وأنا أيضاً أحب كرة القدم


عناية جابر*



نعم أنا أقر وأعترف أمامكم أنني من محبي كرة القدم. أنا من متابعي المونديال عادة. أقول عادة لأننا في لبنان لا نتابعه حالياً فلقد تخلفت الحكومة، لسبب ما، عن دفع اشتراكها المالي لمالك حقوق النشر. وتعطلت لغة الكلام وخاطبت عيناي بلغة الكرة عيناك. هناك عدة أمور تلح علي لكي أكتب الآن عن هذه الكرة السحرية. 
هل يحق لدولة فقيرة ومفلّسة ومديونة أن تحب الكرة ؟ وهل يحق لشعب محاط بالحروب الأهلية التي تلعب الأمم الكبرى من خلالها بمصيره الجغرافي والفيزيقي أن يتابع ويشاهد ويهتم ويناصر ويتحمس ويتعصب ويشتري أعلام الفرق والدول المشاركة بالمباريات الكروية ؟ وما هو سر هذه اللعبة لكي يجعلها بهذا السحر؟ 
يحتال اللبناني اليوم على كل الحقوق الكروية لكي يشاهد مباريات بطولة العالم في كرة القدم . يحتال على حقوق النشر كما يحتال عادة على نفسه على دولته وعلى القوانين المحلية فيتفوق على نفسه في مونديال عدم احترام القانون. لكن لاحتياله هنا، من جهة ثانية وجب القول، دافعاً شريفاً. قام اللبناني بمناورات تلفزيونية وقرصنة سمحت له جزئياً مشاهدة مباريات افتتاح البطولة العالمية. ذلك ان حكومته كالعادة في مثل هذه الحالات لم تقم بما عليها، بما ليس عليها يقول احدهم، لكي تنقل الى اللبناني البسيط حق مشاهدة المنافسة الأشهر في العالم والتي تلي مباشرة المنافسة بين الصين والولايات المتحدة على الأسواق . 
الحكومة اللبنانية استثقلت سعر النقل وسمحت لنفسها حتى آخر لحظة بأن تفاوض صاحب صاحب تلفزيون النقل على السعر لعلها تنجح بتخفيض الأكلاف. عبثاً. فصاحب صاحب الحقوق رفض، على ما يظهر، أن يقدم تنازلات خاصة بلبنان على السعر. السعر واحد للجميع ومن معه يشتري ومن ليس معه لا يحق له مشاهدة لعبة الفقراء الذين يقذفون طابة القماش الممزق كأول طابة يقذفونها بأقدامهم الحافية من أي حذاء، في زواريب وأزقة الأحياء والضواحي المنسية من الزفت والاهتمام الرسمي لأي حكومة.
تحوّلت لعبة الفقراء تسلية مالية للأثرياء. صارت سلعة تجارية تعرض في السوق الخاضع للعرض والطلب. ولبنان حكومته فقيرة، او مستفقرة، لا تستطيع تسديد ثمن هذه السلعة التجارية الخاصة. ولقد تذكرت وأنا أصيغ هذه الكلمات أنني كتبت شيئاً مشابهاً عن الموضوع في مرة سابقة. فعدت إلى أرشيف « القدس» لكي أجد أن وزير الإعلام طارق متري كان قد أعلن يومها، بعد لأي، أن الحكومة سدّدت ما عليها من أجل السماح للمواطنين بحضور المباريات.
لكن تحوّل الرياضة إلى سلعة إقتصادية بالسوق لن تثني لبناني ولا رومي عن حب الكرة الأكثر شعبية بالكون. ولا حتى الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982 استطاع بجبروته وححم قذائفه التي كانت تتساقط على الرؤوس ان يمنع اللبناني العنيد من متابعة الماتش. لا شيء يقف حائلا أمام شعب مصمم. درس على جميع منشآت الكون، الكروية الشكل أو غير الكروية، أن تتعلمه. مجرد نصيحة لا أكثر. ليس أن تسليع الكرة جعلنا عبيداً لها، من يدري، بل أن عبادتنا لها سهّلت ربما تسليعها. 
من هنا، ومن هنا بالذات، نفهم كيف يمكن لفرد مفلس ان يمتنع، بكامل قناعته، عن اقتناء سلع معينة وكيف لا يمكن لدولة مفلسة ان تمتنع عن تسديد ما عليها لنقل مباريات الفوتبول. أولويات الشعوب غير أولويات الأفراد على كل حال. والتبرير جاهز عند « شعب» الفوتبول. لا يحق لدولة يحكمها فاسدون، ينهبونها، الامتناع عن دفع حقوق نقل المباريات. نقطة انتهى النقاش. الخبز قبل الفساد احياناً. 
واضح إذن ان جميع التبريرات صالحة في حالة عاجلة كهذه. نحن أمام الطوارىء، الفوتبول المونديالي. كل ما عداه تفصيل ويمكن تأجيله. الفقير يؤجل شراء المياه المقطوعة، النادرة في بيروت هذه الأيام، لكي يشتري عَلَمَ « بلاده»، أقصد عَلَمَ الدولة التي قرر، لعلّة في نفسه، أن يدعم فريقها الوطني. من المؤكد ان عقلانية ما تتحكم بجنون الناس. وأنا منهم طبعاً. لا يعقل ان يكون الجنون مجنوناً إلى هذا الحد. هناك حتماً في هذا الفوتبول ما يجعلنا سعداء. وهو حتماً ليس سببا متصلا بمجرد التنافس. لا أظن ذلك لكني لن أنفيه بالمطلق. 
هناك ربما جمال الجسد وتقديس القوة والحنكة الدربة والذكاء والتخطيط الفردي والجماعي. تعيش الناس في الأيام العادية تحت سطوة فكرة جمال الروح والعقل وأولويتهما. لكن شهرا في كل أربع سنوات خصصه البشر لجمال الجسد وكماله، لبشر أقوياء مفتولي العضلات يتنافسون كأجسام وأحجام وأشكال وشعر ووشم وطريقة عدْو ومشي وتعبير وطواعية ومرونة ولياقة بدنية. 
يقدس البشر الرأس والعقل والذكاء الروحي ويعملون ما يستطيعون من أجل اكتساب المهارات العقلية والمنهجية والنظرية التي تعينهم على السيطرة على الطبيعة وخلق القيم وتلبية الحاجات، لكنهم يفردون شهرا، شهرا واحدا كل اربع سنوات، لتقديس الأرجل وحركتها ومهارتها. وهم يدفعون الغالي والنفيس من أجل حركة الأرجل هذه. صحيح أنه يحق للاعب كرة القدم أن يستعمل رأسه قانوناً لكن اسم اللعبة كافٍ للدلالة. فهي للقدم أولا وقبل كل شيء. والقدم لتتحرك جيدا بحاجة إلى جسد مكتمل العضلات ملؤه اللياقة والمرونة والقوة والقدرة على التحمل الطويل نسبياً.
يمضي الناس غالبية وقتهم في تقديس الفعالية العقلية التي تسمح لهم بالتقدم لكنهم لا ينسون قداسة الجمال ممثلا بأجساد قوية ذكية تتحرك أمامهم بفن. تعلق الناس بالكرة تعلق بالقدم التي تحركها بجمال وفن وذكاء. تعلق بالقوة الجميلة. بالجسد المغيّب غالباً لحساب الروح والعقل. شهر المونديال هو ربما وبهذا المعنى شهر الثأر من العقل العقلاني الفعّال. شهر تقديس القدم من خلال الكرة وعلى حساب أي شيء آخر. ربما كان سحر اللعبة ههنا. 

* شاعرة من لبنان
القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *