قصة قصيرة: أجراس غريبة


*واثق البيك

خطوات ثقيلة أغرزها في الارض الموحلة الممتدة امامي بلا انتهاء، ألهث منذ ثلاثة ليالٍ مضت، رازحا تحت أمتعة ثقيلة لم اخترها،احتضنت شخصا باردا يشخص بعينيه الى المجهول متحاشيا قذيفة هاون، اي جنون، واي عبث ان لا اموت.. مرة واحدة.. باختياري! 

ازيز الرصاص، ضوؤها، فراشات لطالما حلمت بها، اود لو ان لدي القدرة على احتضانها والتمتع بدفئها، كنت صغيرا عندما ألهبت خدي صفعة امي لمحاولتي الامساك بواحدة دفعها القدر للدخول عبر نافذة الغرفة الوحيدة! 
لم ينقطع المطر طيلة ايام ثلاثة، مطر يهطل في كل مكان، حتى في قلبي، يثيرني صوت المطر المتساقط على الاشياء، احسد نفسي، كيف لي ان اميز صوت المطر في ضجة المدافع والرشاشات والقذائف، لينسجم مع صوت سرف الدبابات وجنازيرها ورنين الاحزمة والادوات الحديدية التي يقرفها ركضي المتواصل! كأنني سمعت هذه الاصوات ذات حزن مضى! 
– اهربوا.. لن يلحق بنا.. هذا السمين المزعج ! 
صرخت باولاد المحلة.. بعد ان قرعت الجرس الكهربائي عدة مرات قبل ان الوذ بالفرار، واترك الرجل السمين ورائي بدشداشته القصيرة التي لا تتيح له اللحاق بي، فيسقط مزمجرا… 
– اين تهرب مني.. لا بد لك من الوقوع بين يدي! 
فززتني صرخة رجل مزقته اطلاقات متعددة.. كنت معصوب الروح، لا رجوع، الهدف امامنا والموت لمن لا يصل او يحاول العودة.. مر جندي المخابرة يترنم بأغنية عاطفية حزينة.. كان يعد محبوبته بالرجوع وان عليها الانتظار عند النخلة القديمة.. صرخت طائرة اجبرتها النيران على السقوط، رنت اجراس متعددة في اذني! 
امر يوميا عند ذهابي الى مدرستي الابتدائية بالقرب من معمل قديم، اسمع زمجرة آلاته الهستيرية، كان احمد بطة يقف بوجهه المرعب في باب المعمل، يشاكس الفتيات المارات، حينها، لم تأبه اية فتاة بتوسلاته.. ولم يشفقن عليه. 
رأيت احمد بطة بشعره الاشيب المغبر يتوسد ساقية صغيرة كونها مطر الايام الثلاثة، يحتضن بندقيته بشوق، بينما دماء كثيرة تسيل من فمه، وابتسامة غامضة على شفتيه لن تختفي الى الابد. 
لا تمر لحظة، من دون ان تزرع الارض بشتلات القذائف، لا يمكن لي ان اميزها الان.. تختلط علي الاصوات، امر على دبابة اكلتها النيران تثقب اذني صفارة الضابط!! 
– هل تعلمين يا رفل؟! 
– ماذا؟ 
– اريد ان اقول…… 
– ستبدأ المحاضرة…. 
– أنا… 
– لقد دخل الاستاذ القاعة.. لنلحقه! 
لم تنته محاضرة الحرب.. منذ سنوات، وانا اكتب دروسي فيها، واعلم تماما بأني راسب في النهاية… 
انا لم اطلق حتى الان.. رصاصة واحدة! 
– ليكن لنا بيت.. ونخلة.. و”بنوتة ” صغيرة! 
– أنا.. خائف.. 
– مم تخاف.. ألست تحبني!؟ 
– أنا اخشى عدم قدرتي على تحقيق ما تحلمين به! 
– كيف؟ 
– قد أجيء يوما ما.. ملفوفا بعلم! 
– “يامعود”.. لا تكن متشائما.. 
بدأ المطر يصبح رذاذا ناعما، بينما سحب الدخان السود غطت روحي، انقطع القصف المضاد، وتوغلت قطعاتنا الى مسافة بعيدة في ارض “العدو”، كان علينا تمشيط المواضع والغرف التي خلفها الجنود الهاربون.. دخلت ملجأ ما، كان جهاز الاتصال مازال مشتغلا بينما جثم جندي ميت على اوراق ارّخت ايام تلك المعركة.. وضعت بندقيتي جانبا.. وحاولت مسح دماء سود عن الورق عابثا. 
غصت المحطة بالجنود العائدين من “النصر المؤزر” بوجوه عابسة محبطة، كان ايجاد مقعد في السيارة التي ستقلني الى بغداد امرا لا طائل منه، بعد انتظار ساعتين استطعت الحصول على مقعد بجوار امرأة تردتدي “عصابة ” سوداء وتلتفع عباءة سوداء داكنة.. 
اخرجت علبة سجائر من معطفي، سقطت اوراق ملطخة بالدماء، تناولتها من على ارض السيارة واشعلت سيجارة وبدأت القراءة “ابتدأ الهجوم مع بداية المطر، اختلطت عليّ الاشياء والاصوات.. اتذكر احيانا شقاوتي في الصغر.. ومداعبتي لجاري السمين، اتذكر طفولتي البائسة مارا بالمعامل القديمة.. اتذكرك الان، عينيك.. خوفك، خوفي من ان اعود لك ملفوفا بعلم الوطن.. بدأت قطعات العراقيين بالتقدم.. لا اعرف ما اذا ستصل هذه الـ….”. 
كان صوت النشيج يرتفع، شيئا فشيئا، همست المرأة العجوز: 
– “شبيك يمة؟!” 
غمرت وجهي بعباءة المرأة العجوز الجالسة الى جانبي.. واجهشت ببكاء حار!! 
______
*العالم الجديد

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *