«واقعات» اللغة..


*محمد بنيس

1

أصبح لوضعية العربية في العصر الحديث تاريخ. ولا يمكن أن نتجاهل، اليوم، هذا التاريخ، لأن التفكير في مستقبل العربية غير ممكن عند تجاهل ما تم تداوله أو ما نعيشه من يوم ليوم. يعني عدم التجاهل أن الإقدام على تناول العربية بالملاحظة والدرس يتطلب أن نعترف بالزمن ونستوعبه. فنحن أمام اتساع رقعة التعليم في العالم العربي، وازدياد الفوارق بين تعليم حكومي وتعليم خصوصي، وتنوع الممارسات اللغوية، بين العربية المكتوبة والعاميات واللغات العالمية، من إنجليزية وفرنسية وإسبانية. ثم إننا أمام أوضاع لغوية دولية، لا مجال لإخفائها. فالإنجليزية هي اللغة الدولية الأولى، عبر العديد من مناطق العالم وفي مختلف مجالات التأليف والبحث العلمي، فضلاً عن الرأسمال والتقنية. كما أن انسحاب لغات من المشهد الثقافي والعلمي، أو حتى من التداول الاجتماعي، واقع يتحدى النوايا والخطابات.
هكذا يكون واقع العربية مركباً، لا يقبل الاختزال. وضعية تتراكم وقائعها مع تقدم الزمن. ولا أحد يعرف كيف يضرب بالمطرقة على قطعة الحديد المُحمّى. نطرح السؤال ثم نغفو. نتلذذ بلغة لا هي للماضي ولا هي للحاضر، وعلى وجوهنا طبقات من الأقنعة.
2
لا أدعي إحصاء وقائع العربية ولا تملّكَ الذي أفك به ألغازها. ما سميته واقعاً مركباً يكفي للاعتراف بتداخلات وتفاعلات أحسها ولا أدركها تماماً. حقاً، للأدباء، وفي مقدمتهم الشعراء، أن يدلّوا على وضعية اللغة في زمنهم. كذلك كان جبران خليل جبران حين كتب نصاً بمثابة بيان، بعنوانه الزلزال: «لي لغتي ولكم لغتكم». وعلى منواله سار اللاحقون، بأسئلة محرقة أو بدعوات لها لسان المعجزة. أتأمل ما كتبوا. أمضي لأعود وأعود لأمضي.
لذلك لا أتأخر في عرض ما يبدو لي الواقعة الأولى للغتنا. «الواقعة» بمعنى الداهية أو النازلة. نعم، واقعة هي أسبق العوائق التي تطارد العربية في زمننا. ما أفترض، إذن، هو أننا، مؤسسة وأفراداً، لم نفصل حتى الآن بين البعد الديني للعربية وبعدها البشري. فالخلط بين البعدين، واستمرار الالتباس بينهما، لا يترك إمكانية قراءة الفاصل بين زمنين لغويين، ومن ثم بين لغتين لهما بنْيتان مختلفتان وتؤديان وظيفتيْن متباينتيْن. إن الذين لا يحبذون العربية الحديثة يحرصون على حماية المتعاليات أو لا يفطنون لسطوتها. هذه الواقعة تقف حاجزاً يحول دون اتخاذ الخطوة الحاسمة بالانتقال من العربية القديمة وقواعدها وقيمها إلى العربية الحديثة، التي لم تعثر بعد لا على مكانتها في التعليم، ولا على قواعدها الملائمة أو على معجمها الذي يستجيب لاحتياجات زمننا وخصائصه الاجتماعية والثقافية.
3
في مقابل المؤسسة السياسية، قام الأدباء والكتّاب والصحفيون العرب بتحديث العربية، منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى اليوم. ومن اليسير ملاحظة كيف أن حركة التحديث اللغوي، التي بدأت في مصر والشام، أصبحت معممة في جميع البلدان العربية، وخاصة منذ الخمسينيات من القرن الماضي. وحمل هذا التعميم معه طابع البلدان والمجتمعات العربية، الذي نعثر على آثاره في الأعمال الأدبية كما في الكتابات الصحفية. أقصد طابع التاريخ والثقافة والمجتمع، على حد سواء. وهو ما ينعكس على التركيب اللغوي والتلفظ، مثلما يتجسد في المعجم، أكان في الخطاب الأدبي والفكري أم في الخطاب الصحفي، بل وفي الخطاب العلمي. طابع يظهر التعدد والاختلاف، بدل الوحدة والائتلاف.
إن القارئ، الذي ينتقل من الخطاب النظري إلى الممارسة النصية، سيلمس هذه الطابع بارزاً في الخطاب العربي الحديث. وسيلمس، في الوقت ذاته، استضافة العربية للغات أوروبية، وخاصة لغة الاستعمارين اللذين هيمنا على العالم العربي، الإنجليزية والفرنسية، باعتبارهما لغتين ثقافيتين أو تمثيلاً لعلاقة ما بعد استعمارية. لذلك فعندما نكون على حدود العربية الحديثة، لا داخلها ولا خارجها، نكون في وسط الزمن الذي نعيش فيه، وعنده يصبح من حقنا أن نتطلع إلى الفضاء الأكبر للغات. من هذه الحدود نطل على العربية القديمة، على العامية، على اللغات الأجنبية. إطلالة هي أيضاً العلاقة مع مصطلحات وتعبيرات بقدر ما هي استقبال جماليات وأفكار وقيم واختراعات متواصلة بحيوية، تتساوى فيها العربية الحديثة مع عديد من لغات العالم، التي لها وضعية العربية، أو تفوقها، في بعض الأحيان.
هذه العربية الحديثة تحل، إلى حد بعيد، مسألتين طال الحديث عنهما: مسألة العامية ومسألة الثقافة الحديثة وعلومها. تحل العربية الحديثة هاتين المسألتين ولو بطريقة غير متكافئة. وينتج عدم التكافؤ عن اختلاف مجالات الممارسة اللغوية ومتطلبات كل واحدة منها. وحيوية العربية الحديثة واستعدادها للعلاقة مع الآخر واستضافة لغات أخرى، مستمدان من ماضيها بقدر ما هما يستفيدان من جرأة كتابها على التعلم من اللغات الحديثة ومن هدمهم للممنوع.
4
ذلك ما عاينه ابن خلدون في زمنه. فهو لاحظ أن «لغة حمْيَر لغة أخرى مغايرة للغة مُضَر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها، كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مُضَر». ويضيف في فصل لاحق: «اعْلمْ أن عُرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مُضَر القديمة، ولا بلغة أهل الجيل، بل هي لغة أخرى، قائمة بنفسها». ثم لا ينسى خرق الممنوع عندما يشرح: «فأما أنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر، يشهد له ما فيه من التغايُر الذي يُعدّ عند أهل صناعة النحو لحناً». لغة العرب لعهدنا، أو تخصيص لغة التخاطب في الأمصار وبين الخضر بأنها «قائمة بنفسها»، أو خروجها على قواعد النحاة، يضاعف من حجة الإبدالات اللغوية التي هي المدخل إلى قراءة ما هي عليه اليوم اللغة العربية من تحديث.
5
دفعتني ممارستي الشعرية إلى مواجهة أسئلة تحديث العربية. ثم إنها هيأتني للتعرف على أوضاع لغوية في الغرب (أوروبا وأميركا) أو آسيا (اليابان، الهند، الصين) أو الشرق الأوسط (إيران، تركيا وإسرائيل). وقادتني، بالتزامن مع ذلك، إلى إعادة النظر في العاميات العربية (وفي مقدمتها المغربية) أو في الأمازيغية والكردية والأرمنية. مواجهة لا يفلت منها أي شاعر وكاتب إن كان يرغب في الانتماء إلى الزمن الذي يعيش فيه، ويحس بضرورة العمل على تحديث اللغة التي يكتب بها وهو ينصت إلى العالم الذي حوله.
وعلمتني كتابة قصيدة حديثة أن أتعلم مباشرة من الشعراء الحديثين السابقين عليّ، ابتداء من الرومانسيين العرب. ولم يخطر على بالي أن أعود إلى مقررات المجمع اللغوي العربي، التي لم أحس يوماً أنها متداولة أو ذات فائدة. ما يميز العربية الحديثة لدى الشعراء هو استضافة اللغات الغربية في لغتهم الشخصية. إنها الاستضافة التي تدعم العلاقة مع اللغات الحديثة وقيمها، في أفق الحوار، الذي من المفروض أن ينشأ بين قصيدة وقصيدة، بين قصيدة وقارئها.
6
تقودني العربية إلى القول بأن الممارسة اللغوية الحديثة لدى العرب، في الأدب والفكر والصحافة، ستظل ظرفية وعمياء إن هي لم تتفرغ لما هو نظري وفكري، أو إن هي لم تقتحم أسوار الممنوع في تناول وضعية العربية اليوم. وما يمكن أن يساعد على التفكير هو الانطلاق من العربية الحديثة. وأنا، هنا، أتكلم من مكان الشاعر لا من مكان اللغوي أو المفكر. هذه العربية الحديثة هي منطلقي الذي أرى من خلاله بداية الحديث لا عن تيسير العربية، كما يقال، بل عن تحديثها، أو عن العلاقة بين العربية الثقافية والعاميات، أو بين العربية ولغة العلوم.
يوفر لنا تاريخ التفكير الحديث في العربية كتابات ومواقف. من ذلك ما أحدث رجة في المجتمع الثقافي، مثل الدعوة إلى العامية في التعليم والثقافة أو اعتماد الحرف اللاتيني في الكتابة. ونكاد نرى عودة هذه الكتابات والمواقف إلى ساحات عربية كما لو لم تطرح من قبل في مكان آخر. وهو ما يتسبّب في تبذير الوقت. ولا تكاد تتوقف الدعوات إلى تيسير قواعد النحو والصرف، دون أن تؤدي إلى تبني موقف شجاع. وأول ما يسم الموقف الشجاع هو، برأيي، اعتماد العربية الحديثة في الملاحظة واستخلاص لغة المستقبل.
معنى ذلك أن اختيار تحديث العربية يصعب أن يتحقق في ضوء مواقف ماضوية من اللغة ومن قيمها. هنا يكون الحفر النظري ذا أولوية في التناول. فمشكل العربية فكري، ولا حل له إلا باعتماد النظري. ثم إن البحث عن الحلول العملية سيصبح ممكناً عندما يتم الاعتراف بالعربية الحديثة كمتن لغوي صالح ليكون منطلقاً نحو بناء عربية المستقبل.
7
عندما نعترف بالعربية الحديثة، التي هي عربية الممارسات النصية في زمننا الحديث المختلف عن الماضي، فإننا سنتقدم نحو ما سيفاجئ. ففي هذه الممارسات، المتفرعة عن اللغة الواحدة، سنجد المتعدد والمختلف. لا أقصد هنا اللغة الأدبية الغريـبة، التي عليها أثرُ الفردية، بل أقصد اللغة التي تحمل أثر الثقافة والتاريخ والمجتمع، في كل منطقة على حدة. وهو ما سيطالبنا بالنظر إليه بما هو تحققٌ فعليٌّ، به تتميز العربية الحديثة وفي ضوئه يمكن أن تنمو وتتبدل. عندما أقرأ كلمة في عمل أدبي عربي (شعراً أو رواية أو قصة قصيرة) وأصطدم بكلمة غريبة، أمدّ يدي إلى المعجم، بحثاً عنها. أبحث وأبحث، في هذا المعجم أو ذاك، فلا أعثر عليها. إذاك أشعر بأن بين العربية الحديثة وعربية المعاجم مسافة تمنع عني التفاعل مع لغة زمني. فحساسية الكاتب باللغة قوية، وهي التي تدله على كتابة غير المألوف في التداول التقليدي، في المدرسة وفي الدرس إجمالاً.
العربية الحديثة متعددة ومختلفة، مثلما كانت عربية الماضي متعددة ومختلفة، بين دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة والقيروان وفاس، أو بين المغرب والمشرق، كما شهد ابن خلدون على ذلك، إذ كتب :« فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب، وكذا أهل الأندلس معهما. وهذا معنى اللسان واللغة.» فالتفريق بين اللسان واللغة، الحاضر في كتابة ابن خلدون، هو نفسه الذي يقول به علم اللسانيات اليوم. كذلك هي الإنجليزية اليوم متعددة ومختلفة بين إنجلترا وأميركا وكندا والهند وأستراليا وجنوب إفريقيا. إنه الوضع ذاته في كل من الإسبانية والفرنسية. هنا يكمن الفرق بين العربيات الحديثة وبين العاميات. ومن المؤسف أن المؤسسة اللغوية في المشرق، التي عادة ما يمثلها كتاب ونقاد حديثون في الشام ومصر، تشعر بالغيْرة من هذا التعدد والاختلاف، خاصة عندما يتحققان في أعمال كتاب من المغرب الكبير. لذلك تنظر إليها بعين شزراء، تضاعف بحقها الكبت والإهانة. هذه هي الواقعة الثانية التي لا بد من اعتبارها عند كل كلام عن العربية الحديثة.
8
تتبعت كتابات ومناقشات تخص مشاكل العربية وما يعترضها في زمننا، وكنت أحياناً أسأل نفسي: ألا تسخر المؤسسة السياسية العربية منا عندما تلقي كل مرة على وجوهنا سؤال: كيف نيسّر العربية؟ أو سؤال: هل العربية صالحة للعلوم؟ أو عندما توصي جهة (عربية أو أجنبية) بأن الحل في العامية أو في لغة أجنبية؟ هذه المؤسسة (أو الجهة) لا تقبل البدء بما يجب البدء به، وهو تبني العربية الحديثة وقيمها. والقبول بهذا الموقف يؤكد لنا أن تبني العربية الحديثة، وبالتالي الشروع في اعتمادها لغة التدريس والبحث والتداول، لا يمكن أن ننتظر تحقيقه حتى يتفق العرب جميعاً على إصلاح العربية. اختيار العربية الحديثة من صلب اختيار القيم الحديثة في المجتمع. فلا يمكن أن نتصور أن الديمقراطية ستتحقق بقرار جماعي، أو ستـتم ممارستها في جميع الدول العربية، في يوم واحد وبمرجعية واحدة.
هذه هي الواقعة الثالثة التي تحول دون تمكين العربية الحديثة من الحياة في فضائها الطبيعي، حيث يمكن للغة أن تبني مجتمعاً جديداً ويمكن للمجتمع أن يبني لغة جديدة. لقد عاشت العربية في القديم ضمن ثقافات ذات خصوصيات مختلفة، بفضل المبادرة الفردية والجماعية، في كل منطقة عربية على حدة. لا أمرَ ولا إذنَ من هذا أو ذاك. وهو ما أقدم عليه كتاب عرب حديثون، من المغرب والمشرق. إنه الطريق الممكن الذي يسمح بالخروج من أسئلة تتكرر ولا تنمو، تقلد ولا تبدع.
9
عربية حديثة رغبت، لأكثر من قرن، في هدم الممنوع. وها هي اليوم في حالة حدَاد، لأنها منفية، متروكة خارج الحاضر والمستقبل. تخاف المؤسسة أن تعطيها حق الإقامة، لأنها لغة تطل من حدودها على لغات وأزمنة، لأنها لغة الوعد بالعطاء. ومن نافذتي أرى الوقائع من وراء حجاب تتكلم، فيما اليد تواصل الكتابة من يوم ليوم، بلغة عربية لا تعرف هل هي للحياة أم للموت.
_______
*الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *