفيذها وهو الدكتور مصطفى كمال حلمي وزير التعليم الأسبق، وطلبني وقال لي أن هناك وزراء فى الوزارة ضد المشروع لأنهم يرون أننا لا يجب أن نطلب من اليونسكو المساعدة في إنشاء مكتبة، ولكنه طلب منى كتابة صيغة الجواب وسوف يقنع المجلس بإرساله لليونسكو، وننتظر رد اليونسكو.
وكانت المفاجأة أن اليونسكو أخذت الموضوع بشكل جدي، وأرسلوا اثنين من المتخصصين فى مجال المكتبات من فرنسا وسويسرا ليقابلوا اللجنة، وليروا الوضع، وطلبوا منا معرفة حالة المكتبات فى مصر عموما، فقمت بعمل تقييم لأهم مكتبات فى مصر وهى: مكتبة جامعة القاهرة، ومكتبة دار الكتب بالقاهرة، ومكتبة البلدية بالإسكندرية، وقدمته للجنة اليونسكو.
أحمدو مختار مبو
وبعد مرور عامين، وبالتحديد في 1986 كان مدير اليونسكو أفريقي من السنغال هو: “أحمدو مختار مبو” وكان وزيرا سابقا للتعليم فى بلده وكان له مواقف تتميز بالليبرالية وذو نزعة إنسانية، وساعد عدد من دول العالم الثالث واصطدم مع أمريكا ووصل فى الخلاف معها إلى أن قامت أمريكا بتجميد عضويتها فى اليونسكو ووراءها إنجلترا، وسحبت البلدين تمويلهم وأصبحت حربا باردة على المستوى الثقافي.
وفى مارس 1986 أبلغني الدكتور فريد مصطفى رئيس جامعة الإسكندرية أن مختار مبو مدير اليونسكو سوف يحضر لمقابلتنا بخصوص مشروع المكتبة، وبالفعل تقابلنا بمبنى الجامعة وكان يوم جمعة، وقد أثر هذا الرجل فينا بكلماته حيث قال: “أنا لا أملك مالا ولا سلطة لكن أنا أؤيد هذا المشروع بكل ما أملك من عزيمة وإرادة لأني مؤمن بأن هذا المشروع إذا نفذ بمستوى الفكرة التي أوصت به، فربما يغير الخريطة الثقافية بالمنطقة بأسرها” وكانت كلمة مشجعة جدا، وأذكر أنه نصحنا باستخدام كلمة “إحياء مكتبة الإسكندرية القديمة” وليس فقط إنشاء مكتبة للإسكندرية، موضحا أننا أصحاب مشروع إنساني وفكري رائد فى تاريخ الإنسانية وهو مكتبة الإسكندرية القديمة وبالتالي يجب التركيز على إحيائه.
وفى يونيه 1986 تم عرض المشروع على المجلس التنفيذي لليونسكو للتصويت وكان عدد أعضاءه 51 عضو وتم الموافقة بأغلبية 49 صوت ورفض اثنين فقط، أما الصوتين الذين رفضا فهم: إسرائيل، وجنوب أفريقيا (قبل مانديلا). ولعلنا هنا نرجع لموضوع العناية الإلهية حيث أن أمريكا وإنجلترا كانتا مجمدتان لنشاطهما وكانت يمكن بإيعاز من إسرائيل أن تتدخل تدخلا كبيرا لوقف المشروع أو لعدم التصويت عليه، وأيضا فرنسا كانت تدعم أمبو، وبالتالي تمت الموافقة في جلسة تاريخية.
دور سرور حضور الاجتماعات
وفى عام 1987 قام اليونسكو بدعوتي لإدارة ندوة علمية في باريس حول مكتبة الإسكندرية القديمة ومشروع إحياءها، وكان الدكتور أحمد فتحي سرور وزيرا للتعليم وقتها وتم دعوته بصفته وزيرا للتعليم، وأذكر أن الدكتور سرور لم يكن موفقا حتى في كلمته حيث أنه تحدث عن الفرق بين ثقافة الشرق وثقافة الغرب، وأن الغرب حضارته وثقافته مادية بينما نحن لدينا روحانيات وإنسانيات، قال هذا وهو يتحدث فى باريس عاصمة النور ولو كان نظر من الشرفة لرأى قوس الثورة الفرنسية بكل فلاسفتها ومفكريها الذين يؤمنون بالإنسان.
ثم تم وضع حجر الأساس للمشروع فى عام 1988، بإشراف اليونسكو وأذكر أنني قابلت وقتها المشير عبد الحليم أبو غزالة وكان وزيرا للحربية وقتها، وقلت له أن مصممي المشروع من النرويج أوصوا بتخصيص مكان السلسلة على الكورنيش وهو تابع للقوات المسلحة للمكتبة بعد أن ينتفي غرض الجيش منه، فرد على أن هذا المكان ليس له قيمة للجيش، ولكن من يريد المكان عليه أن يشتريه، وعندما سألته عن السعر قال 8 مليون جنيه، وهذا طبعا كان عام 1988، ولم يكن لدينا أموالا تكفى لشراء المكان.
وفى نفس العام طلب منى اليونسكو أن أؤلف كتابا عن مكتبة الإسكندرية واتفقت معهم أن يكون هذا الكتاب بثلاث لغات الإنجليزية والعربية والفرنسية، على أن أقوم أنا بكتابة النسختين العربية والإنجليزية ويتولوا هم ترجمة الكتاب للفرنسية.
وفى 1990 تم الدعوة لاجتماع أسوان الشهير الذي تم خلاله الدعوة لإحياء مكتبة الإسكندرية ومشاركة العالم كله في هذا المشروع الحضاري الهام، وحضره مدير اليونسكو وقتها “فيديريكو مايور” الأسبانى الذي جاء بعد مبو وكان أيضا متحمسا للمشروع وهو من كتب مقدمة كتابي عن مكتبة الإسكندرية الذي طلبه اليونسكو.
أيضا الدكتور فتحي سرور حضر اجتماع أسوان بصفته وزيرا للتعليم، حتى أنه سألني في هذا الاجتماع عن كتابي الذي ألفته عن مكتبة الإسكندرية، فقلت له الكتاب موجود باليونسكو يمكنك طلبه منهم. الجدير بالذكر أنني دعيت لاجتماع أسوان بدعوة من اليونسكو وليس من الحكومة المصرية.
والآن يأتي فتحي سرور ليقول أنه صاحب فكرة إحياء مكتبة الإسكندرية أو حتى شارك فيها وهى نكتة ضحكت عليها كثيرا، لأن حضوره الاجتماعات كان بصفته وزيرا وأي شخص مكانه كان يتولى منصب وزير التعليم كان سيحضر الاجتماع، ليس أكثر من ذلك أو أقل، لكنه لا علاقة له بمشروع إحياء المكتبة من قريب أو بعيد.
ومن بعد 1990 جاءت حرب العراق، وكانت الأوضاع في المنطقة غير مستقرة، فمرت السنوات ثم بدأت اللجنة عملها بجدية من جديد وتولى د. محسن زهران إدارة المشروع حتى جاء الدكتور إسماعيل سراج الدين ليتولى إدارة المكتبة في 2001، وهو إنسان مثقف ويتمتع بقبول دولي كبير، وله شعبية في الخارج واتصالات قوية واستطاع سراج الدين أن يعطى واجهة براقة للمكتبة.
ومن الطرائف أنه في عام 2001 وأثناء الإعداد للافتتاح الرسمي لمكتبة الإسكندرية تم عمل العديد من الحوارات معي عن مشروع المكتبة، ولكني فوجئت بأن أحد كبار الصحفيين الذين ينتمون للحكومة، يكتب مقالا كبيرا عن المكتبة ويقول منافقا لسوزان مبارك “أن الدكتور مصطفى العبادي عندما دعا لمشروع مكتبة الإسكندرية كان يقرأ أفكار سوزان مبارك” فى نفاق واضح، وقتها ضحكت كثيرا، فقد كنت أقرأ أفكارها منذ عام 1972.
وما أتمناه لمكتبة الإسكندرية أن تصبح مركزا للبحث العلمي بالمستوى العالمي، وهذا أمر ليس سهلاً ويحتاج إلى أموال طائلة، ولكن لو استطعنا عمل ذلك فيمكن أن تشهد مصر تحولا علميا كبيرا فى السنوات القادمة.
ويختتم د. مصطفى العبادي كلامه قائلاً: لابد أن نعترف أن هناك جنود مجهولون ساهموا في إطلاق مشروع مكتبة الإسكندرية مثل “جالك توكتليان” وهو أرمني من مواليد الإسكندرية وكان يتولى إدارة المشروعات باليونسكو وهو شاعر ومثقف وكان متحمسا جدا لمشروع المكتبة الذي اعتبره رد جميل لحبه للإسكندرية التي كتب أشعاره عنها، بالإضافة بالطبع لمختار أمبو مدير اليونسكو الأسبق، والدكتور مصطفى كمال حلمي وزير التعليم الأسبق، وآخرين عديدين قد لا تسعفني الذاكرة في ذكرهم الآن.