أمل عطا الله المشايخ *
( ثقافات )
«أشدُّ الرِّحال إلى مضاربِ قلبك هذا المساء
هي قِبلتي بعدَ إذْ فرغتُ منْ مناسِكِ شوقي
وهي مُستقَرّي ومُقامي
بعد أنْ طافتْ روحي بركنِك سبعاً
ها إنّني أتحلّلُ منْ حزني حين سعيتُ سبعاً
بينَ زمزمِ وجْدي، وبيداءِ غيابك».
عاطف الفراية.. أيُّها الراعي النرجسيّ..
وها قد مرّت الذِّكرى الخمسون لمولدك؛ ألأنك بين الغزالات محضُ غزالٍ غصصتَ بالخمسين فغادرتَها قبلَ أنْ تمتدّ إليك، فذهبتَ تطاردُ غزالاتِك هناك في عالمك الأرحبِ والأجمل؟!
لأيِّ الفصولِ أغنِّي بعدَ غيابك؟ أنتَ يا مواسمَ الفرح، يا منْ كنتَ لي وطناً وأمناً.. الوطن الذي غادرتَه بأحلامك، وقلتَ لي حينَ وصلتَ الإمارات: «اليومَ انتهتْ غربتي!»، فبكيتُ دمعتين: «واحدةً فرحاً بلقائك، وأخرى ألماً لمستقبلٍ يجهله كلانا».
أإلى هذا الحدِّ كنتَ غريباً في وطنك؟!
أنتَ أيُّها «الناي الذي لم يعدْ إلى وطنه
ليعزفَ لحنَ الرُّجوع الأخير
ومنَ البعيدِ يأتي أنينٌ حزين» *.
هكذا بكى أصدقاؤك حين تناهى إلى مسامعهم نبأُ الرحيل.
لأيِّ الفصول أغنِّي؟ أأُغنِّي لتشرينَ حينَ كنتُ أقتسمُ مواسمَ المطرِ معك؟ فقلتُ:
لكَ الماءُ ولي خصيبُ هذي الأرض
لكَ المعطفُ وليَ الدفءُ
ليَ الموقدُ ولكَ كلُّ الكستناء
لنا قوسُ قزح، ولهم عادياتُ الفصول
لهم النارُ والرماد، ولنا هذا الوطن.
الوطنُ.. حينَ كانَ بيتُنا وطناً نأوي إليه كلما خرجْنا في عملٍ أو نزهةٍ كنتَ تقولُ: بي شوقٌ إلى البيت؛ ليس ثمةَ ما هو أجملُ من بيتنا!
قلتُ: فإنْ لم يكنْ البيتُ فأين؟
قلتَ: أصعدُ إلى غيمةٍ فأكتبُ قصيدةً ثم أعود.
قلتُ: إلى أين؟
قلتَ: إلى البيت.
في الحُلْم كانَ صوتُك الدافئ يغنِّي لحناً سمعناه معاً، في حوضٍ من الريحانِ كانَ وجهك:
سيِّدُ الريحانِ أنتَ حين ترتدي الربيعَ عباءةً تتهادى بها سيِّداً يحرسُ هذا المدى.
حينَ قفزتُ من الحُلمِ كانتْ يداي تقطفان أقحوانةَ شوقٍ، وبنفسجةَ حنين.
هل أُغنِّي لآذار؟ كمْ تجنبتُ آذارَ هذا العام! ماذا أقولُ له أنا التي همستْ لك: كلُّ نسيمٍ لا يأتي بعطركِ شغبٌ على هذي الفصول؟!
ياااااه كمْ غنّينا لآذارِنا معاً، حين قلتَ لي:
«على غُرّة آذارٍ تتعلقُ كلُّ خلاخيل الفرحِ تعاويذَ
وزهورَ بقاءٍ أبديٍّ للفرح القادم..
ما سرُّك يا آذار؟!
آهٍ لو تدري يا آذارُ بأن جميعَ حساسين العمْرِ تغرِّدُ في جوفي إذْ تأتي».
فقلتُ لك:
«يحدثُ أحياناً أنْ يتقاطرَ الندى في صباحاتِ آذار
يزهرُ الحُبُّ نواراً أبيضَ على أغصان اللوز، وجلناراً على أغصانِ الرُّمان
هكذا يصطفُّ الشوقُ مواكبَ في مهرجان الربيع
وهكذا أيضاً أصنعُ من الحبِّ فصلاً خامساً..
لذا غنُّوا لفصولكم الأربعة
أما أنا فما زلتُ أصلُ الأحلامَ مع الآمالِ بأغنيةِ شوقٍ طويلةٍ لآذار».
هل اغتالك الفرحُ حين فزْتَ بالجائزةِ ** فكتبْتَ لي:
«زوجتي أمل في الشارقة. أنا قادمٌ غداً.. إنْ شاء الله. فرحتي بالجائزة لا تكتملُ قبل لقائِنا على بابِ البيتِ .. هناك حيثُ أنت.. وطاولتنا.. طاولتنا التي شهدت انشقاقَ الأرضِ وخروجَ (عزيزة سليمان) *** منها.. وذلك المحيط والهواء الذي تنفّسناه، فبعثَ في مخيلتنا كيفَ ترقصُ (سندريللا) على المسرح.. وكيفَ تمارسُ (بينولوبي) نزقَها ملتبساً بخساراتِ (نجمة)، وكيفَ احتفظتْ (نجمةُ) بالقبقابِ الذي قتلتْ به حينَ تقمصتْ (شجرةَ الدُّر). الطاولةُ التي أخرجتْ (ساكب شلنفح) منْ ذاكرةٍ دفنتْها النُّجوميةُ أربعين عاماً؛ لينكشفَ الزِّيفُ وتبقى الحقيقة».
يسألونني عنْ حجمِ خسارتي فيك حين لمْ يبقَ لي في الدرب إلا طيفك وذكراك..
لن أحسبُ خسائري؛ فليس ثمة حدٌّ لخسارةٍ بحجمِ الكوْن؛ ولكنني أحتسبك عندَ منْ خلقَ الموتَ والحياةَ ليبلوَنا أيُّنا أحسنُ عملاً، وأعيشُ ما بقي لي من عمرٍ لك ولاسمك حتى ألتقيك هناك على الضِّفة الأخرى من النهر.
حينَ تغيبُ يغيبُ معكَ الفرح؛ ولكنْ لنْ أرميَ الوردةَ ولنْ أطفئَ الشمعة -كما فعل «عبد الحليم» في ذات أغنية- لكنْ سأظل «واقف مسْتَنّي»، فما زالَ الوفاءُ لذكراك يستحقُّ الحياة.
أنتَ يا مواسمَ الفرح؛ ألم تكتبْ لي في عيدنا التاسع عشر: «هكذا، مباشرةً مع انتهاءِ يومِ أمس، يمرُّ على زواجي تسعةَ عشرَ عاماً، لم أرَ فيها شيئاً مما يلصقون بالزواج منْ مآسٍ.. هكذا سأتكلمُ هنا بكلِّ ما يسميه النُّقاد مباشرةً فجة، لستُ محتاجاً لأنْ أنمِّق، ولنْ أواربَ في ما أريدُ، سأقولُ ما لا يقولُه معظمُ الرِّجالِ عادةً.. أنا أسعدُ الأزواجِ الذين رأيتُهم أو سمعتُ أو قرأتُ عنهم أو تخيّلت. وكيف لا أكونُ وأنتِ عندي سيدةُ نساء الأرضِ.. والعالمِ.. وحتى التاريخ الآدمي ذاته منذُ تهادت حواءُ إلى الأرض، وتهادى إليّ حبلُ الأنثى السُّريّ متنقِّلاً بينَ الأصلابِ والأرحامِ التي لمْ تدركْ كنْهه».
فرددْتُ لك ذاتَ دلالٍ ما قالتْه البدويةُ حينَ درجتْ منْ بيتِ أبيها إلى بيتِ زوجها:
«إذا غَرّبتْ يا عمّْ غرِّبْ خيارْنا …
غرِّبْ منا كاملات الخصايل» .
فقلتَ أيها الراعي النرجسيّ، بلْ أيُّها الأميرُ النائم: «ما غرّبوا إلا خيارَهم ففزْتُ أنا».
أنت يا مواسمَ الفرح كنتُ أهجسُ بأربعاء فيها التقينا، من يومها صارت كلُّ أوراق الرّوزنامة أربعاء ليأتي رحيلك في أربعاءَ حزينة……. يااااااااااه لأربعاء انتظرْتُها وما انتظرَتْني..
فديْتُ أنفاسَك إذْ ضاقَ بها المدى، لوْ كانَ الحبُّ أعواماً لبلغتَ منَ
العمرِ آماداً …. فديْت قلبك إذْ توقَّفَ عن الخفقان، لو كان لنا الخَيارُ في رحيلِ منْ نحبُّ لقسمتُ
العمرَ نصفين: واحداً لكَ تغنِّي لغزالاتك الشَّاردات، وواحداً لقلبك النَّبيل
الذي ما عرفَ إلا الحُبَّ.
* مقطع نشره المخرج صلاح أبو هنود في صفحته على «فيس بوك».
* * الجائزة الأولى في المسابقة الدولية لنصوص المونودراما (النسخة العربية) التي نظمتها هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام سنة 2013.
* * * «البحث عن عزيزة سليمان»: النص الفائز بالجائزة.
عاطف الفراية
(1964-2013)
وُلد عاطف علي الفراية يوم 25/5/1964 في الكرك، أنهى الثانوية العامة في مدرسة حسن البرقاوي الثانوية بعمّان سنة 1982، ثم حصل على شهادة الليسانس في الأدب العربي من جامعة بيروت العربية بلبنان سنة 1992.
أقام في السنوات الأخيرة حتى وفاته في الإمارات العربية المتحدة، ومارس أعمالاً عدّة، منها: ممرّض، ومسعف، ورجل إطفاء، ومحرر ومدقق لغوي.
نال جائزة الشارقة للإبداع العربي (حقل المسرح) من دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة عن مسرحيته «كوكب الوهم» (2000)، وجائزة جمعية المسرحيين بالإمارات للتأليف المسرحي عن مسرحيته «أشباه وطاولة» (2002)، وجائزة ناجي نعمان الأدبية من مؤسسة ناجي نعمان للثقافة بالمجّان/ لبنان (2007)، والجائزة الأولى في المسابقة الدولية لنصوص المونودراما (النسخة العربية) التي نظمتها هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام سنة 2013 عن نصه «البحث عن عزيزة سليمان».
كان عضواً في رابطة الكتّاب الأردنيين، واتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، ومسرح الشارقة الوطني.
توفِّي يوم 18/9/2013 في الشارقة بالإمارات العربية المتحدة، ودُفن في الجديدة/ الكرك بالأردن.
* ناقدة من الأردن تعيش في الإمارات