*عدنان حسين أحمد
ترتبط الكثير من الفنون التشكيلية ببيئاتها الخاصة بها، فإذا كان هناك فن مديني فلابد أن يقابله فن ريفي يتخذ من المعطيات الريفية مادة أساسية للثيمات والموضوعات التي يعالجها الفنان الريفي، المقيم في الريف حصرا.
بما أن المدينة هي حيّز مكاني كبير قد يضم أكثر من عشرين مليون مواطن فلابد أن تتعدد الإمكانيات المتاحة لاستيعاب أشكال فنية جديدة تتحدى منظومة القيم الفنية والجمالية السائدة، ولا تجد ضيرا في الاحتكاك بها في محاولة لإثبات وجودها، وإيجاد موطئ قدم لها، أو مضايقتها ضمن ثنــائية الصراع الدائمـــة بين الجديد والقديم.
إن الفن المديني مرتبط من دون شك بالمدينة بوصفها مكانا مكتظا بالبشر، كما أنه مرتبط من جهة أخرى بالفنانين الذين يعيشون في المدينة بشكل دائم، ويفضلون نمط الحياة فيها حتى وإن كان سريعا ومكتظا بالصخب والفوضى والضجيج المتواصل.
ما مِن فن من الفنون يستطيع أن ينبثق من فراغ، فلا بد من نتوء واقعي يتبرعم شيئا فشيئا حتى يصبح غُصنا ثم يستحيل في خاتمة المطاف إلى شجرة عملاقة. فالفن المديني له جذور ممتدة في الواقع المديني وقد تتبّعها النقاد والدارسون الفنيون، فوجدوا له جذرين أساسيين وهما “فن الشارع” و “الغرافيتي” أو ما يُطلق عليه تجنيا “بالكتابة أو الخربشة على الجدران”.
ثم يوغل البعض في هذا التجني فيدمغونه بـ”التشويه أو التخريب” لأن الفنانين الغرافيتيين ينفِّذون أعمالهم الفنية في الأغلب الأعم دون أخذ الموافقة من أصحاب البيوت والمحلات والعمارات الكبيرة التي يجد بعضهم فيها تشويها لجمال هذه الأبنية، وطمسا للكثير من معالم المدينة، فيما يرى بعض الناس المتشددين أن الرسوم الغرافيتية هي أعمال تخريبية يعاقب عليها القانون في بعض دول العالم.
لم ينظر الفنان الغرافيتي إلى نفسه كمشوِّه للجمال أو مُفسد للذائقة الجمعية أو مخرِّب يلاحقه القانون، بل كفنان مبدع بكل ما تنطوي عليه الكلمة، حيث يكرِّس جل حياته لهذا الفن الذي يمتد إلى الحضارات العربية واليونانية والرومانية القديمة، بل إنه يعود إلى فجر الحياة البشرية حين كان الإنسان يخربش على جدران الكهوف والمغاور، ويرسم كل ما يعنّ له من أشكال بشرية وحيوانية ونباتية كي يفرغ شحنات القلق، ويتخلص من الوساوس التي تؤرقه ليل نهار.
وعلى الرغم من كل أشكال المقاومة التي كان يبديها الفنانون التقليديون إلا أن هذا النمط الفني الجديد قد أثبت وجوده لدرجة أن باريس، قلعة الفن الرصينة، قد أفردت للفن الغرافيتي مُتحفا فنيا أسمته “لو مير” وصار بإمكان المتلقين أن يرتادوه ويتمعنوا في أعماله الفنية التي انتُزعت من سياقها المكاني وجُلبت إلى هذا الصرح الفني الكبير.
كما فعل “المودرن تيت” بلندن عام 2008 شيئا مقاربا حينما دعا بعض الفنانين المدينيين، أو فناني الشارع إلى إنجاز أعمالهم الفنية في الفضاء الخارجي المجاور للمتحف، بغية عرضها للجمهور في مكان محدد يغني المتلقين متاعب البحث عن هذه الأعمال الغرافيتية الموزعة في مناطق متعددة من لندن أو سواها من المدن البريطانية.
إذا كان الغرافيتي يعود إلى عصور موغلة في القدم، فإن “فن الشارع” قد ازدهر في ثمانينات القرن الماضي وقُدِّم بأنواع متعددة نذكر منها “الغرافيتي المُرَوْسم”، وفن الملصق، وأعمال الشارع التركيبية، ثم تبعتها في مفتتح القرن الحادي والعشرين عروض الفيديو، والتماثيل المثبتة “بأقفال الدراجات الهوائية” و”الحياكة الغرافيتية” من التريكو والغزول والألياف الملونة.
يعتبر بانسكي من أشهر الرسامين الغرافيتيين البريطانيين المعاصرين، وهو معروف ومجهول في الوقت ذاته، فهو معروف إلى حد الشهرة منذ عام 2003، حينما ظهرت رسوماته الغرافيتية على جدران مدينتي بريستول ولندن، وقد أثارت أعماله الإبداعية التي تنتمي إلى “فن الشارع” جدلا واسعا لم تنتهِ تداعياته حتى الآن، فقد رسم الموناليزا ذات مرة وهي تحمل قنبلة!
وهو مجهول لأن سيرته الذاتية غير معروفة ولا يحبذ الظهور مطلقا، فبانكسي، بحسب المؤلف والمصمم الغرافيتي تريستان مانكو، ولد في عام 1974، ونشأ في بريستول في المملكة المتحدة. يعتقد بعض النقاد بأن أسلوبه يشبه إلى حد كبير أسلوب الفنان الغرافيتي الفرنسي بليك لورات. تتمحور أعمال بانكسي على موضوعات سياسية وثقافية متنوعة تجمع بين التهكم اللاذع والسخرية السوداء.
لا يختلف الرسام الغرافيتي البريطاني آدم نيت عن مواطنه بانكسي كثيرا، لكنه حاضر بكيانه وبأعماله الفنية حتى أن صحيفة “التلغراف” قد وصفته ذات مرة بأنه “واحد من أحسن رسامي العالم في فن الشارع”، حيث يرسم لوحاته المدينية على “الكاردبورد” ويتركها كهدايا مدهشة لمن يعثر عليها أو يصادفها على أرصفة الشوارع البريطانية.
ثمة قائمة طويلة بأسماء فناني المدينة أو فناني الشوارع الذين حققوا شهرة طيبة ولاقت أعمالهم الفنية رواجا كبيرا بين محبي هذا الفن الهامشي لعل أبرزهم غي ديننغ، بول إنسكت، نِك ووكر، سكبوي، كنغ روبو، أندي كاونسل.
إضافة إلى أسماء فنية أخرى حطّمت التقاليد الفنية السائدة ولفتت الأنظار إلى أناس مغامرين يرون في البيئة المدينية، فضاء مدهشا لأعمالهم الفنية التي نأت عن المعارض والصالات، ووجدت طريقها إلى الأرصفة والأنفاق وتقاطع الطرق وواجهات الأبنية الشاهقة وسواها من الأمكنة، التي قد لا تخطر إلاّ ببال فناني المدينة ورعاة ذائقتها الفنية التي تدور بالضرورة في دائرة المغايرة والاختلاف.
_______
*العرب