حلــم مـحـقـق – قصة


حورية الظل *

( ثقافات )


بدت الطرقات زلقة. سمعت صوت فرملة فاستدرت، جفلت طيور صغيرة كانت على فنن إحدى الأشجار المصطفة بجانب الطريق، تساءلت بحيرة وأنا أرى كل الناس يغلقون الأبواب والنوافذ في وجل، ويسدلون الستائر بسرعة دون أن يتجرؤوا على مد رؤوسهم إلى الخارج . 
يسكتون الأطفال بمنحهم قطع الحلوى، وينسحبون إلى أقصى زاوية في بيوتهم. حذوت حذوهم ودخلت بيتي، وقبل تخطي العتبة استدرت والتفت يمينا وشمالا، مسحت الشارع ببصري من كل جهاته لأتأكد من عدم وجود ما يريب قبل إغلاق الباب بإحكام، لكني لم أقتنع بما فعلت، أردت أن أبقى في الخارج لأكون على بينة من الأمر، لكن زوجي جرني من يدي وأغلق الباب بعنف. ما يفعله خوفا علي، يعرف تهوري الذي ينعتني به كلما أتيحت له الفرصة والذي أسميه شجاعة.
تساءلت: لمن هذه الدروب المهجورة؟
ولماذا هذا الصمت الرهيب ؟ الذي يسبق العواصف والرعود التي ستجلجل وستتفرقع في أية لحظة.
كان جارنا يجلس على كرسي خشبي قرب النافذة المقابلة لنافذتنا، عينيه مغروستان في شيء بين يديه، لم أتبين ما هو، ربما جريدة أو كتاب، يعطي ظهره لمائدة مستديرة خشبها مصقول وداكن وبدون مفرش، امرأة بدينة تبدو ألوان ثيابها غامقة بلون الحزن، تروح وتجيء، فتخفي الرجل الجالس مرة وتسمح له بالظهور أخرى، لكن الكلام منعدم بينهما، كل منهما منهمك فيما يقوم به ومركز فيه،هل تعد له أكلته المفضلة؟.
تصلني من الشارع بين الفينة والأخرى أصوات مرور السيارات، لكنها تتلاشى بسرعة، كأنها تفر من شيء غامض أو من مطاردة هوليودية. فتحت النوافذ ورفعت الستائر، لكن الأوامر كانت صارمة ولا يمكن مخالفتها، فخالفتها.
ماذا في إمكانهم فعله؟ 
سيقولون جنت على نفسها براقش.
زوجي لم يرد أن يخالف الأوامر فأراد إغلاقها، أقسمت بأغلظ الأيمان إن هو فعل، فسأخرج للشارع، خشي أن أفعلها، يعرف عنادي الذي لا يلين، ذهب إلى غرفة النوم وأغلق الباب والنافذة، وربما اندس تحت الغطاء ليستريح وينتظر أن ألحق به ليذيب خوفي بين ذراعيه، أو سيفتح حاسوبه ليكمل عملا لم ينهه بعد.
أطللت على الشارع فرأيت أوراق الأشجار المصفرة تغطي الرصيف والإسفلت، ربما لغياب رجال النظافة، هل يخوضون إضرابا عاما؟
التوجس والهمس والهمهمة تطغى على أحاديث المدينة كلها.
والدروب الضيقة المعتمة تقفز القطط والفئران بين جنباتها دون خوف أو وجل، بحرية تامة بعدما تركها الناس وانجحروا في بيوتهم خوفا من مخالب مجهولة قد تمتد في أية لحظة لتستل أرواحهم أو أرواح أحبتهم.
الدخان يتصاعد ويسري على مهل ليتسرب من تحت الأبواب وشقوق النوافذ فيصل إلى الأنوف. لم أعرف مصدره، هل هناك حريق في مكان ما؟
أم أحد المشردين يستدفىء بالجرائد وأوراق الشجر والأعواد اليابسة؟
الحرائق أضحت أمرا مألوفا، كل يوم نسمع عن حرائق مهولة تندلع في أماكن كثيرة ، في الغابات والحقول والبيوت والإنسان أيضا، فارتفعت درجة حرارة الأرض وأضحينا مهددين بويلات لا تعد وأمرها لا يرد.
أنا أبالغ في تخميناتي لا غير.
دوى انفجار هائل ليكذب استنتاجي الأخير، فاهتز لها قلبي، ومعه زجاج وعوارض النوافذ والأبواب والأثاث، تبعه انفجار ثاني وثالث ورابع وخامس، و….توالت الانفجارات إلى حد أصبحت معه مألوفة، لم تعد تصم الآذان أو تثير الرعب أو تجعلنا ننتظر طائر الموت المظلم الذي قد ينقض ليخطف أرواحنا في أية لحظة، وعلى حين غرة ودون استئذان.
اشتد بكاء الأطفال وزاد عن حده، فلم تعد تنفع الحلوى وأصبحت المهدئات هي الحل الأنجع ، أضحى يحتاجها الكبار أيضا.
أردت تشغيل التلفزيون لكن التيار الكهربائي منقطع، والعتمة تسود المدينة، خرج من حجرة النوم، ربما أحس بالضجر أو انتابه القلق علي ويريد أن يمدني بالشجاعة ويمنحني الأمان، أو هو أيضا هذه المرة في حاجة لمن يمد له يد العون.
حاول من جديد إقناعي بإغلاق النافذة، لكنني لم أتحول عن إصراري قيد أنملة، طلب مني إعداد فنجان قهوة بلا سكر دون أن يعاود محاولة طلب إغلاق النافذة، جيراني المقابلون أيضا لم يغلقوها، والرجل لا يزال منهمكا في قراءة ما بين يديه ، هل هو كتاب أم جريدة؟ والمرأة البدينة جالسة هذه المرة بجانبه تتكلم ، فيرفع رأسه بين الفينة والأخرى ليجيبها، يبدوان متحليين بالكثير من الشجاعة والتماسك، غبطتهما وإحساس بالرعب يجتاحني ويخلخل ركبتي، رغم النافذة المفتوحة التي توحي بشجاعتي.
عاد التيار الكهربائي، شغلت التلفزيون فبدت صور الدمار والخراب والدماء والدخان والجري هنا وهناك، وسيارات الإسعاف تنطلق محملة بمن لا يزال الأمل في إنقاذهم قائما، وأم ثكلى تندب ابنها بحرقة وترتمي فوق جثته التي من كثرة شبابها تكاد تعود للحياة، وأسرة المستشفيات وممراتها مكتظة بالمصابين، والأطباء يحاولون إسعاف من يمكن إسعافهم، ورجال المطافىء يصوبون خراطيم الماء إلى اللهب المنبعث من السيارات التي شبت فيها النيران بسائقيها وركابها، وكلاب تتشمم آثار الأحياء المدفونين تحت الأنقاض، وأشلاء الموتى تجمع في أكياس بلاستيكية سوداء ، وأطفال أفرموا تحت الردم ، وأب قطعت رجليه شظية فأصبح كسيحا، وأرواح بريئة صعدت إلى السماء ، لم تبق إلا الدماء التي يحاول رجال الإطفاء شطفها بخراطيم الماء.
أصبحت المدينة غارقة في رائحة الدم والدخان. ولا يزال يسمع إطلاق النيران في الظلام. يمر الرصاص في أماكن بعيدة كالشهب، وأصوات الانفجارات تتوالى دون أمل في توقفها، مصرة على إكمال المهمة التي بدأتها في إبادة الخلق .
أطفأ التلفزيون ليجنبني رؤية ما سيجعلني أصاب باكتئاب من الدرجة الثالثة فأعدت تشغيله، حاول إقناعي بإغلاق النافذة كما هي الأوامر.
قلت: لماذا جيراننا يفتحونها؟
يشرب القهوة وظهره إلى النافذة، ينظر للسقف أو يغلق عينيه وكأنه يتجنب النظر في عيني أو ينتظر انتهاء الكابوس.
نزلت الظلمة ولم أجد شمعة أخفف بها من حلكة الليل ورهبته، جيراننا حول المائدة وشمعة بينهما تضفي على المشهد مسحة من الرومانسية، وهما يتساران، تمنيت أن أسمع حديثهما، تبدو مشاعر الألفة والود منزرعة بينهما فتنبت ورودا وأزهارا تعطر حياتهما.
اندسسنا في فراشنا ونمنا، وفجأة حدث انفجار مدوي، هل هو يوم القيامة؟ اهتز السرير والسقف وعوارض النوافذ وتكسر الزجاج، وضعت راحتي على وجهي لأنني توقعت انقضاض السقف الوشيك، سكن كل شيء فجأة، قمت مسرعة وفتحت النافذة، صدمتي كانت بلا حدود، بيت جيراننا والبيوت المجاورة منهارة والدخان يتصاعد منها ، بدأت أصرخ وأصرخ.
أستفقت على صوت زوجي وهو يوقظني ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ناولني كوب ماء واستفسر عما بي، فبدأت أردد، الحرب …الحرب …الحرب، نصحني بعدم الإسراف في مشاهدة نشرات الأخبار وأدار لي ظهره وعاد للنوم.

* قاصة وناقدة من المغرب

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *