*عبده وازن
بات رواد حملة مقاومة «التطبيع» في العالم العربي يمارسون حالاً من «الترهيب» السياسي على المثقفين العرب الذين يطلقون عليهم، زوراً وبهتاناً في معظم الأحيان، تهمة التطبيع وغالباً ما يكون هؤلاء براء منها. هذا «التخوين» الذي يحترفه هؤلاء الرواد «الدونكيشوطيون» أصبح مفضوحاً وغير مبرر بخاصة عندما يرتكبون هفوات، مقصودة وغير بريئة دوماً، وهمهم أن يظهروا في موقع الدفاع المستميت عن القضية الفلسطينية وكأنهم هم وحدهم المؤتمنون عليها، يعظون ويُرشدون ويخوّنون…علماً أن ما من عربي يجهل أن إسرائيل هي العدو الدائم وأنها الدولة المجرمة التي ارتكبت إحدى أكبر مجازر العصر.
لم يكن ليخطر في بال أحد أن يحمل هؤلاء «الرواد» على روائي طليعي هو الياس خوري، كتب أجمل ملحمة عن فلسطين في «باب الشمس» بعدما عاش القضية فعلاً والتزم الدفاع عنها منذ فتوته وكافح من أجلها… كل ما فعله هذا الروائي الذي أصبح عالمياً عقب نقل معظم أعماله إلى لغات شتى، هو إجراؤه حواراً مع إحدى الصحف الإسرائيلية هاجم فيه بشدة وعنف إسرائيل بصفتها عدواً يمارس أبشع معارك الإلغاء ضد أهل فلسطين، عسكرياً وسياسياً. ولا يُستغرب هذا الاتهام الغبي ما دامت كاتبة موتورة هي من جماعة مناهضة التطبيع، قد خونت سابقاً شاعر فلسطين محمود درويش.
لم يكن ليخطر في البال أيضاً أن يحمل هؤلاء على المغني الكبير مارسيل خليفة الذي حمل بصوته وموسيقاه القضية الفلسطينية وزرعها في قلوب الأجيال العربية وارتقى بها إلى المنابر العالمية ناشراً قصائد محمود درويش شعبياً لتصبح على كل لسان… حملوا عليه لأنه شارك، في مؤتمر عربي هو «ملتقى المدافعين عن حرية الإعلام» الذي عُقد في عمّان وشارك فيه إعلاميون عرب وفنانون وكتّاب ومحطات فضائية عربية وفرق فلسطينية… أما التهمة التي شملت أيضاً الشاعر والروائي الفلسطيني المعروف ابراهيم نصرالله والمغنية الملتزمة أميمة الخليل والإعلامي والشاعر زاهي وهبي… فهي أنهم «أكلوا من معلف الاستعمار» (هكذا قيل حرفياً) جراء مشاركتهم في ملتقى ساهمت في تمويله بحسب زعمهم، «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، علماً أن دولاً أوروبية شاركت أيضاً في هذا الملتقى. وقد لا يشك أحد في أن هذه الوكالة الأميركية الاستعمارية التي تتعاون معها معظم الدول العربية، تختلف في أهدافها «الإمبريالية» عن وكالة «فورد فوندايشن» الأميركية الاستعمارية التي موّلت أخيراً مجلات عربية «شبابية» ومجلات طليعية من دون أن يُحدث هذا التمويل ضوضاء «تخوينية». واللافت هنا أن بعض «مطبلي» مناهضة التطبيع كانوا تنعموا بالمال الذي أغدقته عليهم هذه الشركة الأميركية الاستعمارية. مثل هذه التهم تحمل على السخرية من هؤلاء «المخوّنين» الذين يشبهون في عمائهم جماعات الأصوليين والتكفيريين. أولئك يخونون وهؤلاء يكفّرون.
الشاعر الفلسطيني مازن معروف دعي للمشاركة في أمسية شعرية «متوسطية» مع الشاعر الإسرائيلي أمير أور والفنانة الكاتالانية لورا تيخيدا، في سياق اللقاءات التي تقام على هامش «سوق الشعر» في باريس. وافق معروف أولاً، إيماناً منه حتماً، بأنّ منبراً مثل هذا المنبر يجب عدم إخلائه للشاعر الإسرائيلي، ولا بد من رفع صوت الشعر الفلسطيني أمام جمهور فرنسي. ثم انسحب على ما بدا، خشية من الحملة التي سيعلنها ضده أبطال «التخوين». ولئن أخطأ أصلاً في الموافقة على المشاركة في أمسية إلى جانب شاعر إسرائيلي -وإن كان يسارياً ومن دعاة السلام-، فانسحابه لم يكن في مصلحة الثقافة العربية والفلسطينية، فهو يترك في الجمهور انطباعاً سيئاً عن الشعراء الفلسطينيين والعرب الذين يعانون حالاً من «الفوبيا» الإسرائيلية.
في المهرجانات الشعرية المتوسطية (مهرجان لوديف الفرنسي على سبيل المثل) التي يدعى إليها شعراء عرب وإسرائيليون، كان العرب يعتذرون غالباً، بعضهم اعتراضاً على المشاركة الإسرائيلية وبعضهم خوفاً من حملات التخوين والترهيب العربية ضدهم. وكان الإسرائيليون يحتلون المنابر من غير حرج أو مبالاة. ثم كان الحل أن يشارك الشعراء العرب في المهرجانات هذه ولكن بعيداً من الإسرائيليين، وشرط ألاّ يجلسوا معهم أو يصافحوهم أو يحدّثوهم. بدا هذا الحل مثالياً وعبره تمكن الشعراء العرب من أن يردوا عن أنفسهم سهام مناهضي التطبيع الذين هم دوماً لهم في المرصاد.
لا أعلم ما هو موقف فرسان مناهضة التطبيع اليوم من الحرب القاسية التي يخوضها مثلاً البعث السوري على شعبه، مدمراً البلاد ومهجّراً الناس وممطراً الأحياء ببراميل البارود؟ أليس في هذه الحرب تطبيعاً عسكرياً مفضوحاً مع العدو التاريخي، بعدما قدم النظام سورية كلها على طبق من فضة هدية إلى إسرائيل؟ إنها هدية لم تكن إسرائيل لتحلم بها حملها إليها نظام الصمود والتصدي. ولئن شاء رواد مناهضة التطبيع مواصلة حملاتهم، المحقة قليلاً والظالمة كثيراً، فهم مدعوون إلى توسيع مفهومهم للتطبيع كي يشمل أنظمة جائرة مثل البعث السوري وحركات طائفية ومذهبية، أصولية وظلامية، تدعي المقاومة والمواجهة، بينما هي تمعن فتكاً وقتلاً بشعوبها العربية.
________
*الحياة