*خليل قنديل
المكتبة تنام أيضاً حين نحرمها من التغذية بالإصدارات الجديدة والطبعات الملحة بحضورها على رف المكتبة، ولهذا كثيراً ما نلاحظ أننا ونحن نهمل مكتبتنا البيتية أن المكتبة تبدو وكأنها تغط في نوم عميق، لا يخلو من الاصطفاف الممل للكتب وتجاورها حد الالتصاق الصمغي.
ومن جهتي فقد دربت نفسي على الشعور المبكر بخلو المكتبة الخاصة بي من الكتب الجديدة التي تظل على أهبة التناول والقراءة.
وقبل أيام لاحظت خلو مكتبتي من الكتب الجديدة المُحفزّة للقراءة، وخلال جولتي التصفحية وجدت أن هناك بعض الكتب التي لم أقرأها، مثل كتاب «في الثناء على ما يبقى»، من إعداد ستيفن برغ، وترجمة العراقي رباح الركابي، الصادر عن دار الشؤون الثقافية في بغداد، ضمن سلسلة المائة كتاب عام 87 من القرن الفارط.
أعترف بأن الكتاب أثار فيّ شجناً خاصاً وهو يقدم اعترافات كتابية لما يزيد على العشرين كاتباً وكاتبة، وجمالية الكتاب تكمن في حالة الصدق النادرة التي مارسها هؤلاء الكتاب وهم يكشفون عن تلك اللحظة التي حولتهم من أناس عاديين إلى كتاب في مطلع حياتهم، وكيف تسرنمت رؤاهم وهم يتلمسون المشهد الكتابي الأول، ولحظة الاندماج الأولى في المس الكتابي.
وأول ملامح هذا الشجن فقدان المكتبة العربية مثل هذه النوعية من الكتب، إذ لم يسبق لدار نشر عربية أن تبنت مثل هذا المشروع في استنطاق الكتاب العرب واستفزازهم على هذا النحو كي يتحدثوا عن تلك الالتماعة الأولى في انجذابهم الكتابي الأول، ذلك أن دور النشر العربية تعتبر نفسها أكبر من كل المواهب الإبداعية، ولا تكلف نفسها عناء الاتصال مع المبدع العربي، وتكليفه الكتابة، بل على المبدع العربي أن يلهث في سباقات طويلة كي يحصل على ذاك التكليف السامي في الكتابة. أما بخصوص المكافأة فحدّث ولا حرج عن شكوى الحال التي يقدمها الناشر كلما اقتربت من هذه النقطة.
وثاني ملامح هذا الشجن هو هذا الاختباء المتعمد الذي يمارسه المبدع العربي، وذلك الجلد السلحفائي الذي يسور به روحه، بحيث يصعب عليك أن تمسك بوضوح المشهد الكتابي عنده، ذلك أن الكتابة عن الذات عند العربي تحتمل الكثير من أشكال الأقنعة والمواربات، والعمل على التستر على أدق التفاصيل المؤسسة لتكوينه.
وبالطبع فإن هذا ما يفسر قحط المكتبة العربية من كتب السيرة الذاتية، وتبذير كل هذه السيّر الذاتية في أعمال كتابية نائية، أساسها الأصيل هو السيرة الذاتية للكاتب ذاته.
وثالث ملامح هذا الشجن أن العربي لا يجاهر في نظرته إلى الأدب، باعتباره مدراً للربح والثراء، ومن هنا نلحظ افتقار العالم المكتبي للمأسسة وفقدان الجديّة في التعامل المالي مع عالم الكتب، ذلك أن مصطلح المكتبة قد يعني بيع القرطاسية والكتب الجامعية على الأرجح.
ما حدث معي لاحقاً هو عودتي إلى فرز كتبي ومكتبتي كي أجعل الكتب تسدد ثمن إقامتها المُزمنة في مكتبتي، وأن أعاود الاستمتاع بتلك القراءات النائمة في مكتبتي.
____
*الإمارات اليوم