*محمد بنيس
في 1969، جاء الكتاب الأول. ديوان «ما قبل الكلام». سبتمبر 1969. تفاصيل طبع ذلك الكتاب، الديوان، تتجول على الدوام في أنفاسي. هل هو الديوان الأول على غرار القصيدة الأولى؟ سؤال يرد علي وأنا أكتب هذه الكلمة، تبدو المقارنة صعبة جداً، ما بين القصيدة الأولى والديوان الأول، الذي يصدر في كتاب، كتاب أول، مسافاتٌ من القفار، ذلك ما يمكنني أن أجيب به اليوم، وأنا أستعيد تلك المغامرة في طبع «ما قبل الكلام». بيني وبينه أكثر من أربعين سنة، لكن، لماذا هو دائماً يصاحبني؟ ولماذا تظل تفاصيل طبعه تتجول في أنفاسي؟
(1)
حدث ذلك في يوم من أيام يوليو 1969. كنت طالباً في نهاية السنة الأولى من كلية الآداب بفاس. عندها كنت اجتزت الامتحان بتفوق، وفزت بمرتبة الطالب الأول، مع ميزة حسن، قبل شهرين أو شهر، فيما أظن، كنت تسلمت أول دفعة من منحة المدرسة العليا للأساتذة، إذ يومها كان التسجيل في كلية الآداب مقترناً، لمن أراد، بإمضاء عقد مع المدرسة العليا للأساتذة للعمل، في سلك التعليم، بعد الانتهاء من الدراسة. نضمن الوظيفة مع الشروع في الدراسة الجامعية. منحة الشهور الأولى من السنة الجامعية 68-69. قدر محترم من المال، بالنظر إلى تلك الفترة، لكن كان لي صديق مطبعي، أحمد الرايس، ابن الحاج عبد الكريم الرايس. عائلة مطبعيين، منذ عهد السلطان مولاي يوسف. صداقتي مع أحمد تعود إلى بداية الستينيات، عندما كانت مطبعة الحاج عبد الكريم بالصّاغة، أما في 1968 فقد أصبحت باسم مطبعة النهضة في الطالعة الصغرى، قرب باب بوجلود، مطبعة لها تاريخها قبل أن يشتريها الحاج عبد الكريم، وكان السي محمد، الابن الأكبر للحاج عبد الكريم، قام سنة 1967 بطبع ديوان محمد بندفعة «أشواك بلا ورد».
كنت، في الوقت نفسه، أشعر بأن ما توافر لديّ من قصائد أصبح مستقلا بذاته، وأنه يشكل ديواناً صغيراً، بحجم الدواوين التي تصدرها دار الآداب في بيروت، ما كنت نشرته من قصائد هذا الديوان لم يكن يتعدى قصيدتين، فيما أذكر، كان ثمة مشكلة النشر في الصحافة. جريدة «العلم» وحدها كانت معروفة بين الكتاب آنذاك بفضل «العلم الثقافي»، الذي سيتحول، لاحقا، إلى «الملحق الثقافي».
صديقٌ مطبعي، توفرُ قدراً من المال يكاد يصل إلى ما يتطلبه الطبع، مجموعةٌ من القصائد ترسم ملامح ديوان، اجتمعتْ كلها لأقدم على مغامرة مجنونة، طبع الديوان في شكل كتاب. من كان يمكن أن يصدقني؟
(2)
أخبرت صديقي محمد العلمي بالأمر، فهو شاعر ومحب للكتاب وجماليته. وكان أحمد الرايس يعرف أنني عندما أقرر شيئاً لا أتراجع، وأني لست مزاجيَ الطبع. في منتصف يوليو/ تموز كنا في المطبعة، نحن الاثنان، بصفتنا مسؤولين عن طبع الديوان. أرشدنا محمد العلمي إلى خصائص التصميم، وكان يصاحبنا في بعض الأحيان، تشتغل المطبعة نهاراً في طبع أعمالها العادية، من دعوات الأفراح إلى دفاتر الحسابات وأوراق الإعلانات، وفي المساء، عندما تهدأ حركة الناس وتخفت الأصوات، ندخل إلى المطبعة، التي كانت عبارة عن بناية تهدمت حيطانها الداخلية. نعمل، بجانب آلات ومعدات الطباعة، في الطابق الأرضي. وفي العلوي بقايا متراكمة من مطبوعات ترجع إلى سنين، نعيد ترتيب الأدوات وننظف المكان، نفتح دفتر الديوان، ويشرع أحمد في التصفيف، بالقرب من زجاجة ينبعث منها ضوء أصفر. حروف معدنية جميلة من خط النسخ، مع أدوات الشكل. يصفف حرفاً، حرفاً، عمله يشبهُ عمل أي صانع تقليدي، يعمل بيدين، فوق لوح من حديد يرتب الحروف، وباستعمال قضبان من الألمنيوم يضبط القياسات، ثم صفحة أو صفحتان من الأوراق المزدوجة، في كل منها أربع صفحات من الكتاب، ذلك أقصى ما كان بالإمكان تصفيفه كل ليلة. تصحيح تلو تصحيح، ثم في النهاية قص الورق بحجم الصفحتين المزدوجتين. وينتهي عملنا في الواحدة أو الثانية صباحاً، في اليوم الموالي نعود، تبدأ آلة المطبعة الألمانية من نوع هايلدلبرج في الدوران، الأوراق في مكانها من الآلة، ولينطلق السحب. يراقب أحمد مستوى المداد، يوقف السحب ليتأكد، ويستأنف تحريك الآلة.
(3)
شهر أغسطس/ آب بكامله قضيناه في الطبع، لا نعبأ بحرارة الصيف، داخلُ بناية المطبعة بارد. محمد العلمي يغيب ليعود. وأحمد وأنا منتظمان في السهر والعمل، من ليلة إلى ليلة. بجانبنا التقني المساعد، هو الآخر اسمه أحمد. يهيئ الأتاي والطجين بالخضار، ينظف الدواليب، ونحن جميعاً ندخن السجائر، نضحك، نتبادل نكتاً ونحكي حكايات، لا شيء يستعجلنا في إتمام الكتاب، نعرف أن متوسط السرعة يومياً هو ست صفحات، وأننا سنتأخر في الليل. يوليو للتهيؤ وأغسطس للطبع، في مطبعة النهضة بالطالعة الصغرى.
قبل الشروع في السحب تداولنا، أحمد الرايس ومحمد العلمي وأنا، في أمر خط العناوين. رأيت أن الخطوط يجب أن تكون منسجمة مع هذه القصائد الأولى، قصائد طفولة اليد الكاتبة، هكذا شجعت أختي شرفة وابنة عمي نادية، وهما في بداية عهدهما بالمدرسة الابتدائية، على تخطيط عنوان الديوان، ثم جميع عناوين القصائد، عندما رأيت أسلوب خطهما أعجبتني الفكرة، ولم يرقني الإنجاز تماماً، لأنه كان يفتقد القليل من التوازن كي يصبح مقروءاً، لذلك استلهمْتُ ذلك الأسلوب في إعادة تخطيط جميع العناوين. فأنا كنت، في قرار طبع الديوان، كما لو كنت أريد أن ألعب. طبع الديوان لعبة، أحبتها يدٌ لا تزال في طفولة كتابتها، وتخطيط الطفلتين لعبة، يرغب فيها شاب يريد أن يلتذ ويستمتع بطبع قصائد رأى أنها تتوافر على ما يجعل منها ديواناً. أرسل أحمد هذه العناوين إلى معمل مختص بالدار البيضاء، وبعد أسبوع تسلمناها بارزة على قطعة صغيرة من الرصاص. طرقها أحمد بالمسامير فوق قطعة، بقياس الكلمة، من خشب اصطناعي.
(4)
عملنا لم يكن يتوقف، كما لم نكن ننتظر حل المشاكل التقنية، عندما استنفدنا الورق المتوافر في المطبعة، سافرنا إلى الرباط، ومن مطبعة الأمينة، التي كانت في ملكية عائلة البريهي، أتينا بالكمية التي نحتاج إليها. ثم حينما وصلنا إلى مرحلة الغلاف، بقيت وفياً لمظهر الطفولة. آنذاك، كان صديقي أحمد العلوي رساماً سوريالياً. طلبت منه إنجاز غلاف للديوان بالأبيض والأسود، بل وبقلم الرصاص إن أمكن. فاجأني، بعد أقل من أسبوع، برسم على ورق أبيض، تظهر فيه قبضة يد خارجة من التراب، وفي أفقها قبضة يد تخرج هي الأخرى من التراب، كأن هذه اليد الموجودة في المقدمة تسير على خطى اليد السابقة عليها. أعجبت بالرسم كما أعجب به محمد العلمي، وجدنا فيه البعد الخفي للديوان، أي جانب انبثاق اليد الكاتبة في أرض جرداء، وأيضاً بصرامة (وإصرار) اليد المقبوضة، إلى جانب الاهتداء بالأيدي السابقة، كنا في نهاية شهر أغسطس. لذلك حملنا، أحمد وأنا، الرسم إلى الدار البيضاء. وفي معمل لصناعة ألواح الطبع، في مرس السلطان، تم إخراج الرسم ناتئاً على صفحة مستطيلة من الرصاص، طرقها أحمد بالمسامير، كما فعل مع العناوين من قبل، ربحنا وقت الانتظار. وعند الطبع استعملنا ورقاً عادياً للغلاف. 110 ملم في 155 ملم، على قدر حجم الكتاب. العنوان والاسم في الجنب الأيمن من الأعلى، كلمة «شعر» بخط النسخ المطبعي في وسط الأسفل، ظهْرُ الغلاف أبيض كله. في الأسفل يساراً، كتبت «4 دراهم».
(5)
ديوان من 120 صفحة، استغرق طبعه ما يقرب من شهر ونصف الشهر، وهو يحترم معايير الطبع، من حيث اختيار نوعية الحروف وحجمها، ومن حيث قياس الصفحة وانعدام الأخطاء. على أن استعمال لون واحد، هو الأسود، داخل الديوان وعلى الغلاف (أسود ويتحول إلى رمادي)، كانت له دلالة جمالية وأخلاقية في آن واحد. انتهى الطبع، كما كنا نريد، في بداية سبتمبر. وفي آخر ليلة من ليالي الطبع، لمعت في ذهني كلمة شكر للمطبعة. كتبناها نحن معاً، محمد العلمي وأنا. سلمناها لأحمد الرايس ففرح، لأنها تعترف بالفضل للمطبعة التي هي صانعة ذلك الكتاب الأول. جاءت الكلمة داخل إطار في الصفحة الأخيرة من الكتاب، وتحمل عنوان «شكر». وهي كما يلي: «إن الوصول إلى آخر صفحة من «ما قبل الكلام» يظهر أن هناك تضحية كبيرة بذلت من أسرة مطبعة النهضة لإنجاز هذا العمل، لذلك أجدني ملزماً بشكر أسرة المطبعة التي أثبتت أن تعاونها ليلاً ونهاراً يعطي مثل هذه النتيجة».
نهاية الطبع في بداية سبتمبر. وفي اليوم الموالي، اتفقنا، أحمد الرايس وأنا، على السفر إلى الدار البيضاء. ألف نسخة هو عدد ما تمّ سحبه. وضعنا الكمية الأكبر في صناديق. ربما ثمانمائة نسخة. ومباشرة إلى مكتبة القادري في الدار البيضاء، التي كلفتها بالتوزيع. عند العودة، وقفنا في الرباط وسلمت نسخ الإيداع القانوني إلى الخزانة العامة، بقي عليّ دين لأحمد الرايس بقيمة مائتين وخمسين درهماً، استلفتها من محمد بنطلحة، وعدته بإعادتها بأضعاف ما هي آنذاك قيمتها، ولم أخلف الوعد.
(6)
قصائد ديوان «ما قبل الكلام» ليست قصائدي الأولى. ضاع مني للأسف دفتران كنت أخط فيهما تلك القصائد، ولم أكن أتوهم أن ذلك الكتاب الأول شيءٌ أكثر من جمع القصائد المتوافرة لدي في كتاب. عدد الصفحات يعطي انطباعاً بأنه ديوان جدي، وكذلك استقبله قراؤه، على الأقل من الطلبة في كلية الآداب، ومن كتاب ونقاد. لم أفكر، قبل إقدامي على الطبع، في ناشر مغربي، لأنه لم يكن موجوداً، بل إن أي شاعر من الشعراء المغاربة المعاصرين لم يكن، حتى 1969، أصدر ديواناً يجمع فيه قصائده المعاصرة. واقعتان لا يمكن اليوم أن نتخيلهما بسهولة. وهما مع ذلك حقيقة، لا سبيل إلى نكرانها. كنت آنذاك أدرك أن طبع ديوان من الشعر المعاصر في المغرب لا يشبه في شيء طبع ديوان في بيروت أو القاهرة. الابتعاد عن المقارنة حررني من الرهبة، التي كنت أرمق ملامحها في كلمات الشعراء المغاربة الذين كنت ألازمهم في طبع هذا الكتاب، أقدمت على لعبة، على متعة ونشوة. ما الذي كنتُ سأفرح به أكثر؟
(7)
أعود، اليوم، بعد أكثر من أربعين سنة على نشر ذلك الكتاب الأول، وأتساءل: هل يمكن التفكير في معنى إقدام شاعر شاب، في نهاية الستينيات في المغرب، على طبع ديوانه الأول، فيما آخرون، أكبر منه سناً، ومعروفون في الوسط الثقافي، لم يكونوا أقدموا على نشر ولا ديوان واحد؟ يبدو لي أن هناك شيئاً آخر قد يستحق الإثبات، بدلاً من الانشغال بجواب عن التساؤلين. ما أحتفظ به، من قرار اقتحام المطبعة وطبع الديوان الأول، على حسابي الخاص، هو أن ذلك الكتاب أعطاني درساً في توجيه نظرتي نحو المستقبل. دائماً أبارك تلك الخطوة المجنونة، التي لا أعرف ما كنت لولاها سأكون اليوم. هي خطوة رسمت لي ظلا من ظلال الخطوات اللاحقة، هل أسميها الوقاحة؟ هل أسميها عدم الاكتراث بالنتائج؟ هل أسميها المواجهة؟ ربما كان الأهم هو أن أصدقائي من الشعراء الشبان، آنذاك، وثقوا في تلك الخطوة واقتنعوا بأنها الخطوة الممكنة. شيئاً فشيئاً، بدأ الطبع يستحق التفكير، أخذت الرهبة تستحيل إلى ألفة مع المطبعة، وأخذ الشعراء والكتاب الشبان يقبلون على طبع أعمالهم، على نفقتهم الخاصة، دون انتظار ظهور ناشر أو نداء مؤسسة عليهم. هكذا قمت بوضع خبرتي في الطباعة والنشر رهن إشارة عدد من الشعراء والأدباء الشبان. بعضهم توجهت معه إلى مطبعة النهضة بفاس، وإلى أحمد الرايس تحديداً، وآخرون إلى مطابع أخرى.
ولعل من واجبي هنا أن أشير إلى عبد الله راجع، أذكره بالاسم دون سواه، لأنه غاب عنا قبل أوان الغياب، ولا بد أن استحضر هنا كتابه الأول، «الهجرة إلى المدن السفلى». كان ذلك في نهاية 1975. بمجرد أن أخبرني عبد الله بجمع الديوان وترتيبه والتفكير في طبعه، بادرت بالاتفاق معه على الاتصال مباشرة بالمطبعة. كان من العبث التفكير في ناشر. فهو لم يكن موجوداً حتى ذلك الوقت. اخترت لطبع الديوان أجمل مطبعة آنذاك، وهي «مطابع دار الكتاب» في الدار البيضاء. وطلبت من محمد شبعة رسم لوحة خاصة بالغلاف ومن أحمد الجوهري تخطيط عنوان الغلاف وعناوين القصائد. سعيت إلى أن يصدر ديوان «الهجرة إلى المدن السفلى» بأجمل ما كان متوفراً آنذاك من حيث التقنية والجمالية. وصدر الديوان في ربيع 1976. تلك هديتي لعبد الله راجع وفرحي بديوانه. ولأني مجنون في اختياراتي، فإن تكاليف الطبع ارتفعت قليلاً عما كنا رصدناه، لم أتراجع. وعملت على حل المشكل المادي.
(8)
ذلك الكتاب الأول، ذلك الديوان. خطوة أولى على طريق الاستمرار في كتابة القصيدة باختياري. وهو يذكرني اليوم أن كتابة القصيدة هو ما كان يعنيني، وأن عدم معرفتي بما كنت أسير نحوه هو ما ضاعف من التعامل مع الدواوين المتلاحقة بما هي استمرار في كتابة عمل شعري، له المجهول والمغامرة سنة 1969. لا أزال أتذكر ما كانت كتبته آنذاك جريدة «العلم»، في ملحقها الثقافي، وهي تنشر خبراً عن الديوان، إلى جانب خبر عن ديوان شعر كان أصدره شاب (أتخيل أنه كان يشبهني) من مدينة طنجة، هو محمد الشعرة. لا أزال أتذكر أيضاً كلمة محمد عزيز الحبابي، التي أرسلها لي من الجزائر حيث كان يدرس، وأخبرني فيها باختيار قصيدتين للنشر في مختارات شعرية كان يعدها للنشر في الفرنسية. أتذكر رسالة من المستشرق الإسباني بيدرو مارتينيز مونتافيز. أتذكر تقديماً صاخباً للديوان، ضمن نشاط طلابي في كلية الآداب بفاس. أتذكر تصريحاً لمحمد السرغيني لمراسل جريدة «لوماتان» بفاس. أتذكر نقداً كتبه طالب ونشره في صفحة الشباب لجريدة «العلم». وأتذكر أنني تمكنت، بما توافر لي من مبيعات الكتاب الأول، من شراء «لسان العرب» في طبعة فاخرة كانت نشرتها دار صادر في بيروت. وهو المعجم الذي أصبح في مكتبتي مقترناً بذلك الكتاب الأول، الديوان.
ذلك الكتاب الأول، بما أعطاني من حرية، وبما قادني إليه، ولأجل ما تبين لي وما لا أتبين حتى اليوم، وجدتني سعيداً بأن أحافظ له على مكانه وأنا أهيئ «الأعمال الشعرية» للنشر، هناك مكانه، أيقنت، بعد تردد لا زمني شهوراً، وأنا اليوم أعود إليه، ذلك الكتاب الأول، ذلك.
_____
*الاتحاد