“سرايا عابدين” … دراما مستعارة


بسمة النسور *



لو لم ينهمك الشارع العربي، قبل عامين، بالمسلسل التركي “حريم السلطان”، لاستطعنا القول إن مسلسل سرايا عابدين المعروض حالياً على محطة mbc، ويشهد إقبالاً كبيراً، يشكل قفزة نوعية في الدراما العربية، نظراً لحشد نجوم من الصف الأول المشاركين فيه، في مقدمتهم المبدع المتميز في كل أدواره الممثل السوري، قصي الخولي، ومع إدانة موقفه غير البريء إزاء تأييده ممارسات النظام السوري، لكن، لا يمكننا تجاهل قيمته الإبداعية الكبيرة، إلى جانب النجمة المصرية، يسرا، التي أدت دور والدة الخديوي باقتدار كبير، أكدت فيه براعتها ممثلة مخضرمة لها تاريخ طويل في تأدية نماذج نسائية مختلفة، إضافة إلى مشاركة أسماء كبيرة من الفنانين، ممن لا يقلون إبداعاً وشهرة.

علاوة على ما تميز به إنتاج العمل من إمكانيات باذخة، بلغت عشرين مليون دولار، سخّرتها الجهة المنتجة، لتتمكن من بثّ ملامح الحياة العجيبة التي كانت تدور في أجواء قصر عابدين، بكل ما حفل به من مظاهر الترف والأبهة، مما وفر متعةً بصريةً للمشاهد المذهول من حجم الرخاء الفاحش في ذلك الزمان الغابر، بحيث تغرق نساء القصر في حمامات الحليب والعسل، ويُجنّد مئات الطهاة والموسيقيون والفنانون والحرفيون.. جيوش من العاملين يهرولون على مدار الساعة لتأمين راحة الخديوي النزق، الغارق وحاشيته في غيبوبة الترف والدلال بين البخور والعطور، في انفصال كامل عن معاناة الشعب المسحوق، دللت على مظاهر بؤسه مشاهد الاضطهاد والقهر والذل الذي تعاني منه الطبقة العاملة في القصر، إذ نشاهد عاملات النظافة في القصر المترف، يسرقن كسرات الخبز الفائضة، وبقايا الأطعمة الملقاة للقطط والكلاب، ويعبرن عن حالة الجوع والحرمان التي يعشن في ظلها، تحت السقف ذاته الذي يأويهن والعائلة المالكة.

وحين الانتقال إلى عالم الجواري في القصر، وهو ليس أكثر من دار بغاء كبرى، مسيجة بالغموض وأجواء ألف ليلة وليلة، من حيث تقصد الإثارة الجنسية، والتركيز على صراعاتهن لنيل ليلة خديوية حمراء، تؤمن لهن الحماية والامتيازات، نلمس المدى القبيح الذي وصلت إليه الطبقة الحاكمة في ابتذال جسد المرأة ومصادرة إنسانيتها، وتحويلها إلى مجرد شيء جاهز عند الطلب.

وبطبيعة الحال، هذه وقائع عاشتها المرأة جارية، تباع وتشترى وتختطف، ضمن سياق تاريخي، قد يكون مفهوماً التطرق له، من وجهة نظر أكاديمية بحتة، بغية دراسة أبعاد تلك المرحلة. لكن، من غير المفهوم مقدار الفضول الذي يعتري المشاهد المعاصر في ملاحقة خبايا القصر، حين تكشف عنها الكاتبة، هبة مشاري، تباعاً في أسلوب يعتمد التشويق والإثارة.

وقد تصدرت بداية المسلسل عبارة تفيد بأن العمل تأليف درامي مستوحى من قصة حقيقية. وهنا، يطرح سؤالٌ عن المعايير الفنية لتمييز الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال، وآخر أخلاقي حول أحقية الكاتب في اختلاق حقائق، ليس لها وجود، وإلصاقها بحيوات أشخاص حقيقيين، خدمة للبناء الدرامي.

ليس صعباً على المتابع التقاط نقاط الالتقاء الكثيرة بين عوالم “حريم السلطان” و”سرايا عابدين” من حيث الديكور والأزياء، وطريقة معالجة الحدث التاريخي، وجرعة الخيال الفائضة والمضافة إلى الشخصيات الحقيقية، والحشد الكبير من الوجوه النسائية الجميلة، الضرورية للتأكيد على فحولة السلاطين.

وردت في العملين اللذين عبرا عن ملامح تلك الحقبة التاريخية ثيمات مشتركة، أبرزها مكائد الزوجات والجواري وتسلط الأم الكبيرة، وغيرها من التفاصيل التي تمكنت من شد اهتمام المشاهد العربي المترقب، باهتمام بالغ، مما يدور في أرجاء القصر من حيل ومؤامرات، ومشاهد ذات إيحاءات جنسية فجة ومهينة للأنوثة.

ومؤكد أن “سرايا عابدين”، العمل الدرامي الضخم، وربما غير المسبوق على الساحة الدرامية الرمضانية العربية، من حيث الإنتاج على الأقل، سيحقق، على الرغم من هناته الكثيرة، أعلى نسبة مشاهدة، غير أن ذلك لن يغير من حقيقةٍ ساطعةٍ مؤسفة، تؤكد على أننا ألدّ أعداء الخلق والابتكار والأصالة، وبأننا بتنا ملوك التقليد بلا منازع.
– 
– العربي الجديد

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *