«حي بن يقظان».. رائعة ابن طفيل ولؤلؤة التراث


*محمد سيد بركة

حي بن يقظان لابن طفيل، إحدى روائع الأدب العربي الأندلسي في الفكر الإسلامي، كتبها محمد بن عبدالملك بن طفيل فى إسبانيا الإسلامية «الأندلس» في منتصف القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، ووصفت من قبل النقاد بأنها أعظم وأجمل قصة فلسفية صوفية رمزية اضطلعت بها العصور الوسطي. ولذا فقد شغف بقراءتها الأدباء، والفلاسفة، والمتصوفة.

والمفكرون على مر العصور، ما جعل منها لؤلؤة الأدب والتراث، وكان اهتمامهم بها وتأثرهم بها بالقدر ذاته، كما أنها أثارت حفيظة المترجمين أيضاً فدخلت «حي بن يقظان» إلى لغات أجنبية لم تعهدها العربية من قبل؛ حتى وصلت إلى أكثر من أربعين لغة حية حتى يومنا هذا، لا ينافسها أي عمل عربي آخر في ذلك إلا حكايات «ألف ليلة وليلة».
ترجمات
ترجمت هذه القصة الفريدة إلى العبرية في القرن الرابع عشر الميلادي، وترجمت إلى اللاتينية واللغات الأوروبية الحديثة، وقد كان لتلك الترجمات المبكرة تأثير في الفكر الأوروبي بصفة عامة في نواح مختلفة؛ في الأدب والفلسفة والتصوف والنظريات الفكرية والعلمية والتربوية.
وكانت الرواية هي أكثر المجالات الأدبية تأثراً بقصة حي بن يقظان لابن طفيل، وقد ساعد على ذلك ظهور الترجمات الأوروبية المختلفة للقصة وانتشارها، متزامنة مع ميلاد الرواية الأوروبية في القرن الثامن عشر الميلادي.
قصة فلسفية
«حي بن يقظان» قصة تشتمل على فلسفة ابن طفيل، وقد ضمنها آراءه ونظرياته، وتدور القصة حول حي بن يقظان الذي نشأ في جزيرة من جزر الهند تحت خط الاستواء، منعزلاً عن الناس، في حضن ظبية قامت على تربيته وتأمين الغذاء له من لبنها، وقد تدرج في المشي وأخذ يحكي أصوات الظباء ويقلد أصوات الطيور ويهتدي إلى مثل أفعال الحيوانات بتقليد غرائزها، وشب الفتى متوقد الذكاء عظيم المهارة.
فكان يصنع حذاءه وأثوابه بنفسه من جلود الحيوان، ودرس النجوم، وشرح الحيوانات حية وميتة، حتى وصل في هذا النوع من المعرفة إلى أرقى ما وصل إليه أعظم المشتغلين بعلم الأحياء، ثم انتقل من العلوم الطبيعية إلى الفلسفة وعلوم الدين؛ وأثبت لنفسه وجود خالق قادر على كل شيء، ثم عاش معيشة الزهاد، وحرم على نفسه أكل اللحم، واستطاع أن يتصل اتصالاً روحياً بالعقل الفعال. وأصبح حي بعد أن بلغ التاسعة والأربعين من العمر متأهباً لتعليم غيره من الناس.
طريق المعرفة
وكان من حسن الحظ أن متصوفاً يدعى آسال استطاع في سعيه إلى الوحدة أن يلقي بنفسه على الجزيرة، فالتقى بحي، وكان هذا أول معرفة له بوجود بني الإنسان. وعلمه آسال لغة الكلام.
وسره أن يجد أن حياً قد وصل دون معونة أحد إلى معرفة الله، وأقر لحي بما في عقائد الناس الدينية في الأرض التي جاء منها من غلظة وخشونة، وأظهر له أسفه على أن الناس لم يصلوا إلى قليل من الأخلاق الطيبة إلا بما وعدوا به من نعيم الجنة، وما أنذروا به من عقاب النار. واعتزم حي أن يغادر جزيرته ليهدي ذلك الشعب الجاهل إلى دين أرقى من دينهم وأكثر منه فلسفة.
فلما وصل إليهم أخذ يدعوهم في السوق العامة إلى دينه الجديد وهو وحدة الله والكائنات، لكن الناس انصرفوا عنه أو لم يفهموا أقواله. وأدرك أن الناس لا يتعلمون النظام الاجتماعي إلا إذا مزج الدين بالأساطير، والمعجزات، والمراسيم، والعقاب والثواب الإلهيين. ثم ندم على إقحامه نفسه في ما لا يعنيه، وعاد إلى جزيرته، وعاش مع آسال يرافق الحيوانات الوديعة والعقل الفعال، وظلا على هذه الحال يعبدان الله حتى الممات.
تساؤلات ملهمة
ويبين ابن طفيل أن الدافع الذي ألهمه كتابة هذه القصة سؤال أثاره أحد المهتمين بقضايا الخلق والنشوء والارتقاء، الذي طلب منه وضع إجابة عن سؤال يتمحور حول أصل المعرفة الإنسانية، وقد قدر لهذا السؤال أن يفجر عبقرية ابن طفيل وأن ينهض بإشراقاته الفلسفية وحدوسه الإنسانية، فتجلت في إبداعه العبقري لهذه القصة، التي شكلت إجابة حيّة عن تساؤلات السائل.
وتلبية لفضول العالم في ميدان النشوء والارتقاء وتكون المعرفة. ويصف ابن طفيل الحالة الإشراقية التي اعترته وهو يتأمل في هذا السؤال بقوله: وانتهى بي هذا السؤال إلى مبلغ من الغربة بحيث لا يصفه إنسان.
ولا يقوم له بيان، غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها أن يكتم أمرها أو يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل، وإن كان ممن لم تحذقه العلوم قال فيها بغير تحصيل.
روبنسون كروزو
اقتبس الكاتب البريطاني دانييل ديفو (1660 – 1731م) قصة «روبنسون كروزو» من قصة «حي بن يقظان»، ويعتقد كثيرون بأن دانييل ديفو اقتبس ومض قصته هذه من صلب التصورات العبقرية التي جاءت في قصة ابن طفيل. فروبنسون كروزو عاش.
كما هو حال حي منفرداً وحيداً في جزيرة، لكنه وصل إليها بعد أن تحطمت سفينته على صخور الجزيرة، حيث يستطيع الوصول إلى شاطئ الجزيرة عوماً بعد أن أعياه الجهد وأسقطه التعب نائماً مرهقاً من شدة الإعياء، وهي تسلط الضوء على الفرد حين يعيش وحده في عزلة والتساؤلات العميقة في نفسه حول الذات والكون.

إشراقات
المفكر الدكتور حسن حنفي، في تقديمه لتحقيق صدر مؤخراً عن قصة «حي بن يقظان»، كتب: «لا يوجد نص فلسفي كتب أربع مرات من أربعة فلاسفة مختلفين وأحياناً مع تغير العناوين مع بقاء المضمون مثل قصة حي بن يقظان، فهي مع أصلها اليوناني سلامان وأبسال قصة رمزية لابن سينا ت 428 هـ، ولابن طفيل ت 581 هـ، وللسهروردي ت 587 هـ، وابن النفيس ت 687هـ. والموضوع واحد..
كيفية الوصول إلى الحقيقة بالعقل الخالص دون الاعتماد على نبي أو وحي أو معرفة لدنية. والعقل الخالص هو العقل الطبيعي الذي يتأمل في الظواهر الطبيعية الجمادية، والنباتية، والحيوانية».
ويضيف حنفي: «للعنوان دلالة رمزية، حي بن يقظان. فالحياة بنت اليقظة. اليقظة الأصل، والحياة الفرع وليس العكس، الحياة الأصل واليقظة الفرع مع أنه الأكثر بداهة. فالإنسان يحيا أولاً ثم ينبثق الوعي من خلال الحياة».

قالب روائي
وضع ابن طفيل في هذه القصة آراءه القائلة بعدم التعارض بين العقل والشريعة أو بين الفلسفة والدين في قالب روائي قصصي. وتمثل القصة العقل الإنساني الذي يغمره نور العالم العلوي، فيصل إلى حقائق الكون والوجود بالفطرة والتأمل بعد أن تلقاها الإنسان عن طريق النبوة. تؤكد قصة حي بن يقظان أهمية التجربة الذاتية في الخبرة الفكرية والدينية.
ابن طفيل
مؤلف «حي بن يقظان» هو محمد بن عبدالملك بن محمد، ابن طفيل القيسي الأندلسي، أعظم فلاسفة الأندلس ورياضيها وأطبائها. ولد بمدينة قرب غرناطة. درس الفلسفة والطب في غرناطة. تولى منصب الوزارة ومنصب الطبيب الخاص للسلطان أبي يعقوب يوسف أمير الموحدين، وكانت له حظوة عظيمة عنده. كان معاصراً لابن رشد وصديقاً له. لم يصل إلينا منكتبه سوى قصة «حي بن يقظان» أو «أسرار الحكمة الإشراقية»، وقد ترجم إلى لغات عدة أجنبية. توفي ابن طفيل في مراكش عن 87 عاماً.
——
*البيان

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *