حوار: نضال القاسم
منذ ستينيات القرن الماضي برز الشاعر الدكتور عزالدين المناصرة كشاعر له بصمته الخاصة التي تضفي على القصائد مسحة من رونق وجمال، وقد أنجز المناصرة عبر مسيرته الطويلة (أحد عشر ديواناً شعرياً)، و(خمسة وعشرين كتاباً) في النقد الأدبي والتاريخ والفكر. وأنجز (رتبة بروفيسور) في الأدب المقارن بعد ثلاثين عاماً من التعليم الجامعي، وخاض معارك ثقافية وسياسية مشرفة في عالم لا يرحم الضعيف، ولكن الحصيلة لم تكن كما كان يشتهي، فقد سارت به الحياة عكس التيار.
ومما يثير الإعجاب في تجربة المناصرة قدرته على التنويع في كتاباته الشعرية والتنقل بسلاسة بين أجناسها، فقد كتب قصيدة التفعيلة الحديثة بجودة عالية واستجاب لكل شروطها الشكلية من ضبط التفعيلات وتوزيعها على أسطر حسب الدفقات الشعورية، وتنويع القوافي، وأجاد أيضاً في قصيدة النثر وفي الأبيجرامات الخاطفة، فكتب شعراً عصرياً يواكب تطور الحداثة الشعرية برؤية حديثة ولغة موحية مبتكرة دون أن يهمل القديم في استعمالاته وأشكاله الكلاسيكية، وبذلك وقف موقفاً وسطاً بين المتخاصمين على ماهية الشعر والأجناس الأحق بامتلاك صفة الشعرية، وأكد أن الشعر لا يرتبط بالأشكال بالضرورة، وإنما بما ينطوي عليه من عناصر فنية كالخيال وجمال الرؤية وموسيقى الصورة والانزياح اللغوي،
عن الشعر والتجريب وعن التحولات التي طرأت على الشعرية العربية، والإشكاليات التي تواجه المثقف العربي، كان لنا معه هذا الحوار:
* ما الذي تريده من الكتابة والشعر، وبماذا تحلم؟
* الشعر نسغ الحياة مثل الماء في غصون الشجر، فإذا تلاشى نشفت الغصون، وهو أيضاً رسالة ولا أحلم بالخلود، أنا أعرف أنني كجسد سأتلاشى، لكن ستبقى النصوص الى جانبي رمزاً في هيئة اسم، فكل إنسان لديه رغبة في إيصال شيء يتركه للعالم، والقصيدة هي الشيء الوحيد الذي أفرح به عندما يُنجز، القصيدة هي الشيء الوحيد الصافي الصادق الذي يبقى.
* هل أنت استفزازي مشاكس بطبعك؟
* أنا شخص صبور جداً، هادىء جداً، لا أُستفّز ولا أستفز، ولكن في بعض المفاصل التاريخية أي التي تحتاج الى رأي شجاع خارج الخطأ الجماعي (والجماعة قد تخطىء) أُضطر أن أظهر على السطح لتصحيح خطأ أو الدفاع عن وجهة نظر مخالفة للسائد في الوسط الثقافي.
أميل بطبيعتي للعزلة المنتجة، ومعنى هذا ببساطة أن أذهب للعمل وأتقن عملي وأعطي الآخرين دون أن أحسب حساباً للربح والخسارة، وأعود لبيتي لأقرأ، فالقراءة تحفّز على الكتابة وأكتب لإيصال صوتي في قصيدة أو مقالة أو بحث، لكن الحياة تدفعني بالصدفة الى مواقف من أجل الآخرين أعتقد أنها ترضي ضميري.الحياة تدفعنا نحو مصائر لا نتوقعها.
* يقول لوركا «لم تُنظم بعدُ القصيدة التي تنغرز في القلب كما ينغرز السيف»، هل كتبت أنت تلك القصيدة؟
*حتى لو نجحت القصيدة التي أكتبها عند القراء والنقاد، أشعر دائماً أنها ناقصة، فلدي دائماً هاجسٌ يقول بأنني لم أكتمل ولم أنجز بعد القصيدة التي أريدها، ودائماً أشعر أن هناك أشياء لم أستطع التعبير عنها وأتمنى من الله أن يطيل عمري حتى أنجز ذلك. ويبدو أن الإنسان يظل يحلم حتى وهو يموت، أشعر بفرح لمدة أسبوع بعد إنجاز القصيدة، ولكن بمجرّد أن أقرأها بصحيفة أو مجلة أشعر بالخلل فيها وأشعر بحاجتي إلى شيء آخر.
* تكاد تطلُّ على (السبعين)، فأنت من مواليد الخليل بفلسطين (1946)، ماذا أنجزت في الطريق من (الخليل والقدس) نحو العالم؟
*أنجزت (أحد عشر ديواناً شعرياً)، و(خمسة وعشرين كتاباً) في النقد الأدبي والتاريخ والفكر. وأنجزت (رتبة بروفيسور) في الأدب المقارن بعد ثلاثين عاماً من التعليم الجامعي. وأنجزتُ (ولدين وبنتاً وحفيداً واحداً). خُضتُ معارك ثقافية وسياسية مشرفة في عالم لا يرحم الضعيف، ولكن الحصيلة لم تكن كما أشتهي، فقد سارت بي الحياة عكس التيار.
* قلت ذات مرّة بأنك ركبتَ مئات الطائرات في العالم، لكنك لا تتذكر سوى طائرة واحدة منها، هي الطائرة الأولى التي أقلَّتكَ من (مطار قلنديا) في القدس إلى القاهرة بتاريخ (15 أكتوبر 1964)، حيث الحياة الثقافية الصاخبة آنذاك.
* صحيح، ومازلت أتذكر تفاصيل تلك الرحلة حيث كان يرافقني والدي وشقيقي الأكبر رحمهما الله، وخالي (إسماعيل)، حيث تناولنا الغداء في (القدس القديمة)، ثم ذهبنا إلى المطار، حيث جلسنا في مقهى التيراس الموجود على سطح المطار. وأتذكر البنت المقدسية التي تعرفت إليها. وأتذكر إقامتي في القاهرة في تلك الليلة في (فيلا مونتروز) في روكسي بمصر الجديدة، حيث باعني سائق التاكسي لهذا الفندق دون أن أدري، لأنني اكتشفت في الصباح أن العنوان الذي أقصده يقع مقابل الفيلا تماماً. هناك تفاصيل كثيرة. وبالفعل رغم أنني وصلت في ترحالي إلى أقصى القطب الشمالي (مونتريال الكندية)، إلا أنّ طائرة القدس ماتزال ترفرف في رأسي منذ ذلك العام (1964). كما أن هذا العام هو العام الذي تأسست (28/5/1964) فيه منظمة التحرير الفلسطينية في القدس، ارتبط مصيري الشخصي بها منذ نشاطاتي في (الاتحاد العام لطلبة فلسطين – فرع القاهرة)، الذي أنتج قيادات كثيرة من قيادات المنظمة لاحقاً. أما الحياة الثقافية في القاهرة، فقد رميت نفسي فور وصولي في عباب بحرها المتوهج، حيث أصبحت عضواً في (الجمعية الأدبية المصرية) في عابدين بالقاهرة في نوفمبر 1964، التي كان يتناوب على رئاستها: صلاح عبدالصبور، فاروق خورشيد، عزالدين اسماعيل، عبدالغفار مكاوي وغيرهم، وشاركت في كل أمسياتها الشعرية. كما شاركت في مهرجانات الشعر السنوية التي كانت تقيمها (كلية دار العلوم – جامعة القاهرة). وفي (16/3/1967)، بدعوة من نقابة المحامين المصريين، أقمنا مهرجاناً شعرياً فلسطينياً شهيراً شارك فيه صلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وفاروق شوشة وغيرهم، حيث قرأت بنفسي أشعار (محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زيّاد) لأول مرة بمصر. وكنت عضواً دائماً في (مقهى ريش)، حيث نلتفُّ حول (نجيب محفوظ)، الذي كان صديقاً لنا نحن الشعراء والقصاصين والروائيين (الشباب آنذاك)، الذي قادوا الحركة الثقافية بمصر لاحقاً. وكنت في القاهرة (مراسلاً صحافياً) لعدة مجلات منها: مجلة (الأفق الجديد) في القدس، 1964 – 1966، ومجلة (فلسطين ملحق المحرر) في بيروت (1965 – 1966)، ومجلتي (الهدف، 1969) التي كان يرأس تحريرها غسان كنفاني، و(مواقف) في بيروت، التي كان يرأس تحريرها الشاعر السوري أدونيس منذ صدورها عام 1968.
* تُرجمتْ أشعارك إلى ما يقرب من (عشرين لغة) كقصائد منفردة، وصدرت لك (سبعة كتب) مختارات شعرية إلى لغات أجنبية. ما معنى قولك ذات مرَّة: (أنا شاعر عالمي حتى قبل أي يُترجم لي سطر شعري واحد).
* ترجمات الشعر العربي إلى اللغات الأجنبية في معظمها، هي ترجمات تضامنية أو ترجمات (سفاراتية) أي بدعم من سفارة بلد الشاعر، أما الذين ترجموا لي فقد كانوا متطوعين، وبعضهم لم أتعرف إليهم حتى اليوم. أما قولي: (أنا شاعر عالمي حتى ….)، فهو يعني أن الشاعر (أي شاعر) يكون عالمياً في النص أو لا يكون قبل الترجمة.
* قلت: «إنني عاشقٌ جرّب الذبح والمذبحة»، ماذا عن جفرا، وحيزيه، ولالاّ فاطمة؟
* جفرا نمط شعبي غنائي فلسطيني فرعي انتقل بعد عام 1948 الى مخيمات الأردن وسوريا ولبنان، وفي عام 1976 كتبتُ قصيدتي (جفرا أمّي إنْ غابت أمّي) عن مأساة فتاة جاءت من فلسطين إلى لبنان واستشهدت بنيران طائرة إسرائيلية في غارة على بيروت. وكنتُ أعرفها، كتبتُ القصيدة ونشرتها في صحيفة (النداء) اللبنانية ثم فوجئتُ صدفة بأطفال يغنّون القصيدة في الشوارع في منطقة الشيّاح وسألتُ هؤلاء الأطفال فلم يجيبوني إجابة وافية سوى أن مطرباً لبنانياً هو (خالد الهبر) يغنّيها، ثم غنّاها (مارسيل خليفة).
قبل قصيدتي هذه لم يكن هناك فرق شعبية أو مؤسسات عامة باسم جفرا وأنا أزعم أن كل ذلك تم بتأثير هذه القصيدة، كما أكدت ذلك الدكتورة بنان صلاح الدين (جامعة القدس)، فقد تفوَّقت قصيدتي الفصيحة على الموروث الفولكلوري كما قالت في بحث لها. لأن النمط الشعبي في لبنان وسوريا كان محدوداً. وعندما كان يسألني الصحفيون كنتُ أجيبهم أنها رمز لقصة قديمة شعبية. وفي عام 1977 زرت مدينة (برنو) في تشيكوسلوفاكيا وإذا بفرقة لبنانية تؤدي رقصة على موسيقى قصيدتي جفرا. ولقد ترجمت القصيدة الى الفرنسية حيث قامت بترجمتها الشاعرة (إتيل عدنان) وهي شاعرة تكتب بالفرنسية، وغنّاها بعد خالد الهبر (مرسيل خليفة) مع قصائد (وعود من العاصفة) لمحمود درويش في أول أسطوانة صدرت له في حياته الفنية في (باريس، آب، عام 1976).
– أما (حيزية) فهي بالأصل فتاة بدوية جزائرية حقيقية في منطقة (بسكرة) في القرن التاسع عشر أحبّت شخصاً كانت تقابله في واحة النخيل، وفي إحدى المرّات جاءته ملثّمة فظنّ أنها عدو، فأطلق عليها النار فقتلها، وذهب هذا الشاب الذي أصيب بالندم إلى الشاعر الشعبي (ابن قيطون)، فكتب عن هذه المأساة قصيدة شعبية مطلعها :
(عزوني يا ملاح في رايس البناتْ سكنت تحت اللحود ناري مَقْديا)
وصادف أن زرت القبر (قبر حيزية) في قرية (سيدي خالد)، حيث كنت مشاركاً في مهرجان شعري في مدينة بسكرة، وتأثرّت كثيراً بهذه القصة وظلّت في داخلي، وفي عام 1986 كتبتُ (حيزية)، طبعاً هناك سينمائيون ومسرحيون وشعراء جزائريون تناولوا هذه القصة الشعبية، لكني فرحتُ عندما زرتُ جامعة وهران، وأحييتُ أمسية شعرية عندها وقف الدكتور (عمّار بلحسن) أستاذ علم الاجتماع في الجامعة وقال (قصيدة المناصرة تفوق ما كتبه الجزائريون).
عام 1989 ألقيتها أمام الجمهور الجزائري عند تأسيس جمعية الجاحظية بحضور اللعبي وبنيس والطاهر وطّار، وقد أصرّ الطاهر وطّار على نشرها في مجلته (التبيين) التي تصدرها الجاحظية. والتقيت بوطّار في صيف 1997م في المغرب فأصّر على أن يقوم بإعادة طباعة القصيدة في كرّاس مستقل، وكلما ذهبت الى مكان في الحزائر فإنهم يطلبون منّي أن اقرأ قصيدتين لي هما: (حيزية)، و(لالاّ فاطمة).
* ماذا عن الإبداع الروائي العربي وهل صحيح أن الشعر دخل في طريق مسدود؟
* لو أخذنا ما صدر في الرواية العربية نجد ما يلي، أولاً نجيب محفوظ وحده ثم الجيل الثاني الذي تلاه مثل (حنا مينه، عبدالرحمن منيف، غسان كنفاني، حليم بركات، يوسف حبشي الأشقر، سهيل ادريس، رشيد بوجدرة، الطاهر وطّار، عبدالحميد بن هدوقة، محمود المسعدي، توفيق يوسف عوّاد، الطيب صالح، صنع الله إبراهيم، حيدر حيدر، إبراهيم أصلان، غالب هلسا، جمال الغيطاني، إبراهيم الكوني، مؤنس الرزاز، جبرا إبراهيم جبرا، إميل حبيبي، إلياس خوري، سحر خليفة، فتحي غانم…الخ.
هؤلاء يصنّفون الى ثلاثة أجيال: نجيب محفوظ وحده، جيل الستينيات والسبعينيات. ولكن الانفجار الروائي في العالم العربي مع الجيل الثالث بدأ (أول التسعينات) وهو نفس تاريخ التحول الإعلامي باتجاه قصيدة النثر، وهو أيضاً التاريخ نفسه لبداية النظام العالمي الجديد، الذي يرّكز على التشظي والفسيفساء. إذاً هناك انفجار جديد للرواية في (التسعينات والألفية الجديدة) جاء بتأثير ترجمات الرواية الأوروبية والأمريكية اللاتينية ونلاحظ تأثير الروايات الأمريكية اللاتينية في الروايات العربية بوضوح، نلاحظ هذا التأثير واضحاً، وظهر لنا أن تقاليد النشر في أوروبا للرواية قد بدأت تصل الى دور النشر عندنا وبدأ (العرب يتوهمون أن الرواية قد أصبحت ديوان العرب) بدل الشعر لكن ما أنتج في الدفقة الجديدة يعبّر عن فراغ سابق للرواية العربية من حيث التراكم الكمي، أي أن الرواية تقدّمت على نفسها منفصلة عن أزمة الشعر. كما أن الرواية بطبيعتها أسهل للقارىء العادي، لكنني شخصياً أقرأ أية رواية مرة واحدة حيث أن عمري ووقتي لا يسمح بقراءتها مرة ثانية إلا لأغراض التخصص البحثي، بينما ديوان المتنبي ما زلنا نقرأه عشرات المرات وحتى دواوين الشعر الحديث للشعراء الكبار، نحن نعيد قراءتها بين الوقت والآخر.
______
*القدس العربي