الهوية التونسية والمغربية خلال الحماية الفرنسية


*أحمد سوالم

سعت سلطات الحماية الفرنسية في تونس، إلى فرنسة المجتمع العربي، وتحويله عن اللغة العربية حيث أقيم نظام تعليمي، يقتلع الشباب من جذورهم الثقافية واللغوية والحضارية. في هذا الصدد يقول الطاهر عبد الله – أحد رجال الحركة الوطنية التونسية- ( .. وقد سيطرت فرنسا على التعليم فأخضعته لنظم فرنسية. حتى أصبح الطالب، يتقن الفرنسية، ويفقه أسرارها، ويتذوق أدبها، أما أدبه ولغته، فهي أمور بعيدة عنه). وذلك راجع، لكون اللغة الفرنسية، هي المعتمدة في مواد التعليم، ما عدا المواد الدينية. في حين كان تدريس اللغة العربية إختياريا، كما هو الشأن بالنسبة للغات الأجنبية، ولا يمتحن فيها التلميذ عند نهاية الدراسة. ففي عهد الحماية الفرنسية ( .. اتجهت سياسة التعليم في تونس إلى محاربة اللغة العربية، والاستعانة عنها باللغة الفرنسية. بينما كانت تونس بدأت تصبح مركزا لثقافة عربية، نشيطة، تتطور نحو المناهج الحديثة، خصوصا بعد أن تأسست المدرسة الصادقية إلى جانب جامع الزيتونة العتيق) حسب علال الفاسي .

وشكلت الزيتونة، إحدى قلاع مقاومة التغلغل الاستعماري بتونس، الذي يهدف إلى مسخ الهوية اللغوية للتونسيين، إذ قام طلبة الزيتونة، بجهود فكرية، للدفاع عن اللغة العربية من خلال العديد من المؤتمرات. كمؤتمر اللغة والآداب والفنون العربية عام 1931، للرد على استخفاف المستعمر بالهوية الوطنية، وتحقيره للتاريخ الوطني التونسي. وعن ذلك يقول عبد العزيز الثعالبي: ( ..لقد غرس ذلك التعليم الاستعماري، في نفوس أبنائنا، احتقار حضارة أبائهم، وتاريخ وطنهم) مما جعل الدفاع عن الهوية اللغوية، يمثل مكانة في مطالب الحركة الوطنية التونسية. كجزء من الدفاع عن الهوية الدينية والهوية الحضارية، وتوج ذلك بإصلاح 1949، الذي جعل اللغة العربية، أداة لتدريس بعض المواد الأساسية في المدارس العربية-الفرنسية المخصصة للتونسيين، وجعل حصصها في السنتين الابتدائيتين الأولى والثانية، متساوية لحصص اللغة الفرنسية، ( 14 ساعة و10 دقائق أسبوعيا لكل منهما). أما المدارس الفرنسية، المخصصة للفرنسيين وأبناء النخبة التونسية، فخصصت للغة العربية، ساعتان في السنتين الأولى والثانية، وثلاث ساعات في السنوات الأخرى. أما في الثانوي، فتتراوح حصصها، ما بين تسع ساعات، وثلاثة عشر ساعة حسب السنوات .
وشكلت المسألة اللغوية، محور نقاش النخبة التونسية في السنوات الأخيرة للاحتلال، ما بين أنصار الازدواجية اللغوية في التعليم، وأنصار التعريب. واحتضنت هذا النقاش، مجلة “الندوة”، من خلال قيامها، باستفتاء حول الفرنسية والتعريب سنة 1954، انطلاقا من التساؤل:
( كيف ترون بقاء الفرنسية في التعليم ؟). لتبقى القضية اللغوية من القضايا التي ورثتها تونس المستقلة، من الحماية الفرنسية. فماذا عن المغرب ؟.
عملت فرنسا منذ السنوات الأولى لاحتلال المغرب، على فرنسة الإدارة المغربية. فلم يسلم قطاع التعليم من ذلك. إذ أصبحت مواده، تدرس باللغة الفرنسية، ما عدا المواد الدينية، سعيا للنيل من اللغة العربية، اعتقادا بأن من يتكلمها متعصب للإسلام، وينادي بالجامعة الإسلامية. كما اتجهت سلطات الحماية إلى منع تدريسها بالمدارس البربرية. وفي ذلك يقول ليوطي: (.. تدريس اللغة العربية للسكان البربر، الذين عاشوا بدونها، ليس شأننا. اللغة العربية عنصر أسلمة، لأنها تؤخذ بتلاوة القرآن، ومن مصلحتنا جعل البربر يتطورون خارج الإسلام).
أما المدارس الابتدائية، المخصصة للمغاربة المسلمين، فكانت فيها اللغة العربية، والثقافة الإسلامية، ممنوعة أو شبه ممنوعة. إلا ما كان من بعض الدروس الدينية في مدارس أبناء الأعيان. إذ لم تكن تخصص لها قبل1944، سوى ساعتين مع التركيز على تدريس قواعد اللغة، وبدون كتب مدرسية، وبغير اختبارات، وبدون رقابة أو تفتيش أو توجيه، مما جعل حصصها، حصص ملل وعياء. وأعطى للتلاميذ، صورة مشوهة عن العربية وثقافتها، وغرس فيهم رد فعل سلبي عن كل ما هو عربي. أما بعد سنة 1944، فقد تقرر الرفع من حصص اللغة العربية والمواد الدينية. إذ أصبحت عشر ساعات أسبوعيا، مقابل عشرين ساعة للفرنسية، والمواد المدرسة الأخرى في الابتدائي. وفي الثانويات الإسلامية ( كالثانوية الإدريسية بفاس ومولاي يوسف بالرباط)، فقد كانت اللغة العربية، لغة أجنبية، كالألمانية والانجليزية.
أما الثانويات المخصصة للأوروبيين، لم تكن يعار للغة العربية، أي اهتمام في برامجها. وكل ما هناك دروس خاصة بالعربية والدارجة، تلقن بالفرنسية للفرنسيين كلغة ثانية، تتخذ مادة لها، قصصا خرافية تشوه تاريخ المغرب وحضارته . في إطار دفع المغاربة للتجرد عن هويتهم، والتعلق بذيل فرنسا، من خلال تصوير الآباء والأجداد للناشئة المغربية، دوما كجهلة ومتخلفين، وأن تاريخ المغرب عبر العصور، تاريخ فوضى، وأن الاستقرار جاء بحلول الحماية. في مقابل ذلك، يصور تاريخ فرنسا، كتاريخ أمجاد، وبطولات مع الإشادة بعظمة منجزاتها وحضارتها بطريقة تثير الدهشة، ولكنها لا تثير التفكير، قصد تنشئة المغاربة على الخجل من ذكر تاريخهم، والنفور منه. لأنه يبعث على المذلة، في مقابل ذلك ينظرون لتاريخ فرنسا وحضارتها بعين الانبهار والإجلال والتعلق.
لنخلص أن الهوية اللغوية والدينية والحضارية للمغاربة والتونسيين، استهدفت خلال فترة الحماية، في إطار سلخهم عن تاريخهم، ولغتهم، وثقافتهم. وبالتالي هويتهم، في إطار سياسة إخضاع النفوس، بعد أن تم إخضاع الأبدان، حسب جورج هاردي. إلا أنه في مقابل ذلك، شكلت كل من الزيتونة والقرويين وابن يوسف بمراكش، معاقل لمقاومة سياسة الهيمنة الفرنسية. حيث كانت ملاذا لعلوم الدين، ومعقلا حصينا للغة العربية، التي احتفظت في أروقة هاته الجامعات، بحيويتها، وقوتها، مما مكنها من مغالبة الغزاة.
_________
(*) باحث في تاريخ التعليم/ الأحداث المغربية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *