فاروق يوسف *
وقعت مريم يحيى ابرهيم ضحية غابة متخيلة لا يفكر فيها أحد في مصير أحد، صار عليها أن تتمنى أن ينبت لها جناحان لترى الارض التي كرهتها من فوق. كانت الغابة دائماً ذريعة لوحشيتنا، لتدنّي سلّمنا القيمي، لانهماكنا في تأثيث مسيرتنا بالكائنات المركّبة من حيوانات متناحرة. لو صحّ الوهم لفنيت الحياة في الغابات مثلما يحدث في مدننا المحروسة شوارعها بفيالق من القتلة المأجورين الذين يتم انتقاؤهم من بين عتاة المهووسين في التعجيل بالقيامة. لا تبيد كائنات الغابة نوعها ولا أنواعا كثيرة تعيش معها. تختلف، تتنافس، تتسابق غير أن انسجاماً كونياً يظل مهيمناً بغموض هوائه على حركاتها التي تبدو كما لو أنها جزء من صفير لا ينطلق إلا من أجل أن يجهر بسعادتها. لقد صنعنا عالماً كئيباً لا يمتّ إلى الطبيعة وسكناه لنشكل بمواده التالفة صوراً وأفكاراً وحكايات، صرنا نتداولها ونحن نطعن في فكرة السعادة، باعتبارها الكذبة التي يليق بها ضحك أبله، صار الفن الرديء يسوّقه بضاعة للكسالى. نلعن الغابة حين يقودنا تشبثنا بالفوضى إلى الخطر، وإلا فإن البديل لن يكون سوى نظام قمعي يشقّنا بالطول وبالعرض ويندسّ بين مسامات خلايانا. نرفع شعار الحرية المسؤولة ونحن نفكر في السجون ونثني على النقد البنّاء ونحن نتدثر بعقائد متزمتة، صارت خزائن لهواء سلفنا الفاسد. ما الذي نقوله للغد وأن غدا لناظره قريب؟ نسلّم أولادنا إرثنا الوحيد: الأصفاد وكتب عن فوائد حليب الناقة وعذاب القبر ومآثر حروب الردّة.
هل كان لمريم يحيى ابرهيم، التي لا تزال حية بيننا، ذكر في أقوال السلف الصالح دائماً؟ المرأة السودانية التي لا تزال في العشرينات من عمرها والتي انتقلت من غيبتها الكبرى التي هي بلاد يحكمها جنرال هارب من العدالة الدولية إلى غيبتها الصغرى التي هي عبارة عن غرفة معتمة في الخرطوم تضمها وطفلتها الصغيرة وجنينها المنذور هو الآخر للعتمة. لنصدّق ما يُروى من حكايتها: اختارت مريم أن تكون مسيحية بعدما تزوجت من رجل مسيحي وانزوت بعيداً عن العالم الذي كان من وجهة نظرها يشكل تهديداً لإنسانيتها، لا لشيء إلا لكونها امرأة. لم تكفر، بل أعادت ترتيب أحوالها الروحية. في القرآن هناك “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” ولم يكن هناك حكم على مَن يتخلى عن الاسلام طوعاً ليختار ديناً آخر يناسبه شخصياً. سيكون الخوف من ذلك الانتقال مبرراً لو أنه صار نوعاً من الدعاية المشاكسة في مجتمعات يسودها الاسلام. لم تفعل مريم ما يؤكد انتسابها إلى الدعاة. كانت امرأة وحيدة وجدت سعادتها في الاقتران برجل مقعد. أين تقع الجريمة التي تبرر تقديمها إلى القضاء ومن ثم الحكم بإعدامها بتهمة لم ينصّ عليها القرآن؟ ألا تؤكد كتب التاريخ أن جيوش الخليفة الراشدي الأول قد ارتكبت جرائم عديدة في حق اناس لم تكن جريمتهم سوى الامتناع عن مبايعته شخصياً، وكانت الردة مجرد غطاء؟
علينا أن نسأل الغابة في شأن هو من شؤون وحشيتنا. مريم ليست المسيحية الأولى التي كانت مسلمة. هناك مساحة مشتركة بين الأديان التي تسمى سموية. مساحة تسمح للناس بالتنقل بين تلك الأديان بخفة، كما لو أن المرء يتنقل بين غرف بيته. فكل القصص في القرآن مستلهمة من التوراة التي هي كتاب اليهود. كما أن مريم، وهي السيدة الأم في المسيحية، قد حظيت بمكانة تبجيلية خاصة لدى المسلمين. فما الذي فعلته السيدة السودانية ولم يفعله الإسلام من قبلها؟ أما أن تحاكمها السلطة التي هي محل إدانة قضائية دولية بتهمة الخروج على الملة، فذلك لا يعبّر إلا عن نفاق صارخ، القصد منه الضحك على ملّة مستعبَدة لا تملك الحق في التعبير عن حريتها أو الدفاع عن كرامتها المنتهكة. ففي السودان كما في باقي البلدان العربية تحكم فئة قليلة باسم الاسلام من غير أن يكون في تلك البلدان للاسلام وجود حقيقي، سوى من خلال فريضتي الصلاة والصوم التي يمكن أن يؤديهما المرء حتى وإن كان مسافرا في طائرة أو على متن سفينة.
في ظل القمع الذي تمارسه السلطات، ما من شيء اسمه الملة ليتم الخروج عليها. هناك عبيد لا يراعي مالكوهم حتى شروط سلامتهم الصحية. قد يكون مناسباً هنا التصريح بأن رجلاً مثل البشير كان قد ارتكب جرائم ضد الانسانية لا يمكن لسلطته معها سوى أن تكون عاراً على الاسلام، فكيف به وقد اتخذ هيئة الرجل المؤمن الذي يحكم على الآخرين بتهمة الردة؟ ألم يرتد البشير عن الاسلام حين قتل مئات الألوف من البشر في دارفور؟ سيكون علينا أن نعقد مقارنة كئيبة بين ما فعلته مريم وما فعله البشير. لو أنها مباراة لكرة القدم لعرفنا مَن الفائز. هل صار الاسلام استثماراً سياحياً إلى هذا الحد؟
أعود إلى مريم التي يقال إنها أنكرت عائلتها وأصرت أثناء محاكمتها على أنها ليست مرتدة، بل هي مسيحية؛ وأتساءل: “ألا تعني قناعة من هذا النوع خياراً شخصياً لا علاقة له بما يفكر فيه الآخرون. لقد نظمت مريم أحوالها الروحية بطريقة تنسجم مع ما تراه مناسباً لفكرتها عن العبادة. وهو شأن سرّي يتعلق بطبيعة العلاقة بين المخلوق والخالق. لقد عبّرت مريم عن حريتها، لكن في إطار ذاتي، غير مجتمعي ولن يكون له أيّ تأثير سلبي في مَن يحيط بها. قالت “أنا مسيحية” ولم تبشر بالمسيحية بديلاً من الإسلام في بلد يتاجر حكّامه ومعارضوهم بالإسلام لتبرير هوايتهم في قتل المسلمين. لم تقل المرأة “لستُ مسلمة”، وهو ما يجب أن يعترف به البشير الذي استعمل الاسلام لإبادة المسلمين. لقد أباد البشير المسلمين في دارفور قبل أن يرتدّوا عن الإسلام، فهل كان القتل في دارفور حرباً استباقية لردّة متوقعة؟
ما حدث تاريخياً في حروب الردّة يمكن أن يقع في كل لحظة، يكون فيها الحاكم مطلق السراح في تنفيذ مخططه الإجرامي من أجل استمراره في الحكم. وما مريم التي اتهمت بالردّة إلا ضحية واحدة من ضحايا ذلك المخطط. فالسودان الذي تحكمه الشريعة الاسلامية، واحد من أكثر البلدان التي يعاني فيه المسلمون القمع والاضطهاد وكبت الحريات والإذلال وانتهاك الكرامة الإنسانية. وإذ نأت مريم بنفسها عن العالم الكئيب الذي تعيش فيه المرأة المسلمة حين اكتفت بمسيحيتها، صار عليها أن تدفع ثمن عقود من الظلام، وجد فيها البشير ملعباً فقهياً لإخصاء الرجال الذين هم قوّامون على النساء اللواتي ابتلين بمجتمع قبلي اكتفى من حياته الفقيرة بالنظر إلى العالم من خلال عورة المرأة، أو من خلال المرأة باعتبارها عورة. مجتمع ميت يعيش على الصدمات، وها هو يفيق من غيبوبته على محاكمة المرأة المرتدة التي تقول له بما لا يفهمه من لغة إنها مسيحية. وما الخطأ في ذلك؟ مارش عسكري لمشية المرأة التي تكشف للمجتمع عن مكان عورته الحقيقية. صمته المذل ونفاقه المبتذل.
ليست لدى مريم يحيى ابرهيم مشكلة دينية. فلمَ حوكمت دينياً؟
من سفاري كينيا إلى حدائق نيويورك العمومية سنعثر على التساؤل نفسه. ما من أثر للجريمة، بل ما من جريمة. فالمرأة التي قررت أن تكون مسيحية وهو حقها في مواجهة خالقها، لم ترتكب ما يمكن أن يشكل إساءة للمجتمع. لقد اختارت النظر إلى لغزها الأنثوي بطريقة مختلفة. ألهذا صارت مريم يحيى ابرهيم تخيف سلطة تبحث عن أسباب نجاة من العدالة الدولية، بعدما أخفقت محاولتها في فصل الجنوب عن تحقيق ذلك الهدف؟
مقابل رقبته، قد يعرض البشير حرية مريم، باعتبارها مشروع مواطنة أميركية.
* النهار البيروتية