]د.عبد الحليم المسعودي*
(1)
كيف تتمنى موتك ,أو بالأحرى كيف تتمنى أن تكون طقوس موتك ؟ سؤال قد يخامر البعض منا في لحظة ما، ربما في لحظة تفكّرٍ أو تأملٍ أو شرودٍ أو بهتة أو نوْمَة محمولة على قول النبي الأكرم «الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا». شخصيا أتمنى في ما يتمنى النائم على الانتباه أن لا أقبر في لحد حتى لا أكون عبرة لمن يعتبر عن الوقوف على قبري. للأن الاعتبار أو العبرة في رأيي تكون بالحياة وبطريقة السكن في الوجود والعالم وليس بالسكون في القبر. واذا كان لابد من الاجابة عن هذا التمني، فأنا أرى ـ أن أموت وهنا أتحدث على الطريقة ـ في احدى روافد نهر الأمازون تأكلني أسراب أسماك البارنهاس Piranhas تلك الأسماك الصغيرة المتوحشة التي لا تبقي ولا تذر في لحظات عابرة سأعتبرها وأنا الميت تحنانا من الطبيعة ستسمح لهذه الأسماك الصغيرة من الاستفادة من هذا الجسد المنهك، أو ربما على الطريقة المجوسية في حين توضع الجثة في ما يسمى بـ«أبراج الصمت» أي على سطح قبو عال في الخلاء متروكة للرّياح والأمطار والشمس والطيور الجارحة. أحبذ الطريقتين كرفض للموت الجنائزي من هول ما يصطحب موتنا من طقوسية رهيبة تعلو بالجنائزية الى ذرى الرّهبة والخوف والرّعب. جنائزية تقتلعك من فكرة الرحمة ومن طمأنينة تقبل الموت كجزء طبيعي مكمل للحياة، جنائزية الانتقام من الحياة نفسها، جنائزية النفاق والترهيب والابتزاز، جنائزية تقلب قول الرّسول الأكرم الذي يعتبر اكرام الميت دفنه رأسا على عقب، فيكون دفن الميت اهانته .
(2)
لعل ما دفعني على هذا القول في ذكر الموت وطقوسه ما صرحت به الأكاديمية التونسية رجاء بن سلامة مؤخرا في احدى الاذاعات حول رغبتها في أن يحرق جسدها بعد موتها، ربما على الطريقة الهندوسية أوعلى الطريقة الصناعية المعاصرة المعروفة بالفرنسية incinération أو crémation وهي تحويل الجثة الى رماد عن طريق النار. وهي ذات الطريقة المستعملة في البلدان الصناعية في التخلص من الفضلات العضوية والمادية وجعلها رمادا. ويبدو أن هذا التصريح الجريء أثار حفيظة الكثيرين وحمل على تأويلات عدة فى شبكة التواصل الاجتماعي، لعل من بين أهمها تهمة معاداة الطريقة الاسلامية في التعامل مع الموت وتحديدا مع جثة الميت، وهو ما يعني في مضمونه حين يمعن البعض في شيطنة الكاتبة، أنه نوع من المروق أو الهرطقة أو الخروج عن الملة، مما سيزيد مستقبلا في رفع رصيد الكاتبة رجاء بن سلامة أي رصيدها في المروق والهرطقة وحتى الردة في نظر الذين جهزوا أنفسهم لمعركة الحق والباطل، وأعتقد أن الردة هنا هي مفصل القول الذي تحوم حوله كل الرّهانات بين طرفي التسامح وطرفي التكفير والتشدد. لأن ما صرحت به رجاء بن سلامة ليس في الحقيقة الا تلك الرّغبة في تأكيد حرية ضميرها وتفيكرها، وهي المسألة المعلقة والمؤجلة التي لم تتم اثارتها بالشكل الكافي والحاسم في فضائنا العمومي بعد الثورة، ونذكر الطريقة التعويمية والمخاتلة التي تم التعامل معها في تونس أثناء كتابة دستور ما بعد الثورة وفي سياق جملة الحوادث التي ظهرت في سطح الشأن العام التونسي والتي برهنت أننا لا نزال نعيش في ما قبل فكرة حرية الضمير، بل ما قبل فكرة الحرية أصلا.
(3)
طبعا أُخْرِجَ كلامُ الدكتورة رجاء بن سلامة من سياقه ورُوّج في بعض الجرائد وعلى الشبكة الاجتماعية على أساس أنه استفزاز يمسّ من هذا «المقدّس» الهلامي، رغم أن الفكر وحرية التفكير في أصله قائم على استفزاز السّواكن، لكن الشطر الثاني الأهم المكمل لرغبة رجاء بن سلامة في حرق جسدها بعد موتها وهو شهادتها على طقوس موت والدتها ـ رحمة الله عليها ـ هو الأهم وهو الذي دفع بها الى التعبير عن رغبة حرق جسدها قبل موتها، اذ رأت في ذلك نوعا من التوظيف الصريح لعادات جديدة في طقوس الموت عندنا في تونس، وهي تقول : « … تساءلت هل يغسل المرأة الرجال ؟ طبعا لا. أذكر فيما يذكره شخص ملتاع بموت فقد والدته، أنني رأيت مجموعة من الرّجال والنساء لا أدري عددهم, امرأتان منقبتان اهتمتا بجثة والدتي، وكان هناك ملتحون يهتمون ببقية الطقوس وبالنعش. لم أتابعُ كل شيء، لكن وجدت بعد ذلك وجه والدتي مغطى ومحكم الربط فبكيتُ وصحتُ، شعرتُ بأنهم يريدون فرض طقوسهم الخاصة واختطاف موتانا منا. عندما تحدثت في الاذاعة ذكرت الملتحين ونسيت المنقبات، ربما لأنني رأيت ملتحين قي مناسبة موت قريب آخر».
(4)
شهادة رجاء بن سلامة مثيرة للانتباه، وهو ما يعني في ما تعنيه الشهادة صراحة انه تمّ اختراق كل شيء في ثقافتنا وعاداتنا التونسية، باسم اعادة أسلمة المجتمع التونسي أي صراحة ترويضه على ثقافة الموت، بما في ذلك طريقة اعداد الميت الذي أصبح مسروقا كما تشير الى ذلك صاحبة «الموت وطقوسه من خلال صحيحي البخاري ومسلم». وفي هذا السياق لا ننسى احتشاد أذهاننا منذ اطلالة الرّبيع العربي القاتم علينا بصور الموت بل أكثر من ذلك بعبادة الموت Le culte de la mort في كل ألوانها، ولعل من بين أهمها بورنوغرافيا الموت التي تأتينا صورها من بلاد الرافدين سوريا والعراق. ونعتقد أن هذا الكلام ليس مجرد تهويل أورجم ذُهانيّ محمولٍ على نوع الاسلاموفوبيا، وانما مستند الى عدّة ظواهر نراها بأم العين تجتاحنا في حياتنا اليومية، وأود في هذا السّياق أن أدلي بشهادة شخصية مفادها أنه في مطلع هذا العام حضرت دفن أحد الأعمام في مقبرة الجلاز، وكان رحمة الله عليه مشرفا على خدمة احدى الجوامع في العاصمة، وحين تجمعنا على حفرة قبره حاول البعض من الملتحين بأزيائهم المميزة طردي من الجنازة وكادوا ينهشونني كأسماك البرنهاس الأمازونية لولا تدخل أبناء عمومتي للذود عنّي، وهؤلاء لا علاقة لهم بالرّاحل الا معرفة به في المسجد أو أجوار له في السّكنى في حزام العاصمة. هكذا يسرقون الميت من أهله، وهكذا يتحوّل الموت وفضاؤه الى مجال خاص بهم يفعلون به وفيه ما يشاؤون. ولا ننسى أن من مظاهر ثقافة الموت الجديدة في تونس بعد الثورة أن بلادنا تشهد «صحوة» جنائزية مثل ما تدل عليه نشاطات بعض الجمعيات الاسلاموية كتنظيم جمعية تونسية سمت نفسها «المركز الاسلامي زيد بن ثابت» بالكرم دورة تكوينية تدوم ثمانية أيام في جانفي الماضي 2014 للنساء فقط لتغسيل وتكفين الموتى (أنظر موقع توريس)، وأن شيخا سعوديا يدعى عباس بن جمال قدم في ماي الماضي من عام 2013 ليقوم بدورة تدريبية تستغرق ثمانية عشر يوما في تغسيل الموتى وتجهيزهم استجابة لدعوة من جمعية خيرية في القيروان (انظر حقائق أون لاين
).
(5)
الغريب أن هذا الشيخ السعودي حين سُئل عن الغاية من قدومه الى تونس لاقامة هذه الدورة التدريبة، أجاب أنه يريد أن يلاحظ الفرق بين طقوس تجهيز الميت وغسله في تونس وفي السعودية. وهو ما يعني أنه رجل قدم للمقارنة العينية فحسب، وكأنه بذلك يتبع منهجا أنثروبولوجيا حول الموت وطقوسة في السعودية. عجبا والله. ولعلها أنثربولوجيا جديدة وهابية المنهج والمنطلقات، تصحيحية الأهداف باسم السنة والسّلف. والأخطر من ذلك أن هذا الأخير لم يأت بمحض ارادته ولكن تلبية لدعوة جمعية خيرية هي جزء من «المجتمع المدني» في تونس، وفي القيروان تحديدا، والأغرب أن أصحاب الجمعية الخيرية هذه مقتنعون أن أهل القيروان ما عادوا يحسنون تجهيز الميت والصلاة عليه، وأن الرّعب الغريزي من الموت يحتاج في تونس الى جرعة وهابية حتى يكتمل مشهد الرّعب اذ قد يؤدي مداه في تونس الى دفع بعضهم حمل الأطفال الصغار من رياض الأطفال الى نزهة في المقبرة للاعتبار. وبالعودة الى أمنية الموت أو كيفية الموت أو كيفية جنائزية الموت وطقوسه، فان ما قالته الدكتورة رجاء بن سلامة حول رغبتها في حرق جثتها معركة طويلة المدى تتجاوز جسدها الى جوهر ضميرها وحريته وهذا مربط الفرس حين تعلن «أنهم يريدون اختطاف موتانا منا» كحلقة نهائية لاختطاف أحيائنا .
يقول أولاد أحمد في «وصيته» الشهيرة :
«رجاء : ليتطاير شرَرُ عظامي حتى يبلغ أجنحة الملائكة».
* ناقد وأكاديمي من تونس
( الشروق )