طه حسين لأندريه جيد: تعرفتم على المسلمين ولم تعرفوا الإسلام


*حسونة المصباحي

لطالما كانت الإنسانية والتاريخ لقاحا وتفاعل حضارات مستمرا، أما في العالم العربي اليوم فتمثل الأصولية المتطرفة حاجزا لمعتنقيها وشعوبهم أمام التقدم والانفتاح على الآخر وتغلغل التعصب بدل التحاور والأخذ والعطاء. ولعل أبرز مثال على حوار الحضارات تلك الرسائل التي تبادلها كل من طه حسين الكاتب المصري وأحد رموز الحركة التنويرية العربية مع أندريه جيد الكاتب الفرنسي الحاصل على نوبل.

دأب أصوليّو اليوم على مهاجمة الغرب باعتباره عدوّا للإسلام والمسلمين، ومثل هذا الحكم الإطلاقي يشكل خطأ فادحا ويضرّ شديد الضرر بجميع المسلمين بمن في ذلك الذين يرفضون الأصوليّة والتطرف، ويعتبر سببا أساسيّا في إضاعة فرصة الحوار المفيد والبنّاء مع النخب الثقافية والفكرية والسياسية الغربية.
كما أنه نسف المجهودات الجبّارة التي بذلها المفكرون العرب المستنيرون بهدف الانفتاح على الغرب وعلى العالم ثقافيا وفكريّا وسياسيّا.
الفكر التنويري
يعتبر طه حسين أحد رموز الحركة التنويريّة العربيّة التي حاول مؤسسوها بعث الحياة في ثقافة وحضارة مندثرة منذ زمن مديد، إذ تعكس جميع مؤلّفاته ابتداء من كتابه “في الشعر الجاهلي”، وحتى “الفتنة الكبرى”، مرورا بـ”حديث الأربعاء”، و”قادة الفكر”، و”مستقبل الثقافة في مصر” وغيرها، رؤية تنويريّة عميقة، وهي ما نحتاجه اليوم للخروج من النفق المظلم الذي زجّت بنا فيه الحركات ألأصولية المتطرفة مستغلّة الأوضاع البائسة التي يعيشها العرب اليوم لكي تصعد إلى السلطة في بعض الأقطار العربية مهدّدة ما تبقّى من القوى التنويرية بالموت اختناقا ويأسا.
الإسلام يقين
كانت تربط عميد الأدب العربي طه حسين علاقات وطيدة مع البعض من رموز الثقافة الغربيّة، الفرنسيّة بالخصوص. فعندما اطلع الكاتب الفرنسيّ الكبير أندريه جيد (1869-1951)، الحائز على جائزة نوبل للآداب للعام 1947، على ترجمة كتاب “الأيام”، حيّا صاحبه بإجلال وتقدير، مخصّصا للكتاب مقدمة بديعة. وفي المقابل قام حسين بترجمة رواية أندريه جيد “الباب الضيّق” ذات النّفَس الصّوفي المسيحيّ.
عندما علم بذلك، كتب جيد رسالة إلى صاحب “الأيّام” بتاريخ 5 يوليو 1945، متسائلا عن الأسباب التي دفعت طه حسين إلى القيام بهذه الترجمة.
وفي مقدمة الرسالة، كتب أندريه جيد يقول: “لقد أبرزت في كتاباتي أحيانا الجاذبيّة الكبيرة للعالم العربي، ولأنوار الإسلام. ولقد عشت أحيانا، ولوقت طويل، بصحبة مستعربين وباحثين في شؤون الإسلام. ومن المؤكّد أنّني ما كنت لأكون على ما أنا عليه لو لم أطل الوقوف في ظلّ النخيل بعد أن أكون قد تذوّقت، حــدّ الوجد، الحرقة العنيفة للصحراء.
فحينها عرفت كيف أغرز الحلّة الجديدة لثقافتنا الغربيّة، وأعثر من جديد على أصالة إنسانيّة مفقودة. لكن حتى اليوم، وإن كنت قد تقبّلت الكثير وتعلّمت الكثير من العالم العربي، فإنه لا يبدو لي أن العكس كان ممكنا. لهذا فإن اقتراحكم فاجأني، وأعني بذلك ترجمة أحد آثاري إلى لغتكم.
فإلى أيّ قارئ يمكن أن تتوجّه؟ وإلى أيّ فضول يمكن أن تستجيب؟ “ومجيبا بنفسه على هذين السؤالين، يكتب صاحب “الباب الضيّق ” قائلا: “ذلك أنني أعتقد أن الإسلام، ويبدو لي أن هذه خاصيّة من خصائص العالم الإسلامي، يقدّم للفكر الإنساني أجوبة أكثر مما يثير أسئلة. فهل أنا مخطئ في ظنّي هذا؟ قد يكون ذلك ممكنا. غير أني لا أحسّ قلقا كبيرا عند الذين تربّوا في ظلال القرآن. إنه، أي القرآن، مدرسة اليقين التي لا تحرّض أبدا على البحث”.
الإسلام بحث
وفي رسالة بتاريخ 2 يناير 1946، ردّ طه حسين على رسالة أندريه جيد، وفيها كتب يقول: “ولكن لا، أنتم لا تخطئون، غير أن هذا لا يمنع من أنكم ارتكبتم خطأ. لقد تعرفتم على المسلمين ولكنكم لم تتعرفوا على الإسلام. وقد تمّ هذا في فترة عصيبة من تاريخ المسلمين.
فترة تدهور خطيرة من ناحية عاطفتهم تجاه دينهم، وأيضا من ناحية معرفتهم بدينهم. إن هؤلاء المسلمين الذين تعرفت عليهم بسطاء وجهلة، بحيث ليس بإمكانهم أن يقولوا لك إذا ما كان بإمكان القرآن أن يقترح أجوبة أو يثير أسئلة. إن قدرتهم الوحيدة هي مساعدتك على التعرف على فولكلور بلدانهم الراضخ لهيمنة الصحراء المجاورة لهم”.
ويواصل طه حسين رسالته قائلا: “لقد رأيتم مسلمين آخرين ربما كانوا على اطلاع على ثقافتكم الغربية لكنهم لا يعرفون الشيء الكثير عن ثقافتنا الشرقيّة.
أما المستعربون الذين تعرفت عليهم فإنهم لا يهتمون، وهذا ما تفرضه عليهم مهنتهم، إذ يبدون اهتماما بالنصّ أكثر مما يبدونه بروح النص. هؤلاء وأولئك ليس بمقدورهم أن يقدموا لكم فكرة دقيقة عن القرآن وعن تأثيره في الأفكار والقلوب: إن الإسلام لا يدعو إلى الطمأنينة، بل هو يحث على التفكير الأكثر عمقا، ويثير الحيرة والشك الأشدّ إرباكا. والقرون الخمسة الأولى من تاريخ الإسلام هي الدليل الواضح والمقنع”.
ومتطرقا إلى فكرة جيد التي قال فيها إن الإسلام يعطي أكثر مما يأخذ، علّق طه حسين قائلا: “لقد ذهب في ظنّكم أن الإسلام يعطي أكثر مما يأخذ، وهذا ليس صحيحا.
فقد أعطى الإسلام كثيرا لأنه أخذ الكثير. إذ أخذ من اليهودية، ومن المسيحيّة، ثم من التراث الإغريقي، ومن الحضارتين الفارسية والهندية. وكلّ هذا استوعبه لكي يبتكر منه شيئا عربيّا، أو منحه ما استطاع أن يمنحه إياه، ثم نقله إلى الغرب قبل القرن الخامس عشر الميلادي. وعندما نكون قد أنجزنا مثل هذا العمل فإننا نكون قادرين على أن نتقبل الثقافة الغربية ونحن نتقبّلها جيّدا”.
______
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *