المغربي أحمد جاريد رسام الرقة التي تتألم


فاروق يوسف *



يباشر الرسام المغربي احمد جاريد (1954) الرسم في اللحظة التي يستنفد فيها الوصف قدرته على الإحالة إلى الواقع. ما من شيء مما نراه على سطح اللوحة يمكنه أن يجرنا إلى ذكرى بصرية سابقة، كما لو أن العالم قد خلق لتوه.

لقد أزاح الرسام المرئيات من طريقه ليعيد تأثيث ذلك العالم بما يراه مناسباً لنظرة صفائية، صارت بالنسبة له مقياساً لطبيعة علاقة الرسم بعناصره التي جرى تفجيرها من الداخل.

هل كان جاريد يجرؤ على القيام بممارسة المحو لو لم يعنه تمرين حاذق في حرفيته على القبض على عناصر الرسم وهي في حالة انتشاء وتسام، هي الحالة نفسها التي يعيشها الرسام وهو يفلت من وظائف العين المباشرة ليستسلم لخيال يد صارت تنقب في المنسيات عما يتماهى مع انفعالها الحر؟

يبدو الرسم وهو يعكس النشوة التي يعيشها الرسام كما لو أنه نوع من الترجمة إلى لغة غامضة، يستعين الجسد من خلالها بالهواء ليعصف بمفرداته. وهو ما تشهد عليه التفجرات التي تظهر على سطح تصويري يكاد يكون ممتلئاً، رغم الشعور بأن هناك يداً قد امتدت لتزيح وقائع، كانت إلى وقت قريب تشكل بأصواتها وصورها مادة لنعيم تصويري آهل بما يذكر بالعالم.

لذلك لا يشعر المرء بالوحشة حين يقف في مواجهة سطوح بيضاء يختبئ تحتها الكثير من حبر الكلام. وهو حبر تحيله شعرية محموله من الرؤى إلى مصدره الشفاف.

ألا تستدعي محاولة من هذا النوع الكثير من الشقاء البصري؟

يستبدل جاريد المرئيات بأثرها. ولكن أين يقع ذلك الأثر؟ حين يركز الرسام كل جهده على اظهار اللاشيء مخلفاً الأشياء وراءه فإنه ينتقل بنا إلى عالم مجاور، مشاهده تفنى من أجل أن تحيا خلاصاتها.

علينا أن نتخيل كم من الأزهار تموت من أجل أن تنبعث قطرة عطر واحدة.

جاريد يلاحق قطرة العطر تلك باعتبارها ضالته التي لن يكون الرسم ممكناً إلا من خلالها. لا يواجه جاريد الثرثرة البصرية بالصمت. إنه يستخرج من خلال الأثر حياة كامنة، حياة نظن أننا عشناها، ولكنها بسبب عصيانها تظل متخيلة. الشيء الكثير من الهذيان يكون ضرورياً حين تمتنع المرئيات عن تفسير وجودها التعبيري. لا يرى جاريد في اللاشيء الذي يتتبع خطاه نوعاً من الخواء. هو بالنسبة له كل شيء كان من الممكن أن يجلب راحة وهدوءاً ونعمة للروح.

تحيلنا سطوح جاريد إلى عالم ما بعد الرسم، لغته لا تجرد الواقع بل تبقي عليه دفيناً، بعد أن تصفيه من شوائبه، التي هي صور لم تعد قادرة على أن تشي بأخطائه إلى ما لا نهاية.

كان على الرسم أن يبقي للواقع شيئاً من كرامته، حين يبقيه عزيزاً في أثره الذي يمكن أن تحتفي به العين باعبتاره نوعاً من الموسيقى. بهذا المعنى يكون جاريد قد انتهى إلى خلاصة صوفية، سيكون الزهد واحدة من أهم مفرداتها. ولكن هنالك فارق بين أن يزهد المرء بمواد وسبل وأساليب الحياة المباشرة وبين أن يكون زاهداً في الرسم؟

يتحمل العالم الواقعي ما لا يتحمله الرسم. وهنا يكمن رهان جاريد على رسم يعيش نبوءة عصر صار يطرح على الرسم اسئلة فنائه. ماذا بعد رامبرانت وفنسنت وسيزان وفيلاسيكز والشرقاوي وتابيس ومونيه وبيكاسو وكيفر وسي تومبلي؟ ألم يمتلأ الفضاء؟ أبقي هناك ما يُرسم؟

برسوم من نوع رسوم احمد جاريد يمكننا أن نراهن على رسم لا يدير ظهره إلى الماضي بقدر ما يستأنف حيويته من اللحظة التي توقف عندها ذلك الماضي متأملاً معجزاته. بالنسبة لجاريد فإن التقنية ليست كل شيء، غير أنها تقع في صميم تجربته. في كل سنتيمتر من لوحته هناك اتقان مدرسي، هو بمثابة اشارة إلى شكل عالجه الرسام قبل أن يخفيه.

ما انتهى إليه جاريد من خلاصات بصرية هو متاع سفر طويل بين الأشياء، مرسومة ومحكية وما لايمكن النظر إليها إلا في سياق خرافتها الرمزية. إنه يسلينا من أجل أن نكون مستعدين للقاء غد، تكون فيه المعاني متحررة من أشكالها الثقيلة. وهي المعاني ذاتها التي سيكون على الرسام الاستغناء عنها من أجل أن تخلص الحياة إلى صفائها. يسلمنا أحمد جاريد إلى عالم تخدمه المعاني من غير أن تتحكم بمصيره.

* الحياة اللندنية

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *