إخضاع الإبداع لمعايير المنهجية العلمية




د.فيصل غرايبه *

( ثقافات )



أصبح التداخل بين العلوم أمرا ضروريا عدا عن أنه أمر مستحب، إذ أنه يزيد من متعة البحث،ويوسع من أفق التفكير،ويقود إلى سعة الاطلاع،وخاصة إذا كان من شأنه الرقي بمستوى المعرفة والتزود بآليات التطوير ومقومات التخطيط، سعيا إلى الرفع من مستوى الحياة الإنسانية، وطموحا إلى تحديث جوانبها وزيادة إمكانياتها، للتماشي مع مستجدات الحياة ومواكبة روح العصر.
إدراكا لهذه المعطيات وتداعياتها على مستوى الإبداع،فقد جذبت الأعمال الروائية لكاتب أردني متقن لشروط الكتابة الروائية، اهتمام باحثة في اللغة العربية وآدابها،تتقن شروط النقد الأدبي، وقد استدعى كلاهما في تفكيرهما وصياغاتهما أطر وقولب العلوم الأخرى. أحسب أن هذا ما دفع باحثة في النقد الأدبي، تسعى للحصول على الدكتوراه في هذا الحقل أن تلتفت إلى أعمال هذا الروائي ومن ثم لتتمعن فيها،وتفكك متونها وتعيد تركيبها من جديد، وتمعن في النظر إليها بعمق،مستخدمة مناهج البحث العلمي ومخضعة ما تتمعن به لمعايير موضوعية.هذا ما فعلته ابهارة قاسم الطراونه التي تمارس تعليم النقد الأدبي في قسم اللغة العربية في جامعة مؤتة وتبحث فيه،عندما تقدمت بأطروحتها لنيل الدكتوراه في دراسة الإبداع الروائي واتخذت من أعمال هزاع البراري الروائية نموذجا،فتعالج تجربته في هذا المضمار، وفقا لمنهج التحليل التكاملي والتحليلي الاجتماعي. 

دوافع البحث وإطاره:

إن من يطلع على روايات هزاع ضامن البراري،المولود في حسبان قرب عمان عام1971،يجدها تستحق الدراسة والبحث،لما تحتويه هذه الروايات من مضمون متنوع ومطابق للواقع المعيش،ان هذا الروائي الشاب، الذي فاز بجائزة أبي القاسم الشابي السنوية 2008 على نصه المسرحي “قلادة الدم”،من أصل مائة وثلاثة نصوص من اثنتي عشر دولة، أسهمت جملة من العوامل في تشكيل ثقافته، كالبيئة القروية التي نشأ فيها،مما جعله يمتاز بروح بدوية وإيقاع قروي،وطبوغرافية تلك البيئة ذات التأثيرات الواضحة في مجتمعه المحيط،ولاسيما في طفولته،وبما يختزنه الريف من قصص وحكايات تستند إلى الموروث الشعبي،إضافة إلى ما شكلته المدرسة كمصدر مهم في تكوين ثقافته، كل ذلك مما فتح آفاقا جديدة لديه تجاه الكتابة الأدبية؛ رواية وقصة ونقدا أدبيا،وتضع البداية الجدية لهذه الموهبة في السنة الجامعية الأولى عندما أصدر البراري أول رواية قبل تخرجه وهي رواية “الجبل الخالد” 1993، وكما عرفت فانه كان الأصغر سنا بين أقرانه في مختلف المواقع الوظيفية التي شغلها،معلما في مدرسة، رئيسا لقسم في مديرية، مديرا في وزارة الثقافة، أو حتى حائزا على جائزة بين متنافسين رياضيين أو إبداعيين.

ما كشفته الدراسة: 

كشفت هذه الدراسة لابهار الطراونة عن تواصل هذه المسيرة الروائية مع إبداعات الحركة الأدبية الأردنية الحديثة من خلال نشاطات متنوعة تشمل الجوانب الروائية والقصصية والمسرحية،فعكست روايات الكاتب نتيجة ذلك هموم الوطن والأمة،وفقد اقتضى الأمر من هذه الباحثة الجادة الدؤوبة أن تأخذ بأكثر من منهج من المناهج النقدية،وبصرامة منهجية واضحة، فقد اعتمدت فيها على المنهج التاريخي الوصفي،وعلى المنهج الاجتماعي كذلك، بغية أن يكون معوانا على كشف الهموم الاجتماعية والسياسية، ولذلك تناولت بدايات تجربته الروائية،ومضامينها الاجتماعية والقومية،آخذا بعين الاعتبار الواقع الاجتماعي ومعاناة الإنسان العربي، وكذلك المضامين الأسطورية والفلسفية والدينية، إلى أن درست التقنيات السردية دراسة فنية، وتحدثت بعدها عن النسيج اللغوي لرواياته. 

منهجية المبدع وطريق إبداعه: 

يلاحظ من اطلع كما تلاحظ الباحثة أن هزاعا لا يكتفي بأداة واحدة في كتاباته،وإنما يستخدم الأدوات المتاحة أمامه، حتى يجد نفسه أنه قد وصل إلى قمة التعبير،ولم يفضل إبداعا على آخر؛ إذ أن كل نوع من هذا الإبداع يعبر عن مغزى يريده،ويذهب في ذلك إلى التلميح إلى حالة انشطاره الذاتي حين يقول: “أرى أن كتابتي في أكثر من جنس أدبي والإمساك بكل مساحة متاحة للبوح الآخر، هو نتاج الحالة الانشطارية لذاتي،أنه انشطار تصاعدي”، معتبرا الكتابة الجنس الأوسع الذي يضم مختلف مفردات الإبداع الأدبي،مشبها تلك العملية بالنهر قبيل دخوله في مصبه،آخذا بالتفرع على شكل شرايين كثيرة، صانعا حوله أخصب تربة.
لقد عكست تجربة هزاع البراري التحولات الاجتماعية والديمقراطية التي مست المجتمع العربي وعرضت مصائر البشر وآمالهم، وكانت في الوقت نفسه منطلقا لتأليف عمل إبداعي آخر، وهكذا بشكل متتابع.فهو قد أهتم في قصصه بالقضايا الواقعية والاجتماعية، رابطا القصة بالواقع ومستلهما المواقف الاجتماعية ومحاورا إياها،منتزعا مادته القصصية من خبرته المباشرة في الواقع وشؤون الحياة،منتقدا للواقع، ومحتجا عليه،محفزا الناس على تغييره. ويكتب البراري قصصا اجتماعية،تتناول حياة الفرد في المجتمع،وتعالج موضوعات اجتماعية عديدة؛ كالعدالة الاجتماعية والحرية وقضايا هامة تخص المجتمع،كالعودة إلى الميثولوجيا والتاريخ ،وبصورة حداثية تجريبية تتغلغل هذه القصص في مفاصل الحياة المعاصرة، تصور حالة البحث عن الخلاص الفردي والجماعي داخل المجتمع،إذا يجد الإنسان عديم السلطة نفسه محاصرا بعوامل طاردة لوجوده الفكري والإنساني،في ظل استفحال الآخر القوي،الذي يستخدم سلطة لا تتعاظم إلا بسلب الضعفاء سلطتهم، وبصورة لا أخلاقية.

الإمكانية والتحقيق:

استطاع البراري من خلال ابداعته الروائية أن يقدم مضامين ورؤى ظهرت في إسهامات جيله، جيل التسعينات؛بما انطوت عليه من هموم ذاتية واجتماعية وسياسية وفلسفية وأسطورية، عندما ظهرت لديه ولدى كتاب جيله،عندما سادت الاتجاهات الرومانسية والرمزية والواقعية. استطاع بها تصوير الواقع المأساوي المتجذر في نفوس بعض أبطال رواياته؛ كالفشل والضياع والفقر واليأس،وبرز الاتجاه الرومانسي لديه عندما استخدام في إبداعاته شخصيات رومانسية ضمن البعد الاجتماعي. 
ونقل لنا هزاع البراري واقع المجتمع العربي بشكل عام،والأردني والفلسطيني بشكل خاص في إطار واقعي سلبي،من خلال نقد الفوارق الطبقية والصور التي تحمل مشاكل هذا الواقع،وقد تمثل ذلك لدى البراري في حديثه عن الفقر والمستوى الاقتصادي المتدني وشرف المرأة والخروج عن العادات والتقاليد، والانحياز إلى الطبقة المسحوقة والبسطاء من الناس.بمعنى أن الدراسة قد توقفت عند أحد الكتاب الذين كان لهم مساهمات في دفع الرواية الأردنية إلى مصاف الروايات العربية 
رصد الواقع إبداعا وموضوعية:
رصدت “ابهارة” تصوير البراري لواقع الطبقة المحرومة والفقيرة من طبقات المجتمع الأردني خاصة والعربي عامة،حيث الناس الأكثر انسحاقا والأقل حظا،استنادا إلى معرفته الدقيقة بأحوالها،وخبرته بعاداتها وتقاليدها،وتصويره لمحاولتها اجتياز وضعها الاجتماعي إلى وضع اجتماعي آخر أفضل من سابقه، انتقالا طبيعيا بذلت فيه ما تملك، ولكنها بعد تأقلمها مع الوضع الجديد، تنظر إلى ماضيها؛ فترى فيه الخوف الذي يجب التخلص منه، فلا تفلح، ويبقى الماضي بآثاره المخيفة يلاحقها حتى تصل إلى نهايتها المتمثلة بالقهر والإحباط . 
وهي تخرج بنتيجة أنه كان من الروائيين الذين استطاعوا في تصويرهم لواقع الطبقة المعدمة، تجسيد معاناة أبناء الطبقة العربية المسحوقة،التي اعتبرها قضية أخلاقية بالدرجة الأولى،فاختلال الأوضاع الاجتماعية والعبث بأرزاق الكادحين،قضية أخلاقية قد يحد منها القانون،ولكنه لا يمنعها، في حين أن الإنسان الذي يحتكم إلى قانون أطماعه وجشعه، تدفعه أطماعه إلى تجاوز كل قانون، فإننا نجد صورا كثيرة لغربة الفرد وسعيه للهزيمة والاستسلام واليأس ، أكثر من الميل نحو الثورة والتمرد، وطرح البدائل لحل المشكلات. 

حالات الاغتراب في ضوء واقع المجتمع:

توصلت الباحثة في دراستها إلى أنواع من الاغتراب عكستها أعمال البراري الروائية تمثلت في: 

الاغتراب الذاتي:الذي يعني عدم امتلاك الإنسان لذاته وانفصاله عن طبيعته الجوهرية،فيصبح غير مدرك لما يشعر به ويكون مصحوبا بدوافع سياسية واقتصادية واجتماعية،وهو يفسر بضياع الغاية والهدف المنشود، ويتضح في عدم القدرة وانعدام الثقة بالنفس والتصدع الذهني واعتلال الشخصية،أما اغتراب النفس، فهو الحالة التي ينعدم فيها ترابط الانسان مع من يتعامل معهم،وفيها يخضع الفرد للتوجيه الذاتي بعيدا عن تأثير المجتمع،هذا التوجيه الذي يتم من خلال عملية فكرية يتعرض لها الفرد وتتصل ببعد باطني أثناء عملية الاغتراب. 
الاغتراب الاجتماعي: حيث تنقطع علاقة الإنسان بمحيطه الأسري أو المجتمعي أو النفسي، فتؤدي به إلى الوحدة والكآبة،وقد تكون ردة الفعل سلبية،فيغرق في وحدته، مما يزيد من إحساسه بالمرارة،ويلجأ إلى إنشاء علاقات أو شبه علاقات، فإما أن يفشل أو أن ينجح في سعيه. فهو إذا واجه الفرد ذاته، فانه يواجه الآخر، وما ينطبق على الفرد وعمله وذاته،فإنما ينطبق أيضا على علاقته بالإنسان الآخر (وقد يندمج اندماجا كاملا في مجتمعه،ولا يجوز أن يحتفظ ببعد داخلي خاص به خارج عن النظام الاجتماعي الذي يريده المجتمع،فان الآخرين يصبحون غرباء بالنسبة لغيرهم،إذ لا يستطيع الفرد أن يربط نفسه بهم ما لم تكن له ذات أصيلة، وإلا سيفقد ذاته كانسان منفصل،عندما يكف عن الشعور بالوحدة معهم. 
الاغتراب الأسري:يقدم الكاتب الروائي نموذجا للشخصية المغتربة عن أسرتها ومن الاغتراب الأسري واغتراب الأقارب،فينقل لنا من خلال شخصيتين مقابلة بين الخير والشر، تمثل الخير بشخصية الإنسان البريء صاحب المبادئ والمثل العليا، وتمثل الشر بشخصية الإنسان الشرير المؤذي المجرم. 
الاغتراب المجتمعي:الذي تمثله الشخصية المنفصلة عن المجتمع ولا تتفاعل مع قضاياه،نظرا لعجز الإنسان في مرحلة متقدمة من العمر عن التفاعل مع القضايا الوطنية والفكرية والإنسانية،والتي منها طبيعة المجتمع المدني،مجال الأنانية الفردية،والتنافر بين الأفراد،والانشغال بالمصالح الخاصة.وهكذا يقوم الفرد المغترب اجتماعيا بالخروج الكلي عن نواميس وقوانين المجتمع،فلم تعد دوافعه للغربة دوافع ذاتية نفعية،بل دوافع هروبية تقوم على الإحباط الاجتماعي والعسر الاقتصادي.
الاغتراب خارج الوطن:ترتبط دوافع الغربة خارج الوطن عادة بالبحث عن عمل مجز ماديا،أو الحصول على مؤهل علمي متقدم أو بغية التخلص من العيش في أجواء غير مرغوبة اجتماعيا وغير مريحة نفسيا، فيواجه الإنسان في هذا النوع من الاغتراب تحديات كثيرة، إذ يصارع من أجل البقاء قوى متعددة تتمثل في العادات والتقاليد الجديدة ومغريات الحياة المادية والمعنوية،وبدل أن يرتد إلى الوراء،ويتحصن بمبادئه القومية أو الدينية أو العرقية؛ فانه يتخلى عنها،متجها باندفاع نحو الغرب، تزدوج معها شخصيته ويفقد بعدها توافقه النفسية. 

قيادة إلى الحكم على الإبداع:

هكذا تقودنا الباحثة إلى الحكم على أن الكاتب استطاع معالجة قضايا إنسانية في الواقع المعاش،مما جعلها على درجة عالية من الأهمية في حياة الإنسان، لا سيما عند ربطه بين ثورة الفقراء وثورة الوطن، ثم انعطافه نحو القضايا القومية،كالحديث عن المشاركة العربية في النضال ضد المستعمر ومعايشة المجتمع الأردني لنكبة فلسطين بكل أبعادها،وتصاعد الحرب الأمريكية على العراق،والحرب الأهلية في لبنان والعدوان عليه عام 1982، لتبلور الباحثة في أعمال البراري بثلاثة أمور ترتبط بالحروب، هي: الموت والتشويه والفساد الاجتماعي والسياسي.أما القضايا الوطنية فتشمل:الحرية/الديمقراطية،المقاومة/الأحزاب.فالروائي البراري يدين التجربة الحزبية من حيث طبيعة الصراع بين الجماعات، مما انعكس سالبا عند محاولة معالجة الهموم الخاصة بالإنسان العربي، مثلما تحسس سمات النظام السياسي المنهار في العالم،فقابل ذلك بالرفض والتعلق بالنموذج العربي والبطولة العربية الخالدة.

الكشف عن الدوافع:

في معرض تمعن الباحثة ابهارة للمضامين الأسطورية، تكتشف دافعا آخرا جعل البراري يلجأ إلى توظيف الأسطورة في كتاباته هو هذه الأوضاع السياسية العربية، بكل ما تشمل من ظروف قاهرة،واضطهاد سياسي خارجي للأمة العربية،فهو قد عاصر أحداثا سياسية مهمة في معظم الدول العربية،وخاصة في فلسطين والعراق فآلمته هذه الهزائم المتكرر،ودفعت به إلى الترميز والأسطورة،ولقد استطاع أن يوظف بإشارات قليلة أسطورة جلجامش في رواياته، فيذكر الصفات التي تحلى بها هذا الرمز كالشجاعة وحب المغامرة، ويسقطها على بطل الرواية، مستوعبا فضاء الأسطورة،موظفا رموزها، مستحضرا أساطير قديمة سبيلا إلى فهم الواقع والحياة والتعبير عن تجربته الروائية، فكان بحثه في التجارب الأسطورية والمواقف والإنسانية،بحثا عن تجارب مشابهة لواقعهم .

ولم يقف توظيف التراث عند البراري على الأساطير والموروث العربي الإسلامي، كما لاحظت الباحثة،بل تجاوزه إلى التأثر الشعبي والمعتقدات القديمة السائدة في المجتمع العربي،فاستخدم بعضا من الحكايات والقصص الخرافية،التي تنسج شعبيا حول حدث مهم،ويستمتع الناس برواياتها والاستماع إليها، إلى درجة أنهم يستقبلونها جيلا بعد جيل في رواية شفوية.فيبرز في هذا الأفق تمكن الروائي البراري من توظيف الموروث الشعبي سعيا للحفاظ عليه واستخدامه دليلا على الانتماء الصادق للثقافة والمجتمع الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة،لتشكل بؤرة فلسفية قادتنا إلى الخوض في القضايا الفلسفية في رواياته. 

ولنأخذ قضية الموت في روايات البراري والتي تجدها الباحثة أنها ارتبطت بها ارتباطا كبيرا،فقد تكررت مفردة الموت في رواياته كثيرا، مستخدما إياها بصورتين رمزيتين لمواقف الشخصيات الواردة،التي عانى بعضها من الموت الحقيقي،بمرض أو في حرب،وبعضها الآخر عانى الموت المعنوي النفسي، فكان الموت لهم منقذا. أما العبثية العشوائية التي تظهر في روايات البراري، فقد شكلت كما تبين للباحثة تعبيرا عن شعور الفرد بالغربة إزاء مكانه وزمانه وعلاقاته، عندما يسعى الإنسان من خلاله إلى تحطيم المنظومات الاجتماعية المحيطة به من قيم وعادات وتقاليد تحول دون حريته واستقلاله الذاتي.وتكشف الباحثة عن محاولات البراري استدعاء الأرواح لسرد قصصها، كما استدعى الإيحاءات القصصية الدينية،في قصة مريم العذراء والمسيح،وقصة آدم وحواء،وقصة هابيل وقابيل،وقصة يوسف،كرموز واقعية استخدمها ليعيد بها الواقع الإيحائي. 

الاهتمام بالمكان وتوظيفه:

نتفق مع الباحثة من إن هزاع البراري أحد هؤلاء الذين اهتموا بالمكان ووظفوه، لتقديم رؤى اجتماعية ونفسية وحضارية مختلفة. فهو يعكس المكان المعادي اتخاذه صفة السلطة بداخله، وعنفه الموجه لكل من يخالف التعليمات، وتعسف الذي يبدو وكأنه ذو طابع قدري. أما الحديث عن السجن فيشعر الإنسان بالخوف والكآبة لما يحويه من معاملة قاسية وقمع وعدم امتلاك الشخص لحريته، ويعد مكانا جبريا معدا، وأما الكتابة عن القبر بوصفه رمزا تغنى في الحقيقة عن الموت، وتشكل انتقالا من جماليات النور إلى جماليات العتمة، تنطوي على سر من أسرار المكان، بل على كمين من كمائنه التي تنتظر الكائن، وهو بمثابة صرخة المكان التي لا تسمع.
على الطرف الآخر هناك البيت وهو المكان الأليف للمرء،ومقامه الأول، الذي ينضح فيه وعيه بمحيطه الإنساني،ويتنقل فيه بحريته واختياره، تندمج فيها أفكاره وذكرياته وأحلامه، التي تمنح البيت ديناميت مختلفة،أما الشارع فهو من الأماكن الهامة في حياة المدن والقرى في التنقل العام، والذي اعتبره الراوي صحراء المدينة وجزؤها الزمني.و على هذا الشارع ثمة أماكن يرتاد بعض الناس لتمضية الوقت والترويح عن النفس، ومنها ما يعتبر مكان لانتقال أشخاص عاطلين عن العمل، أو من ذوي الشبهات، وراءهم سبب ظاهر أو خفي يقضي بوجودهم في مثل هذه الأماكن،و ليس ثمة ما يدعو إلى الإلزام أو الإجبار للدخول إليها،بل يأتي الشخص إليها بمحض اختياره،وفقا لرغبة ذاتية ملحة، هذا عن المكان في الإبداع الروائي للبراري، أما الزمان فترى الباحثة أنه يبني أحداث وحبكة روايته (كما في الغربان) بصورة متداخلة، فيبدو الزمن بصورة الهبوط ثم الصعود والغوص في أعماق الماضي والصعود على سطح الحاضر.

النسيج اللغوي للأعمال الإبداعية:

تنتقل الباحثة إلى محور هام جديد في قياسها وتقييمها لأعمال البراري الروائية فتفرد النسيج اللغوي لهذه الأعمال، وتعرفنا على الأنماط اللغوية المستخدمة،كاللغة التصويرية والرمزية،التي كشف هذا الكاتب من خلالها طبيعة الواقع الاجتماعي عندما تهتز قيمه وعاداته وتقاليده،وخروج بعض شرائحه على ما هو مألوف،مما يعطي إحساسا بالاشمئزاز والقذارة،فقد تمثلت دلالات هذه المقاطع بمناخ الغربة والسقوط والضياع، وتشابكت مع مكونات مرجعية الواقع العربي،بما تشيع في مناخه تلك المكونات السالبة. 

وانشدادا لهذا الواقع استخدم البراري في رواياته اللغة اليومية المحكية القريبة من الواقع لنقل أفكاره ومشاعره،والتي اشتملت على السرد والحوار بين الشخصيات وداخل ذواتها.ويلاحظ في المحاولة الأولى للبراري سهولة اللغة وقربها من الواقع وبعدها عن تعقيدات العصر وعن تقنيات الفن الروائي الجديد،ولا غرابة في ذلك فالتجربة لشاب يكتب روايته الأولى،يتجلى فيها الصدق في النقل والتصوير.وهو كذلك كما أبانت الباحثة قد استخدم الحوار في رواياته،كعامل من عوامل الكشف عن أبعاد الشخصية أو تجلية النفس الغامضة،أو الوصول بالفكرة المراد التعبير عنها، وذلك توخيا للأمانة والصدق في نقل صور الحياة بمستوياتها الثقافية والاجتماعية،والكشف عما يجول بخواطر الشخصيات الواردة في الرواية، مما أكسب الرواية بعدا دلاليا،وجعل لغة الحوار متنوعة ومتناوبة بين الفصحى والعامية والوسطى. 

الحكم والنتيجة:

تنهي الباحثة ابهارة قاسم الطراونه تقييمها لأعمال هزاع ضامن البراري الإبداعية بالحكم الايجابي الذي انتهى ببروز اسمه كروائي ذي إسهامات في تشكيل خريطة الرواية الأردنية الحديثة،من أول أعماله “الجبل الخالد”1993،إلى آخر أعماله المطبوعة حتى الآن 2012 “تراب الغريب”2007. إذ تعتبرها قد قدمت مضامين ورؤى تتصل بإبداعات جيله،وذات مضامين اجتماعية وقومية وفلسفية وأسطورية، وقد حفلت بالقضايا الاجتماعية، وهي تكشفت عن أبرز الظواهر السلبية بين فئات المجتمع وشرائحه، وقدمت صورا من العلاقات الاجتماعية الجائرة، كالاستغلال والاحتيال وانتهاز الفرص، على حساب الطبقة المحرومة في المجتمع. 
وهي تلاحظ أن الكاتب عالج موضوع الاغتراب،وارتباطه بالإنسان اضطرارا أو اختيارا، وما ينجم عنه من آثار ايجابية أو سلبية على الفرد، مع أسرته أو مجتمعه أو في وطنه، بينما احتلت قضايا اجتماعية أخرى حيزا كبيرا في رواياته،كقضية السقوط الجنسي والخروج عن العادات والتقاليد، وقدمها كمهارب ومتنفسات من الضغوطات النفسية الناجمة عن الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية.كما جسدت رؤاه هموم الأمة،ثم اتجه إلى عالم الأساطير لعل فيه شخصية تستطيع تحقيق ما لم يستطع أي فرد تحقيقه،واستطاع الكاتب تجسيد نظرته للمجتمع وللحياة والناس ، وإدانة شتى أنواع الفساد الذي يجتاح الواقع المعيش، فجاءت أحداث رواياته مطابقة لهذا الواقع من حيث التجزئة والتشتت.


خاتمة:

هكذا نجحت الباحثة الدكتورة ابهار الطراونة أن تعيد بناء التجربة الإبداعية الروائية للكاتب هزاع البراري، بعد أن فكفكت بنيتها، بقصد التأمل في أركانها وأجزائها،لتساعدنا على فهم محتواها وحقيقة مكوناتها، ولتحكم على هذا المنتج المتقن الشغل والبديع في القوام، حكما منهجيا علميا،لا يدع للرومانسية والمخيال أن تفلته من عقاله ومحدداته الموضوعية، وجعلتنا نخرج بحكم موضوعي ينصف صاحبه ويرسخ لدينا القناعة بأنه روائي يتقدم الصفوف بخطى وئيدة ثابتة، تماما كما هي قد أعطت الانطباع عن دأبها وأناتها في دراسة النص وتحليله والحكم عليه من مختلف الجوانب، لا تبتغي من ذلك إلا وضع معالم الإبداع الناجح إنتاجا والمفيد اجتماعيا والآمن مستقبليا. ولكنها يا ليتها عمدت -عند إعداد الأطروحة ككتاب يصدر في العام 2012 وبدعم من وزارة الثقافة بالذات- إلى إضافة الجديد من الأعمال الروائية البراري بعد أن أعدت هذه الأطروحة كرسالة جامعية في العام 2007 ، كما أننا نتمنى على الباحثة أن تستمر في مشوارها لنقد وتحليل الأعمال الروائية والقصصية للمبدعين الأردنيين،بدءا ممن يتقدمون الصفوف الإبداعية في المجتمع الأردني، ويشار إليهم بالبنان العربي، تقديرا وتكريما، ونسألها هل بالإمكان أيضا أن تجس الإبداع الشعري بهذه المعايير وتخضعه لقياساتها، وخاصة بعد أن ابتعد في نظمه الحديث عن أصول العروض وقواعد الفراهيدي؟ 

* أكاديمي وباحث من الأردن

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *