*نزار حسين راشد
( ثقافات )
في تلك البلدة المُعلّقة،بين صفاء الريف وشفافيته،وبين كدر المدينة وضجيجها،أفرحني كثيراً التعرُّف بدانيال،ليس لأنّه يحمل رائحة الريف الآخذة في التلاشي،بملابسه المكويّة على عجل،وبساطة شخصيّته،وليس لأنّه مسيحي في بحر من البوذيين،الّذين تفيض بهم هذه البلدة،وإنّما لأنّه منفّذ الألحان،عند مُدرّسة الموسيقى.
في اليوم الأوّل الّذي ذهبت فيه،لإدراج اسمي في حصّة الموسيقى،استقبلتني باستهجان ودهشة بالغين:
-ما كلّ هذا التأنُّق؟!ما هذه الرائحة الفوّاحة؟!لا يحتاج الطالب لكلّ هذا التأنُّق،وكلّ هذا العطر،سأسدي لك نصيحة،كن جزءاً من جمهور الطلّاب،لا يشذّ مظهرك عن مظهرهم!
رفعت بصري إليها،ولدقيقة أو أكثر،لم أحوّل نظري عن وجهها المستدير،وجنتيها المكتنزتين،عينيها اللامعتين،وشعرها الأثيث المنسدل،ثمّ خفضت بصري،إلى السُّرّة الأنيقة،الّتي انزاح عنها وشاح الساري،وهي تردّه إلى ما فوق كتفها،ارتبكت قليلاً،ولكنّها قالت:
-اتّفقنا؟
-اتّفقنا!
-حسناً،تعال في الصباح،حتّى أجري لك اختباراً بسيطاً،للإنضمام إلى حصّة الموسيقى،هذا تقليدٌ رسّخه الأساتذة القُدامى،احتراماً لفن الموسيقى،أظنّك ستجتازه،ليس بالشيء الصعب!
في صباح اليوم التالي،كانت متّكئة بجسدها إلى حافّة الطاولة،ومُسندةً قامتها النحيلة،براحتيها المستريحتين على سطح الطاولة،اعتدلت حين رأتني،قالت:
-ها قد حضرت،صباح الخير،حسناً،سنجري الإختبار بسرعة،قل لي:ماذا تعرف عن الموسيقى؟
أجبت بوقارٍ مصطنع:
-موزارت،بتهوفن.
-لا..لا..ليس الأسماء الكبيرة،أريدك فقط أن تتلو السُلّم الموسيقي.
أجبت مدارياً ارتباكي:
-وهل للموسيقى سُلّم؟!
أجابت بدلالٍ ساخر:
-نعم بالتأكيد،لها سُلّم،ألا تعرف ذلك؟لقد حزرت حين رأيتُ تأنّقك،أنت لست هنا لتعلُّم الموسيقى!
وأُسقط في يدي،ظننتُها اكتشفت سرّي من الوهلة الأولى،وعرفت أنّني واقعٌ في حبّها،وأنّ حصّة الموسيقى ليست سوى ذريعة للتقرُّب إليها!ولكنّها استدركت:
-أنت لاستكمال ساعات التخرُّج ليس إلّا!وقد ظننت أنّ حصّة الموسيقى هي أسهل الخيارات!أليس كذلك؟
تبخّرت هواجسي فجأة،وغمرني شعورٌ بالإرتياح،فسرّي لم يزل في أمان!
قالت المعلّمة:
-حسناً،سأدرج اسمك،ستكون فرصة لتتعلّم شيئاً من الموسيقى،ولنبدأ بالسلّم الموسيقي،سأتلوه على مسامعك،وستحفظه من أوّل مرّة،ولكنّي سأعرّفه لك قبل ذلك:السُلّم بالنسبة للموسيقى هو كالأبجديّة بالنسبة للُّغة،ألف بائها!ومن ثَمّ فاجأتني بصوتها،متناغماً،صادحاً:
-دو،ري،مي،فا،سو،لا،سي،دو…..,a,b,c,d,e,f,g,a …وبالمناسبة:أيّة آلة ستختار؟
-الغيتار بالطبع!
-هذا ما يختاره الشباب دائماً!لا بأس إذن،سيساعدك دانيال في التمرين،سأطلب إليه أن يهتمّ بك!
كان مشروع تقرُّبي من دانيال،غامض الملامح،ولم يكن واضحاً ما كنت أرجوه من وراء هذا التقارب،على وجه التحديد!وهل كنت سأستخدمه كجسرٍ للتقرّب من المدرّسة؟!بدأت بإهدائه زجاجة نبيذ،هذه هديّة مناسبة بالنسبة لمسيحي،أو هذا ما قدّرته على أيّة حال!ولكنّ ردّ فعل دانيال كان فاتراً،سأهديها إلى أمّي العجوز:هكذا قال!
أمّاهو فيفضّل الأشياء الأكثر حرارة واشتعالاً!
قلت له:إذا كان الحال كذلك،فأنا أفضّل أن أهديها إيّاها بنفسي!
-لِمَ لا ترافقني إذن؟
-لا بأس،هيّا بنا!
كان منزلاً متواضعاً،وقد فُرشت جدرانه بصور المسيح والقدّيسين،وعُلّقت صلبان كثيرة هنا وهناك!
هذه عائلة أنجلو هندية،من الخلاسيين الّذين يأنف الإنجليز نسبتهم إليهم،العنصريّة المعهودة!ومع ذلك فقد ورثوا العيون الزرقاء والخضراء،واللغة والثقافة،يا لغباء العنصريّة!
كان من الواضح أنّ دانيال أعزبٌ،يعيش مع والدته العجوز،وقد تقدّمت به السنُّ قليلاً.
كنت مستغرقاً في تأمّل الصور،حين حضرت السيّدة العجوز،ورأيت أن أتملّق مشاعرها قليلاً،فشرعت في استعراض الأسماء:هذا هو المسيح،وهذا القدّيس جورج في مواجهة التنّين،وهذا لا بدّ انّه بطرس،وهؤلاء هم الحواريّون،وها هو مشهد العشاء الأخير!
اتّسعت عيناها دهشة،وارتسمت الحيرة على وجهها:
-هل أنت مسيحي؟
-لا يا سيّدتي،أنا مسلم!
-مسلم؟وكيف تعرف كلّ هؤلاء القدّيسين؟لا بدّ أنّك مثقّف جيّداً!
-لا يا سيّدتي،أعرفهم من خلال ديني،”ماري” عندنا قديّسة،والمسيح رسول،نبيٌّ نعظّمه كثيراً،والحواريّون لهم عندنا مكانة نقدّسة!
-ميريام قلت؟هكذا يسمّيها اليهود،ولكنّك لست يهوديّاً،أليس كذلك؟
-قلت لك أنّني مسلم،وكل هؤلاء يحظون عندنا بالتقديس!
-ما دمت تقدسهم فهذا شيءٌ جميل،لا بدّ أنّك تعبد الله إذن،ولست وثنيّاً مثل هؤلاء القوم؟
-لا يا سيّدتي لستُ وثنيّاً بأيّة خال،فديننا قائمٌ على التبرّؤ من كل مظاهر الوثنيّة،حتّى ما لصق منها بالمسيحيّة ذاتها!
-لا بأس،لا بأس:قالت،المهم هو المحبّة،المحبّة هي كل شيءٍ في هذا العالم،الكراهية شيءٌ بغيض،أنت توافقني الرأي أليس كذلك؟
-بالتأكيد يا سيّدتي،وبمناسبة المحبّة،فقد أحضرت لك عربونها،قلت وأنا ألتقط الزجاجة من على المنضدة الّتي وضعتها عليها،ساعة دخولي!
طفت السعادة على وجهها:
-أنت سيّدٌ مهذّبٌ:قالت.
-نعم يا سيّدتي،أنا كذلك بالفعل…
ضحكت وهي تربت على كتفي،وقاطع دانيال قائلاً:
-أمّا انا فلم يُحضر لي شيئاً!رغم أنّي أخبرته ماذا أفضّل!قالت الأم:
-أنت أيُّها السكّير؟إنك تحبّ الكحول أكثر من أمّك ذاتها!لا تحضر له شيئاً أرجوك!هذا الشريب،لو أطلقت له العنان،لفضّل أن يظلّ منقوعاً في الخمر!
بدأت أغزل للمٌعلّمة حبال الود،وقد نجحتُ في جعلها تستلطفني،وأخيراً خرجنا معاً،الحدائق كثيرة هنا،ويمكنك أن تمشي فيها إلى ما لا نهاية!وكأيّ عاشق قدّمت لها وردة،قالت:
-لم أتخيّل أن أخرج يوماً برفقة أجنبي،انت أوّل أجنبي أصادفه في حياتي!
-الحب يلغي الفوارق كلّها!
-حقّاً؟أجابت متشكّكة!
كانت تضع سبّابتها على شفتي لتحول بيني وبين تقبيلها،قالت:
–ما تحت الثياب،يبقى هناك لما بعد الزواج!
-وهل حقّاً سنتزوّج يوماً؟
-|أنتَ من يقرّر!
-وماذا عنكِ أنتِ؟
-أنا سعيدة هكذا!
-وهل تتمنّين أن تدوم السعادة هكذا؟
-آه لوكان ذلك ممكناً!لا شيء يدوم إلى الأبد!
كنّا نتمشّى وذراعها حول خصري،وذراعي حول خصرها،كان هذا هو الحدّ المسموح به،تشابك الأيدي كان مسموحاً به أيضاً!
لم يخرج دانيال من حياتي،بهرتني براعته الموسيقيّة،حتّى أنّي تعلّمت عزف بعض الألحان،اختارها هو لي،وراقتني بالفعل كثيراً:الكوندور باسا ،فيفا جيتارا..يجذبنا اللحن الإسباني نحن العرب،وحتّى ألحان المايا الرعويّة ،لا أحد يعرف إلى أين تمتدّ جذوره البعيدة،في التاريخ البشري الموغل في القدم…كلّنا لآدم،أليس كذلك؟وإذن فالسلالات تتقاطع عند نقطة ما،في الزمان والمكان!وحتّى الأديان والمفاهيم تتشابه،وكأنّها صورةُ وزّعت على عددٍ من المرايا،وكلّ مرآة تعكسها بطريقتها الخاصّة!ومع ذلك يختار البشر الطريق الصعب:طريق الشقاق والنّزاع!ويبقى الحب وحده قادراً على اختراق الحواجز،أو القفز فوقها،إنّه يعبرها بشفافية ضوءٍ جوّابٍ في الكون،لا شيء يحول بينه وبين بلوغ هدفه!
في تلك الأثناء حضر للبلدة عربي آخر،ولم يجد ملاذاً عيري،لأعمل له دليلاً ومرشدا،ومع ذلك لم أضق به ذرعاً،كان لطيفاً،ولا زال محتفظاً بشهامة العربي،عكس ما رأيته عند كثيرٍ من المغتربين.
وعلى حين غرّة،انقلب كل شيءٍ رأساً على عقب،كنّا جالسين في أحد المطاعم الفاخرة،نتناول غداءنا على مهل،وفوجئنا بأربعة رجال،يتحلّقون حول الطاولة،وأومأ أحدهم نحوي وهو يتحقق من صاحبه:
-هل هذا هو العاشق المتيّم؟
أجابه الآخر بهزّة من رأسه بالإيجاب!
نهض عليّ غاضباً وقد ضمّ قبضتيه استعداداً للشجار:
-ما هذا؟ما الّذي يجري؟
وجّه أحدهم كلامه إليه:
-هل هذا صديقك؟قال مشيراً إلي!
-نعم.أجاب عليّ!
قال الرجل وهو يُشيح بوجهه عنّي:
-إذن إنصحه!قصّة الحب انتهت…”كيران” ستتزوّج غداً!في ولاية أخرى،ولن ترجع إلى هنا أبداً!
لقد أراد صاحبك أن يوقع العائلة في العار،ويدنّس شرفنا!ولكنّ والدها تدارك الأمر،شكراً لله،أنّها انتهت عند هذا الحد!قل له أن لا يحاول التقاط الخيط من جديد،لكل شيءٍ نهاية،علينا أن نتقبّل القدر،حتّى ولو كنّا عاشقين!العاشق لا يرى،العاشق رجلٌ مجنون،ولأنّه من الصعب عليه أن يفهم،فهذا دورك على أيّة حال!
استدار الرجال ومضوا!
التفت عليّ إلي وقد أُسقط في يده،وتملّكته حيرةٌ بالغة:
-ما الّذي يجري؟ من هؤلاء؟
لم أكن في حالٍ يسمح لي بأن أقول شيئاً،دبّ الوهن في روحي،وأُجهشتُ بالبكاء،دفع عليٌ الحساب،وخرجنا صامتين،ولم يُلحّ عليّ بشيء،أوصلني إلى منزلي،وتركني وغادر!لم يرد أن يحرجني،برؤية ضعفي،والدّموع في عيني:
-سأراك فيما بعد:قال..وتركني وذهب….
التقيت عليّاً فيما بعد،بعد أن أعياني البحثُ عن كيران،لم أعثر لها على أثر،وكأنّها كانت من صنع خيالي!وليس شخصاً حقيقيّاً،قلت لعلي:
-سأغادر هذه البلدة،لا أستطيع أن أقيم فيها يوماً آخر،هذه بلدةٌ مهجورة،لا شيء فيها يستحقّ الإلتفات!
قال عليّ:
-ألهذه الدرجة يخلو العالم حين يُغادرنا من نُحب؟لم أكن أتخيّل أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة!رُبّما لأنّي لم أقع في الحبّ من قبل!