عربة بلا مكابح


*صلاح الدين سر الختم علي

كانت السيارة الفخمة تتهادى على مهل في الشارع المحاصر، على ضفّتيه، بالقاذورات وجيوش المتسوِّلين والأطفال المشرَّدين ومعاقي الحروب وغيرها. كانت ثمة موسيقى أجنبية حالمة تخرج من جهاز التسجيل، فتبدو العربة من الداخل كأنها تتمايل مع الأنغام، والزجاج المظلل يحجب شمس الخرطوم اللافحة عن بلوغ من في الداخل، ولكنه لا يحجب رؤيتهم لِمَنْ، ولما هو في الخارج. 

كان «الوسيلة» جالساً وحيداً ممسكاً بمقود السيارة بأصابع رشيقة ناعمة يحسبها من يراها أصابع أنثى، ولا يتخيّل أبداً وجود صلة بينها وبين تلك الجثّة الضخمة خلف المقود لذلك الرجل الذي يزحف نحو الستين. كان «الوسيلة» مشغولاً بإجراء عمليات حسابية معقّدة للعائد المتوقَّع من المشروع الذي أنهى لمساته الأخيرة قبل قليل (مشروع أرض الخير)، الذي (باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب). ابتسم ابتسامة صغيرة وهو ينظر إلى لحيته الصغيرة في مرآة السيارة حين تذكّر تلك الابتسامة الذئبية لشريكه الوزير وهو يوقَّع على الأوراق، ويدفع بها إلى مدير مكتبه الثعلبي الملامح. كانت الابتسامة تعني الكثير. عاد «الوسيلة» إلى الواقع منزعجاً حين لمح أحد المعاقين يعبر الشارع فجأةً من دون اكتراث. لعنه في سرّه، ورفع قدمه تدريجياً عن دواسة الوقود، وداس على الفرامل. لم تستجب الفرامل، داس عليها ثانية، لكنها لم تستجب. كانت المسافة قد ضاقت بينه وبين المعوَّق، انحرف بالسيارة يمنةً فتفاداه بالكاد، ثم أعاد السيارة إلى الشارع مرة أخرى، جرّب الفرامل ثانية بلا فائدة، فانتابه قلق حقيقي. حاول تهدئة السرعة، فلم تستجب دواسة الوقود لتعليماته. بات القلق هلعاً، انطلقت العربة لا تلوي على شيء. ظلّ يجاهد خلف المقود محاولاً تفادي اصطدامات وشيكة بين الفينة والأخرى. يميل يمنة ثم يسرة، يدوس على الفرامل مراراً بلا جدوى، فالعربة صمّت أذنيها عن تعليماته. أغلق المحرِّك بالمفتاح، لكن الماكينة ظلّت تهدر بلا توقُّف كأنه لم يفعل شيئاً. ارتسم على وجهه فزعٌ مماثل للفزع الذي رآه على وجوه المارّة الذين غازلتهم السيارة، وكادت تدهسهم، ركّز جهده على التحكُّم باتجاهات السير، فقد كان ذلك هو الأمر الوحيد المقبول عندها. واصل الالتفاف يمنة ويسرة حتى تمكَّن من الخروج بالعربة من المدينة إلى طريق المرور السريع. لم تتوقَّف العربة، ظلّت الماكينة تهدر وكأنها تضحك ضحكة شريرة قاسية هازئة منه، لعن نفسه علناً حين تذكّر أنه اعتاد منذ أن بات عنصراً حكومياً فاعلاً أن يملأ خزّان عربته الخاصة من وقود الحكومة حتى يسيل خارجاً ويتدفَّق. هدرت العربة، وظلّت تنهب الطريق كأنها تطوي سجادة عن الأرض. قال لنفسه: أيّ شيطان هذا الذي سكنها وأمسك بها من قرونها؟! بزغت في ذاكرته صورة أهل الكمبو* الذين كان وراء إخلائهم منه بغية بيعه إلى مستثمر قادم على متن طائرة من بلاد تموت من النفط حيتانها، ترى هل هو كجورهم** الذي يمسك بالعربة من قرونها الآن؟! هل هذا صوت الماكينة أم صوت طبولهم وهم يرقصون رقصة حرب بدائية، ويتمتمون بتعاويذ سحرية ليحترق ويتفحَّم في سيارته؟!….. بكى بصوت مسموع، وحاول عبثاً التحرّر من حزام الأمان ليقفز من السيارة المسرعة، لكن الحزام بات عَصِيّاً على يديه، بات ممسكاّ به بقوة كأنه جزء أصيل من مؤامرة إحراقه حيّاً الافتراضية. بكى وأخذ يتمتم بما يحفظ وبما تبقّى في ذاكرته من آيات القران في هلع جعل الكلمات تختلط. ازدادت السرعة وعلا هدير الماكينة، غشيته سكينة مفاجئة فسكن في مكانه، واشتعلت ذاكرته بالصور المتدفِّقة. مرّ أمام عينيه شريط حياته كاملاً في تلك اللحظات، أدرك في الحين واللحظة فقط أنه طوال حياته كان عربة بلا مكابح، بلدوزراً غاضباً من بلدوزرات البلدية التي تجيد الاستئساد على الفقراء وبيوتهم الطينية، وتقف عاجزة أمام القصور المنهوبة أرضاً وعمارةً وسيارات راضعات من وقود الحكومة بلا حساب. لمعت في شاشة ذاكرته توسُّلات تلك الفتاة التي ألقى بها فقرها تحت عجلاته، داس عليها بلا رحمة، كان أصمّ وأعمى ووحشاً.
لا قيود ولا مكابح له حينها، شراستها لم تزده إلا شراسة وشهوة، يتذكّر لحظة انكسارها وسكونها الذي يشابه سكون الموتى. أتراها هي التي تمسك بالعربة من قرونها الآن؟! تتابعت وجوه كثيرة في شاشته: وجوه أولئك الذين أُعدموا بناءً على تقريرٍ كذوبٍ، عكف لياليَ على نسجه من خياله، مضيفاً إليه وقائع تقود إلى إعدام حمامة غشيت مورد ماء في وقت وردت الماء فيه خيول يشتبه أنها للأعداء، ثم وجه ذلك الخمسيني الذي انتحر في بيت مستأجر، لأنه لفّق له تهمة رشوة حتى يزيحه عن الطريق، حين بات سدّاً أمام نهر أحلامه. ثم لمع في الشاشة وجه ذلك الموظّف الذي كتب فيه ما لم يكتب مالك في الخمر، فظلّ يتنقّل مجبراً بين المدن والقرى بغية إجباره على الاستقالة، كانت حقائب الرجل التي ملّت الرحيل- فيما يبدو- هي التي منعت المكابح من العمل، فصرخ «الوسيلة» متوسِّلاً: (أعطني فرصة سيدي، وستعود حقائبك إلى مكانها، سأكذّب نفسي علناً). كان صوت المحرِّك أعلى متَّخِذاً شكل ضحكة طويلة هازئة، يغيب وجه الموظّف حامل حقائب الرحيل، ويملأ الشاشة وجه ذلك الذي دسّ له «الوسيلة» مجموعةً محترمةً من قناديل البنقو في حقيبته، وأردفها ببلاغ من مجهول حادب على الوسط، فبات الرجل محكوماً بمؤبدٍ كاذبٍ في سجن لا نوافذ فيه. وتتابعت الصور والوجوه والقصص، فصرخ «الوسيلة» بجنون: (حكمت المحكمة عليك بالسجن المؤبَّد في جوف الطريق…. حكمت المحكمة عليك بالتأمُّل العميق بلا رفيق في عربة بلا مكابح على طول الطريق)، ثم أخذ يقهقه بلا توقُّف، وبلا مكابح… كانت العربة تسير الآن بجنون مُتَّجهة إلى الضفة الأخرى بصيدها الثمين، كانت الموسيقى الأجنبية وبرودة جهاز التكييف يختلطان مع قهقهة لا تتوقَّف. بغتةً ارتفعت العربة عن الأرض تدريجياً، لملمت عجلاتها كما تفعل الطائرات عند الإقلاع، ووثبت كقطة ماكرة صوب الهاوية على جانب الطريق، ثم دوّى الانفجار، وتصاعد اللهب.
* الكمبو: يطلق في السودان على مجموعة مساكن شعبية فقيرة. ولعل أصلها يرجع إلى الكلمة الإنجليزية «CAMP» التي تعني معسكراً.
** الكجور: كلمة في العامية السودانية تعني نوعاً من أنواع السِّحْر.
_______
*الدوحة

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *