حاوره : الحبيب الأسود
في هذا الحوار الذي خص به موقع « أخبار أفريقيا » يحلل الشاعر التونسي الكبير منصف المرزوقي عددا من القضايا والمسائل المطروحة في الساحة الثقافية المحلية بعد ثلاثة أعوام مرت على الإنتفاضة الشعبية التي أطاحت بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وبعد عامين من حكم حركة النهضة الإسلامية الإخوانية ،وتولي الرئيس منصف المرزوقي مقاليد السلطة في قصر قرطاج
كما يتحدث عن أسباب توجهه الى كتابة قصائد في هجاء المرزوقي والحكومة و المجلس الوطني التأسيسي
س 1 : برزت أخيرا كشاعر هجاء للرئيس منصف المرزوقي والمجلس الوطني التأسيسي والحكام الجدد في تونس ، كيف تفسّر هذه الحالة وما الذي دفعك الى هذا الموقف الشعري الحاد ؟
كلفت نفسي بمهمة التحامل على المرزوقي بدل التجاهل ،فهو رئيس مندسّ في القصر ويحس أنه يريد أن يعيش في سرية ويتجاهل الشعب وجوده ،أنه يعيش في كنف وكفنه ،وأنا أعتبره قاصرا في أدائه لمهمته كرئيس لبلاد هي بلادي تونس التي أراها جديرة برئيس منتخب ،والمرزوقي لم ينتخبه غير أقل من سبعة الاف مواطن في منطقة محدّدة من تونس الشمالية الشرقية ،ولا يستطيع أن يمثّل إلّا عنصر تحالف شاء الحظ أن يكون راشد الغنوشي زعيم الإخوان المسلمين في تونس هو الذي ينتخب هذا الرجل المريض بأعصابه والمصاب بحساسية إزاء التراث المدني الذي تركه الزعيم الحبيب بورقيبة
أما المجلس الوطني التأسيسي فهو يعكس إرتباك الشعب الذي إنتخب نوابه في حركة إرتجالية ،ووقعت الحكومة في أخطاء جديدة مبنية على أخطاء قديمة وكثرت السياسة العشوائية مما جعلني أتحرّك شعرا ونثرا وأستعد لمهمة التعبير مستخدما مختلف الأسلحة من سخرية وهجاء وتقريع وهي أسلحة يستخدمها كل الذين يسوسون تونس الأن من اليمين الى اليسار الى الوسط
إن الإبداع السياسي كان غائبا كبيرا ،وربما كان المرزوقي هو الشخصية التي إنتخبتها العناية الإلهية ليكون الأراجوز الأكثر تمثيلا لحياة تونس الآن ،ولهذا كتبت قصيدي الأول « رئيس لا يصلح للهجاء » وكان الثاني بعنوان « ساكن قرطاج الساكن » كما كتب أكثر من قصيد في الموت ( مختصر المجلس الوطني التأسيسي )
س 2 : هل تعتقد أنّ المبدع التونسي خاب أمله في الثورة خاصة بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم؟
لقد فاضت بي كأس الهجاء مع رئيس دولة لا يصلح للهجاء لأنّه عليه أن يكون رئيسا أولا. كما أنّ الحمّى التي انتابته منذ الثورة لاستلام السلطة جعلته يتسول المنصب الرئاسي دون صلاحيات الرئيس، و ذكّرني ببيت لابن رشيق القيرواني يقول فيه: (ألقاب مملكة في غير موضعها/ كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد)، فالمرزوقي معروف بنشاطه الحقوقي وغير معروف بحركات رمزية لا يفهمها إلاّ اتحاد الكتاب السورياليين مثل إطلاق عصفور الكناري حين زار سجنا، ولا ينسى المتفرج التونسي على نشرة الانباء مشهد رئيس دولة يلقي باقة ورد في البحر. إنه طبيب وشخصية ترفض أن تُعَالَج وتأبى إلا أن الانتقام المرضي من قصر الرئاسة بل إنّ وجوده الكوميدي على هذا النحو جعل الشعب يشعر انه يمكن لتونس ان تحيا بلا رئيس اذا كانت العقول على شاكلته كما انه اغرى من هب ودب ليتجرّأ على الرئاسة ويخطب ودّها ويكون على راس الدولة التي هزُلت حتى سامَها كل مفلس.
قِسْ رئاسة الدولة على رئاسة الحكومة ورئاسة المجلس التأسيسي الذي فشل في كتابة الدستور بعد اكثر من سنة كما لم ينجح في ان يتحكّم في الحكومة الطالعة من صُلبه وصار ظِلاّ لأعمالها بدل أن يكون شمسا على أخطائها. وأعتقد أنّ شباب المواقع الاجتماعية قد تهكّم أكثر منّي على الحكومة وأدائها، فنحن نرى أنّ الثورة تريد أن تمضي بالشعب إلى الوراء، وما نلحظه اليوم أنّ الاخوان المسلمين ماشون وماضون نحو مآربهم ولا يحرجهم نقد ولا تسري دماء الخجل والحياء في خدودهم إذا ذكرهم الناس بأكاذيب وعودهم في توفير الشغل والانقضاض على البطالة، فهم يحلمون بفردوس السلطة ولو أدّى ذلك إلى أن يعيش الشعب جحيم الحياة. فلم يلمس الشعب رحمة الإسلام منذ وصول هؤلاء الإسلاميين إلى السلطة والشعب لا يحتاج إلا الى جولة في السوق ليلمس ارتفاع الأسعار وهو يجرّ الطبقة الوسطى الى الفقر والحاجة . وما يُلاحظ الآن هو أنّ الشباب يناضل بالنكتة والدعابة والتعاليق المرّة وهو قد ربح المعركة في مواقع التواصل الالكتروني لأنّ الإسلاميين يرفضون الضحك لأسباب تتعلق بالصحّة الأيديولوجية.
س 3 : وتونس تحتفل بالذكرى الثالثة للثورة كيف ترى علاقة الثورة بالثقافة عموما وبالشعر خاصة؟
الثورة حدث ثقافي في أصله الأوّل حيث ان ارادة الحياة تنتصر على عناصر الموت وبهذا المعنى يمكن اعتبار الثورة في تونس فعلا ثقافيا استلهم روحه من بيت شعري لأبي القاسم الشابي…. أما ماذا حدث بعد حادثة الثورة فإن الأمر يختلف لأن السياسة والآلات الحزبية والأيديولوجية هي التي كانت تتربص و دخلت على الخطّ وانقسم الشارع السياسي الذي كان كُلاًّ مُوَحّدا ضدّ واحدٍ، وأصبح اجزاء تتفاوض على كعكة السلطة وانقلبت السياسة على الثقافة في كل هذا الذي يدعى ب الربيع العربي
ما لاحظته وأنا أقارن بين مكان واحد في زمنين مختلفين:
شارع بورقيبة في تونس 14 يناير 2011 مثَّل الفرحة البِكر والحماس الطّافر في حناجر الجماهير التي كانت تشبه البحر الموَّاج بكلمة “ديقاج” (ارحل أو انْقشِعْ)، وكان علم واحد يرفرف، ولعلّ الطيور كانت تغنّي أغنية واحدة واحد.
وكان الحاسوب ذا دور وشأن في ثورة باتت -هي نفسها- تشبه حاسوبا مخطوفا من حضن صاحبه الغافل في مقهى في الشارع.
لقد صارت حالة الشارع نفسه في 14 يناير 2013 مختلفة تماما حيث ان الغوغائية عند الشعب حولته الى فرق وعصابات أوصلته في المجال الثقافي إلى ما يمكن نعته ب مرحلة الاكتفاء الذاتي وبدا كانه في حالة استغناء عن المعرفة فهو لا يحتاج إلى المثقّف المتفلسِف والمفكّر لأنه مرادف للكافر والشاعر لأنه مرتبط بمعنى الداعر. إنها مرحلة “الانفلات في كل واد” التي جعلت كل صاحب زورق بحارا وربَّانا عارفا بفنون الملاحة.
إنّ خَصيصة هذه الثورة في تونس هي يُتْمها. فهي لم تولد في أيّ بيت حزبيّ. فقد وجدت نفسها بصورة طبيعية في الشارع. ليست لقيطة ولكنها كأي فوضى تحتاج إلى رأس أو أكثر حتى يجف طوفان الأذيال التي نراها الآن. ولكنّ الشباب كان يخوض الثورة عبر التدوين والتعليق والنكتة المعبّرة عن موقف وذكاء وحس سياسي خارق كما انطلقت تعبيرة الشباب من خلال أغنية الراب الشبيهة بالشعر الصحفي العرضحالي الذي لا وزن له خارج الشارع السياسي . وفي الرسم بدت الكتابة على الحائط والأرضيات لونا من الفن العفويّ الثائر وفي الشعر تمت العودة إلى الشعر
المكتوب قبل الثورة وظهرت في السينما أفلام تسجيلية أو روائية أقحمت الثورة إقحاما متهافتا. وعموما، فإن الزاعمين قيادة الثورة من قَرْنِها الثقافي كانوا مهووسين بالزعامة السياسية، وكانت مُهْجَة الفنّ تحتاج إلى زمن اختماريّ ضروريّ لإنتاجها، وهكذا كانت الفنون مشغولة بالتوصيل ومنشغلة عن التجميل.
س 4 : ثورة بدون ثقافة ولا فلاسفة ولا مفكّرين ولا قادة هل تعتقد أنها ستنجح؟
هل الثورة كانت ذات علاقة بالثقافة بالمعنى المنسوخ عن الثورة الفرنسية التي اشتهرت بفلاسفة التنوير الذين مهدوا لها؟
هل من الضروري أن نشير إلى أنّ المثقف لم يعد ذلك الشخص الموسوعي المتفلسف والمستوعب لمشاعر شعبه وطموحات أمّته؟
لئن شاعت الثقافة في صفوف الشعب والشبّاب خاصة فإنّ ما نَلْحَظه من شيوع الجهل أمر باعث على الفزع وصرنا نرى شخصية أسميها “الجاهل الموسوعي” بارزة في الفضائيات واختلط “نوبل” بنابل والحابل بـ”جوجل”.لقد انتبه مثل هذا الجاهل الى ضرورة ان يتعلم الناس الجهل ويتدربوا على الامية واحتقار العقل عبر تدليل الجهل وتدليك التخلف …
انا شخصيا تنقصني معلومات كثيرة وكواليس لفهم خيوط ما جرى .
لا أظن أنّ هذه الثورات المسجّلة باسم الربيع قد باحت بكلّ أسرارها ومن يدري فلعلّ الفلاسفة الذين قادوها كانوا سرّيين ولا يحبون الظهور لأسباب نجهلها، فمثل هذه الثورات ليست جدية على الإطلاق. إنها مجرّد انقلاب لشعب ملَّ وانتهى صبره وبلغ به الوجع مبلغا جعله يخرج عاري الصدر حافي الرجل لا يحمل غير ملابس يمكن أن تصلح كفنا، ولم نرَ المثقف إلا وهو يفاجأ بهذا الشيء الذي حدث فجأة في تونس ومصر كانت تنتظر ما يشبه تونس، وكان لا بد أن يكون الربيع كاملا فلابد أن تلتحق باقي الدول بالركب، أي بالربيع العادي الطبيعي أو التربيع القسري والاصطناعي. فهل سوف تنجح هذه الثورات وقياداتها تمضي الان إلى الوراء بخطى ورائية وبسرعة جنونية، حين لم يستطع هؤلاء فهم حركة التقدّم راحوا يروّجون للتخلّف ويتسلّفون أياما ليست أيامنا وهم غرباء عن تاريخ تونس القديم والحديث وإسلامه القديم ومزاجه المتوسطي المعتدل فلا يمكن لهم أن يقلِبوا عاداته او يدخلوه إلى الإسلام من جديد او يغيروا شخصيته المبنية على روح التسامح منذ قرون او يستعيروا لها لباسا جبليا من افغانستان وهو غريب على العين التونسية .
ولا بد من التأكيد على أنّ المثقف قد دخل منطقة الالتباس شانه في هذا شان الثورة التي التبس امر تعريفها وهي على هذا الحال من انفلات الدواليب في شبه دولة. انا ادرك ان المثقف يولد شرسًا وفي فمه ملعقة من الأسئلة والشكوك، ثم إذا كبر تأثيره وأصبح سلطة ثقافية سعت السلطة السياسية في العالم الثالث الى ترويضه أو تجويعه او حبسه او اغتياله وفي العالم الأول والثاني ضيّقت عليه في المحافل الكبرى وفي وسائل الإعلام أو هَمّشت دوره.
س5 : كيف تنظر إلى الصراع السياسي في البلاد من خلال وجهة نظرك كشاعر؟ أين تجد المثقفين في ظل هذا الصراع؟
الصراع السياسي في تونس يحتاج إلى مبدعين في الحقل السياسي ولقد علّمنا التاريخ كيف أن بلدانا ثرية كانت تعيسة الحظّ لأنّ حاكمها قادها إلى الفقر والحاجة من خلال ممارسة نزواته، ولنا أمثلة كثيرة في إفريقيا لدول صارت فقيرة وجائعة وهي تنام على كنوز من الثروة الطبيعية ولكنها غارقة في الديون والمشاكل والمآزق. كما رأينا بلدانا فقيرة أو متوسطة الموارد الطبيعية استطاعت أن تنجو من المزالق وتحقق معجزات اقتصادية او ثقافية وغيرها. إنّ الحمق في السياسيّين هو سبب مأساة أكثر الشعوب كما أنّ الحكمة هي العُملة النادرة لدى الساسة وأصحاب القرار.
أما المثقف في هذا الصراع فدوره هو أن يكون مستقلا ولا يمكن أن يكون كذلك إذا كان السياسي يحاصره في رزقه ويقترب من منابع معاشه اليومي. ومن الممكن للمثقف أن يكون مسموعا إذا كانت شخصيته تتعفّف عن مجاملة السياسي وتتخلّى عن الطمع في المنصب لأن المثقّف يتحوّل إلى ماسح ولاحس أحذية في اللحظة التي يفقد فيها بوصلة الفكر.
س 6 : هل تفكر في الانضمام إلى حزب من الأحزاب؟
الشاعر الذي ينخرط في حزب سياسي هو قادر على الكذب مرتين: كذبة جميلة في الشعر وكذبة رديئة في السياسة. فالشعر يتطلّب الكذب الخلاّق، وقد قال أجدادنا العارفون: “أعذب الشعر أكذبه”، وهو كذب يمارسه الشاعر بمنتهى الإخلاص الفني إنّه الكذب النافع والأبيض الذي تمليه العملية الابداعية اما السياسة فتتطلّب من صاحبها الكذب المستمرّ لإخفاء أي انحراف سياسي او تبرير اي اعوجاج في خط الحزب الذي ينتمي إليه.
لقد رأينا الكثير من الأدباء والشعراء الشهداء الذين لعبوا دور السيف والقلم ومضى السيف على رقابهم ولم تبق غير أقلامهم.
ممارسة السياسة هي واجب الشاعر الذي هو -ككلّ الناس- حيوان سياسيّ، ولكن الاحتراف السياسي يزجّ بالأديب في الهلاك. وبالمناسبة لابد أن نشكر سيف الدولة الحمداني وحتى كافور الإخشيدي لأنهما لم يستجيبا لمطلب أبي الطيب المتنبي الذي ربحناه شاعرا وخسِر نفسه
واليا من الولاة ونعم الخسارة.
لقد قضيت فترة من عمري هي أكثر من النصف وما تبقى لي لن أهديها إلى حزب. ولكن الصحيح أنّ نظرتي تتقاطع مع عدد من الأحزاب التي تستجيب لـ”إرادة الحياة” من أجل إقامة طيبة وسعيدة على الأرض.
س 7 : أصدرت منذ أيام مجموعتك الجديدة “هنا تونس النشرة” التي كتبتها بعد الثورة وأعدت طبع “عناقيد الفرح الخاوي” و”عياش” وقد سبق أن نشرتهما منذ أكثر من ثلاثين عاما. فهل ترى تشابها بين مخاض تونس اليوم ومخاض تونس في عقد الثمانينات؟
أصدرت ديواني الأول “عناقيد الفرح الخاوي” وقصيدتي الطويلة “عياش” وديواني الأخير “هنا تونس النشرة”، ولعلّ سؤالك ينطوي على جواب فقراءة هذه الدواوين تحيل القارئ على مناخاتها غير المتباعدة من حيث الحسّ والمشاعر المبثوثة والمواد المتَّخَذة في قالب شعري قريب من روحيّة الحماس الضروري بالرغم من أنّ قصائد “عناقيد الفرح الخاوي” مكتوبة ما بين 1974 و1976 و”عياش” ما بين 1977 و1979. وقد هيمن الهمّ السياسي على شغلي الشعري في تلك السنوات وكانت السلطة الحاكمة تستنفر الشعر لكي يشاكسها ولقد كنت محتفظا بلياقة مخالبي الشعرية في الهجاء وأحسست ان هذه الليلة شبيهة بالبارحة ولهذا احتوى كتابي “هنا تونس النشرة” على قصائد كتبتها تحت وطأة أحداث كثيرة من بينها الاعتصام الذي استمر اياما حول مبنى التلفزيون وقام به انصار الاسلاميين الذين وصلوا الى السلطة غاضبين على ما سموه ب “اعلام العار” والمشكلة تكمن في ان السلطة السياسية لم تستطع اغراء السلطة الرابعة _ ولعل البرود في حالة عناق السياسة والصحافة يشبه رتابة الغزل الحلال بين الزوجين _
ان المهزلة تمثلت في سلطة ارادت أن تكون في السلطة وفي المعارضة معا، وهو أمر لا نعت له غير الانفصام السياسي وفي مثل هذا المناخ كتبت قصيدتي “هنا تونس النشرة” وانتشرت عبر القنوات الخاصة فضلا عن قصيدتي ” وصايا للمجلس ” التي لم تتفوق على ما ينتجه هذا المجلس من تعاسة وسخرية .
فكرة نشر الشعر بالصوت والصورة في اقراص سمعية وبصرية كانت مثار تعاليق شتى ،انا مسكون منذ مدة بفكرة نشر الشعر بالوسائط التي يتيحها عصر الشاعر فشعراء المعلقات علقت قصائدهم على استار الكعبة وكتبت بماء الذهب لان عصر الجاهلية لم يشهد ميلاد المطبعة وسبق لأمير الشعراء احمد شوقي ان احتفل بالصحافة التي هي اسرع من الكتاب في نشر الشعر وتوصيله الى القارئ وكتب شوقي ” لكل زمان مضى آية وآية هذا الزمان الصحف “.
ان ما نشرته من قصائد كان منطلقه حصصا تلفزيونية او مشاركات في مهرجانات شعرية بدأت من بغداد المربد 1985 وصارت تتراكم الى يومنا هذا بما جعلها مادة غزيرة وقد وثقتها وجمعتها وتمّ المونتاج في أحد الاستوديوهات. لقد احببت أن أوفّرها إلى من يريد أن يسمع الشعر بصوت الشاعر.وأحب ان اؤكد على ان الكتاب الشعري سوف يبقى دون ان يكون الوسيلة الوحيدة لنشر الشعر .
س8 : في ظل حكم الإسلاميين وجفاف الحقل الثقافي ما هي التحدّيات التي تواجه المبدع التونسي اليوم؟
الحقل الثقافي لن يجفَّ بل ربما ازدهر أكثر إذا تعرّضت منابعه للتجفيف ومحاولات المنع، وتاريخ العرب لم يحجب النصوص التي فيها ماء الإبداع، فالإبداع يتسلّل من عصر إلى عصر وما وصلنا من أدب ممنوع أو اعتبر مارقا هو دليل آخر على أنّ الرقابة هي الخاسرة في حربها ضدّ الإبداع وأن ما أتيح لنا أن نقرأه، من نصوص ناجية، كان أشبه برسالة لابد أن تصل رغم سطوة ساعي البريد وعيونه التي كانت ترصد كل شيء. ولقد انتصرت عليه نصوص عصيّة على السيطرة فالحاكم المراقب صار -على رأي المثل- شبيها بالزوج المخدوع فهو آخر من يعلم.
والملاحظ أنّ الإسلاميين أو دُعاة الأدب الإسلامي المفترض وجوده لم ينجبوا شاعرا يُعْتَدّ به ولا روائيا متمكّنا ولا سينمائيا مقتدرا ولا رسّاما فذًّا ولا مسرحيّا لافتا ولا حتى غير لافت لأنهم لا يلتفتون أصلا إلى الحقل الثقافي، فالخصب والجدب في الحقل الثقافي لا يعني لهم شيئا، بل إنّ وزراء الثقافة
العرب في بلدان الربيع أو التربيع العربي باتوا لا يناقشون طويلا ميزانيات وزاراتهم ولا يحتجّون على ضمورها إذا تمّ تحويل جزء منها لوزارة الشؤون الدينية مثلا لأنهم مُدرِكون أنّ عليهم النجاة بجلودهم وأنّ مجرد الإبقاء على الوزارة يُعدّ في نظرهم انتصارا ثوريا في عهد الثورة !!!
ان ما سوف نراه لاحقا هو ثقافة وفنون وفكر خارج المؤسسة تعيش يُتْمَها الخاص وتعوّل على اهلها أو تنتزع الدعم المادي المستَحَقَّ من المال العامّ الذي لا بد أن يستفيد منه أهل الإبداع.
إنّ صراع المثقفين القادم هو من أجل موضع أقدام الثقافة والآداب والفنون، وهنا لابد من دعم ومساندة وزراء ثقافة بلدان الربيع، وهذا الدعم أو هذه المساندة تتمّ عبر الإزعاج المستمرّ لمعالي وزير الثقافة بهدف المطالبة الدائمة بالحقّ في فلاحة الحقل الثقافي.
س 9 : قبل عام من الأن ،وتحديدا في يناير 2013 طرقت باب الستّين واحتفلت بسِتُّونِـيَّتِك كيف تقيّم رحلة العمر في ظلّ تجربة الشاعر؟
يحتفل الشاعر الحيّ بـ”ستُّونِيَّته” أمّا الشاعر الراحل فيحتفلون بستّينيّـته. عمر الشاعر طويل اذا ولدت قصيدته بين الناس بل إنّ الشاعر لا يحتاج إلى طول العمر وربما اكتفى بالشباب وحماسته وحماقته ليبتكر أجمل الصياغات الشعرية.
لكن فنّ الشعر يحتاج أجيالا ويجتاح أزمنة طويلة ولا يشبع ويطمع في أجيال أخرى ولا يقنع وهو يبلع أعمار الشعراء بلا رحمة.
وكم من شاعر مات وفي نفسه أمنية شعرية وفي قلبه تنبض قصيدته الأخيرة ويكاد يذوقها وهي تلفّ حول روحه ولكنه يموت دونها.
إنّ عمر الشاعر لا يُقاس بالعقود التي عاشها:
كم من شاعر مات شابّا وخلّف وراءه زوبعة شعرية لم تهدأ بعد رحيله …
كم من شاعر مات بالسكتة الشعرية في شبابه ولكنه واصل حياته البدنية مثل أيّ حيوان محترم.
كم من شاعر عاش طويلا وهو يطرق باب الشعر بألف قصيدة وقصيدة دون أن تتقبّل منه آلهة الشعر قصيدة واحدة أو بيتا واحدا أو نصف بيت أو رُبْعه ومعنى هذا أنّه لن يترك أثرا في الذاكرة الشعرية.
كم من شاعر تأخّرت موهبته الشعرية وجادت قريحته في وقت متأخّر بخرطوشة شعرية أطلقها ثم مات فأطالت قصيدته الأخيرة عمره.
أنا أحاسب نفسي باستمرار وربما أخطأتُ في المحاسبة أو جاملتُ أو قسوتُ ولكني تارِكٌ تقييمي لغربال الزمن، فالشاعر لا يقيّم تجربته ولكنه قد يتكلّم في الهزيع الأخير من حياته، إذا رأى لزوم ذلك، من أجل التوضيح لما علق بمسيرته وما التبس فيها أو غمض. وقد لا يرى ضرورة ذلك أصلا، فمن قال إنّ الالتباس غير ملائم لإطالة الحديث حول الشاعر وقصيدته.
* بوابة افريقيا الإخبارية