غنائم ثقافية يحكمها البؤس


محمد العامري *

 حين كنا نشتبك في حوارات ثقافية دقيقة مع النخبة الثقافية، لم يخطر ببالنا أبداً أصحاب «الحقائب الثقافية» الذين يحملون في حقائبهم الصناعية مجموعة من المقالات المتنوعة لزجها في ماكينة النشر كي تسمم ذائقة القارئ الذي يحترم ثقافته واختياراته القرائية.
لكن هؤلاء أصبحوا ظاهرة تفشت في الجسد الثقافي كما جرَب احتلّ ناقة ضلّت الصحراء، لكن الصحراء التي تؤويهم لن تؤويهم من جوع ولا من خوف، كونهم ما يزالون يمكثون في غامق المؤامرة القاصرة عن إقصاء شمس المثقف الرواقي.. المثقف الذي يفكر خارج نطاق جغرافيا مكوثه، المشتبك مع العالم والذي لم يخطر بباله إمكانيات الوشاية لمسؤول يعتقد بعضهم أنه الرازق الواحد بعد الله.
هؤلاء، أصحاب «الحقائب»، يتم الحفاظ على سلالتهم كذخائر احتياطية في لحظة الهزيمة المؤكدة، تماماً كما فعل «هتلر» في المحافظة على كلاب «الفوهرر» في الحرب العالمية الثانية. فالمستثقِفون يتقنون فكرة التسلل، لأنهم يمتلكون أجساداً ناعمة لها قدرة على التشكل كقدرة الفأر في تشكيل عظام رأسه للدخول في الثقوب الصغيرة الماكثة في الجدران الهشة. فهم يستثمرون أي ثقب ضيق للدخول فيه، علهم يجدون كسرة من عفن الخبز لمواصلة حفر ثقوب جديدة تقيهم من مخالب القطط الشرسة، أو من حذاء مفاجئ من أحد سكان البيت.
لم يكن المسكوت عنه في مؤسساتنا الثقافية أقل فداحة من المفضوح فيها، فقد تساوت الأصوات العالية مع المسكوت عنه، والأخطر أن المسكوت عنه معلوم لدى النخبة الثقافية بانتظار الإفصاح عنه في لحظة ثورة الثقافة على كلاسيكيات التخلف التي تجتاح تفكير بعض المثقفين، متكئين على أوهام تتمثل بأنهم حراس للوطن والثقافة عبر إجراءات كلامية لا فعلية.
فالوطن لا يحتاج إلى هتاف، بل يحتاج إلى عمل أكثر مهنية وقدرة على الاستمرارية والتحدي، وأكثر قدرة على إصابة قشعريرة الناس كي نقدم لهم جرعة من الحب بمفهومه الإنساني.
هؤلاء الذين يتّصفون بإتقان الوشايات الصغيرة، أشبه بـ «يفتشنكو» الذي قدم أوراق اعتماده إلى عدو أتقن الاحتلال، فلم يكن العدو بمنأى عن تلك الفكرة كونه يعرف الوقت الذي تنتهي فيه صلاحية تلك الأوراق بانتهاء المهمة.
الكارثة أننا وقعنا بلعبة قشرة البصل في البحث عن الجوهر الثقافي الذي يفيد الأمة، حيث تتحول قشور البصل في كل طبقة إلى أوراق خالية من اللب. وأذكر هنا ما ذهب إليه «غونتر غراس» في كتابه «قشرة البصل». إننا في كل مرة نبحث عن الجوهر ولا نجده، والمشكلة أن صغار المثقفين الذين لم يشتد عودهم المعرفي، هم الذين يخططون لحماقات الأمة، لتتورط الأمة بأحلام تنتهي فور انقشاع الليل وفي أول إشراقة شمس.
فحين أصدر «هتلر» فرماناً للحفاظ على كلاب «الفوهرر»، أراد لنفسه حماية من نوع مختلف يصْعُب معها خيانته، لكنه في النهاية لم يستطع مواجهة حُزَم الضوء القوية التي أصرّت على التخلص من طاغية أراد أن يضع العالم في حذائه الثقيل.
فلم يعد بمقدور «الفوهرر» الثقافي أن يضع جملة عشق في جيبه كي يقف أمام النخبة الجادة، كونه لا يقوى على الحوار المعرفي، بل هو ماكث في الكتابة عن أساطير وهمية كانت تبحث عن كسرة خبز في صحرائها ولم تجدها. إنه الواقع المرتكز على تمجيد البؤس وإعادة إنتاجه بصورة أشبه بـ «فاترينا» هشة تتحطم من عصا صغيرة في يد طفل عابث.
فحين مُنع «تشومسكي» من دخول فلسطين، لم يقوَ الكيان الصهيوني على منع مثقفي العالم من فضح فعلته والوقوف إلى جانب «تشومسكي» كمثقف أشاع الشعاع الثقافي الرواقي في العالم، ولم تُجْدِ ثقافة الانتقام من «تشومسكي» نفعاً، وأرى إلى إدوارد سعيد الذي حرّك بحصى ألقى بها في الجنوب اللبناني قراراً سياسياً بمنعه من محاضرة كان سيقدمها في «فيّنا» بتهمة «الإرهاب».
فما ينتقده المثقف «الطري» يمارسه بحرفية عالية على الثقافة نفسها، بل يمارس الإرهاب عبر عصى المسؤول متناسياً بأن الافكار الدائرة في الكراسي تشبه النواعير في تغير مائها. وأذكر هنا ما فعله الكاتب الفرنسي «يوجين يونسكو» في مسرحيته الشهيرة «الكرسي»، والتي تطرح مفهوم العزلة أو المعاناة من الوحدة.
وأعتقد أن هؤلاء لم يطّلعوا على مسرحية «الوشاة» للكاتب «برتولد بريشت»، أو لم يدركوا ما فعله «ميلر» في مسرحيته «مشهد من الجسر» التي فضح فيها الوشاة كعناصر تخريبية في أي مجتمع يتواجدون فيه.
فالواشي يحتاج إلى قبيلة من الوشاة كي يكسر وحدته وبؤسه، وكي يكسر تلك التساؤلات الواخزة في ذاته المعتمة، محاولاً أن يداري عريه الفاقع كما فعل «فرانكو» في محاولاته البائسة لإخفاء حقيقته، ولم يخطر بباله أن «بيكاسو» قد قشّر عريه حتى العظم حين سجل بعبقريته لوحته الشهيرة «غرونيكا»، فما تزال تلك اللوحة التي رُسمت بالأسود والأبيض مدار الحديث عن فضائح «فرانكو»، فأصبحت «غرونيكا» بالأسود والابيض هي الشمس المضيئة، و»فرانكو» هو سواد إسبانيا.
وأكثر من أبدع في تعرية الوشاة، هو الكاتب الأميركي «إدغار ألن بو» في كتابه «القلب الواشي» ورواياته عن المخبرين التي اشتهر بها.
ومن بؤس الوشاة أن شهود العيان قد سجلوا حقيقتهم حين كانوا يرغبون بعدم وجود الشهود، ولن يُغفر لهم ما اقترفوه من ضغائن لا يمكن أن يرصدوا تحركاتها في الجسد الثقافي، فقد أصبحت رائحتهم تزكم الأنوف. 
الواشي البائس لم يستطع أن يتعامل مع قارورة العطر، فهو في زقومه يتجرع الوحدة والانتكاسات، باهت كقميصه البالي الذي لا يقيه من سطوة الشمس المعرفية .

– شاعر وتشكيلي من الأردن
( الرأي الثقافي)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *