ديمقــراطية بـدون ديمقـراطيــين


*صلاح بوسـريف

والشَّرُّ كُلّ الشَّرّ .. يأتِي من أنَّ الإنسَانَ يَطْغَى « طه حسين

كُلَّما تعلَّق الأمر بـ «الديمقراطية»، أو بالحديث عن «الديمقرطية» في العالم لعربي، انْبَرَى المسؤولون، وغير المسؤولين، للحديث عن الخصوصيات المحلية للإنسان والمجتمع العربيين، وثمَّة من يُضيف الإسلام، في سياق هذه الخصوصية، لِسَدِّ الباب في وجه كل من يرغب في أنْ تكون ديقراطيتُنا بنفس معايير وقِيَم الديمقراطية في الغرب، أو بما يعنيه ذلك من رغبةٍ في تبرير ما قد يبدو على هذه «الديمقراطية» العربية من أعطاب، أو ما فيها من سطحية وتحريف وتشويه.
الديمقراطية، هي تربية واستعدادٌ للحوار وتقاسُمِ الأفكارِ، وهي قَبولٌ بالتَّنافُس الحُرّ والنَّزِيه، وقبول بالتعدُّد والاختلاف، وبتداوُل السُّلْطَة. ولعلَّ التربية على الديمقراطية، كَكُلٍّ، هي بين أهمّ ما يُعَطِّلُ قُدرةَ الإنسان العربي على فهم المعنى الحقيقي للديمقراطية، ليس باعتبارها كلمةً نستعملُها دون مضمون، بل باعتبارها سلوكاً وثقافةً وتربيةً على الاعتراف بحقِّ الآخَر في التعبير، وفي التَّنافُس. و باعتبارها أداةً لبناء الإنسان، ولِتَثْبِيت قِيَم الاختلاف، والحق في الاختيار.
ليست الديمقراطية ابتكاراً عربياً، كما أنَّ الديمقراطية بمفهومها الإغريقي، لم يعرفها العرب إلاَّ في وقتٍ مُتأخِّرٍ، ولم تدخُل ثقافتَنا وحياتَنا، بالصورة التي أصبحت عليه في الغرب الذي ورثها عن الإغريق، وعمل على تطويعها وفق ما حدث من مُسْتَجدَّاتٍ . فنحن أخذناها من الغرب، على مَضَضٍ، أو أنَّ الذين أخذوها، أو فُرِضَتْ عليهم، سَعَوْا لتكييفها، أو تزييفها، مع طبيعة فهمهم للعلاقة بين الحاكِم والمحكوم، وما للحاكِم من سُلَطٍ واسِعَةٍ، لا يقبل بالتنازل عنها، أو تقاسُمِها، أو التَّداوُل بشأنِها مع مجموع الشُّركاء من أحزاب و نقابات ومؤسسات المجتمع المدني، ومجالس بلدية ونيابية، وغيرها ممن هُم جماع الأمة أو الشَّعب. 
لا يمكن غضّ الطرف عن الدَّوْر الذي لعبه الغرب نفسه في مفهوم وشكل الديمقراطية التي توجد عندنا. فالغرب لم يرغب في أن تكون ديقراطية العرب هي نفسها ديمقراطية الغرب، أو أفضل منها، وحرص على أن تبقى هذه المجتمعات غارقةً في الجهل والفقر والتخلُّف، وفي الصراعات الدينية والطائفية، وكان له دور كبير في التَّمْيِيز بين مُواطِني هذه المجتمعات، وفي تجسير الفروق الاجتماعية والثقافية بينهم. فالديمقراطية التي كرَّسَها الغرب، أو ساعدَ على تثبيتِها في حياتنا وفي ثقافتنا وواقعنا، هي ديمقراطية لا تحمل من الديمقراطية إلاَّ الاسم، ديمقراطية شكلية، لا توجد بجوهرها، بقدر ما ما توجد بقشرتها وسطحها، أو هي هيكل فارغ من الروح ومن الحياة، أو هي «ديمقراطية نحيلة» بتعبير الدكتور طه حسين. 
ولعلَّ طبيعة التربية التي نتلقَّاها في البيت وفي المدرسة، هي بين ما ساعدَ على قبولنا بهذه الديمقراطية «النحيلة»، الناقصة والعرجاء أو الشكلية، وساعدَ على وجود استعداد عند مواطنينا للهيمنة والاستحواد والاستفراد ورفض التداوُل على المناصب والسُّلَط، وجمع كل السُّلَط في يَدٍ واحدة. فهذا الطِّغيان، هو العطب الذي يمنع الديمقراطية من أن تصبح واقعاً وحقيقةً، وهو ما كان سائداً حتى عند الأثينيين نفسهم، في التمييز بين الأفراد والجماعات، فكانت الديمقراطية عندهُم تقوم على «مساواة ضَيِّقَة جدّاً»، ليست هي ما سيتم بَلْوَرَتُه في ما بعد بالصورة التي آلتْ إليها الأمور في ما نعرفه اليوم. وكما قال طه حسين في ما كتبه في هذا الموضوع «والشَّرّ، كُلّ الشَّرّ يأتي من أنَّ الإنسانَ يطْغَى».
هذا الطغيان والظلم والاستفراد بالسلطة والثروة، كان من أسباب تفكير الأثينيين في وضع دساتيرهم التي كانتْ تعبيراً صريحاً عن الرغبة في تخفيف وطْأة هذا الظلم، وتوسيع مجال الحرية والمساواة، بالقدر الذي يُتِيح للإنسان أن يعيش في نوع من الرفاه الاجتماعي، وأن يكون مشاركاً في اتِّخاذ القرار وإبداء الرأي. فـ «دستور الأثينيين» لأرسطو، كان بين مائة وثمانية وخمسين دستوراً، لم يصلنا منها إلاَّ هذا الدستور. ما يشي بوجود دينامية كبيرة، آنذاك، في البحث عن الشكل «المثالي» لدستورٍ يسمح بِسَدِّ الثقوب والثغرات والأعطاب التي نعرفُ اليوم، بالملموس، أنَّها موجودة في ديباجة الدساتير، التي تكون هي المنفذ لتوسيع التأويلات، وتناحُر دلالاتها أو قراءاتها وفق ما يرتضيه كل طرف من الأطراف المتناحرة، وما يرغب فيه من فهم يخدم مصالحَه. 
تاريخ الديمقراطية، أو ما عرفَتْه من انتقالات وتحوُّلاتٍ، و ما عرفَتْه من تعديلات وإضافاتٍ، يشي بطبيعتها المُتَمَوِّجَة بتمَوُّج المجتمعات والحقب التاريخية، والحاجة للتغيير والإضافة، وبما بلغه الإنسان، في فكره و نظره، من تطور، وهذا ما تشهد به التعديلات التي تطرأ، بين الفينة والأخرى، على الدساتير الغربية، بشكل خاص، وعلى الدساتير العربية التي تبقى، مجرد حبر على ورق، وما يَتِمُّ إعطاءُه منها بِيَدٍ، يَتِمُّ انتزاعُه بِاليَدِ الأخرى، أو تجميدُه بالأحرى، وهذا ما يقع اليوم في ما طرأ من تعديلات على الدستور المغربي، الذي كان مُتقَدِّماً، نظرياً، في بعض بنوده، لكنه لا يزال دستوراً في الشكل، ولم يذهب بعدُ إلى الجوهر. وهذا ما يجعل هذا لنوع من الدساتير، مرآةً لمفهوم الديمقراطية، وحقيقتها، كما تجري في واقعنا لعربي، دون استثناء.
والدساتير، أو مرايا الديمقراطية هذه، هي في النهاية موجودة لراحة الإنسان ولاستمتاعه بالحياة، ولوضع الناس على قدم المساوة، في الحقوق والواجبات، فلا أحَدَ فوق القانون، ولا أحدَ هو القانون. القانون هو الشَّعب، هو تلك الأصوات التي تقول طواعِيَة وعن وعْيٍ ورغبة وقَصْدٍ «نعم»، حين ترى في الدستور ما يخدُمُها، لا ما يخدم مصالح الحُكَّام، ومصالح الفئات ذات الحُظْوَة في المجتمع، وتُعَبِّر عن رفضها، حين تقول «لا»، بحرية، إذا رأتْ أنَّ هذا الدستور لا يخدُمُها، أو يحجُب عنها هذه الحرية، ويمنعُها، أو يَحُدُّ منها، خصوصاً ما يتعلَّقُ منها بمراقبة الحاكمين، والحَدّ من سُلَطِهم التي لا حَدَّ لها. فالمساواة، هي قلب الديمقراطية، وهي روحُها، وهي «المُساواة في القدرة على الاستمتاع بالحياة، المُساواة في القدرة على تَجَنُّب الشَّقاء، المُساواة في أن نشقى جميعاً إذا لم يكن بُدٌّ من أن نشقى، وأن ننعم جميعاً، إذ من حق الناس أن ينعموا، وألاَّ ينظر بعضُنا إلى بعض هذه النظرة التي فيها الخوف وفيها الحَسَد أحياناً، وفيها الحقد أحياناً، وفيها الاستعداد لاقتراف الجرائم أحيناً أخرى»، كما يقول طه حسين في كتابه عن «الديمقراطية».
لا أرى أنَّنا، فعلاً، انْتَقَلْنا إلى الديمقراطية. باعتبارها «حكم الشَّعب للشَّعب». ما عندنا، هو شكل وسطح الديمقراطية، هو ظاهرُها الذي لا علاقةَ له بالجوهر. عندنا دساتير، انتخابات، وعندنا برلمانات، وعندنا حكومات، وهذه الدساتير والبرلمانات والحكومات أفرزتْها صناديق الاقتراع، وقد يحدُثُ أن تكون هذه الانتخابات نزيهةً بصورة نسبية، لكن، هذه الإجراءات، أو هذه المؤسَّسات، حين تنتقل من الكلام إلى الواقع، تجد نفسَها أمام بنياتٍ «مخزنية» سلطويةٍ مُتَصَلِّبَة، لا تقبل بتحريك رُقَع الشطرنج، أو تقبل بتحريكها بما لا يمس مصالحها، وما لها من امتيازات وسُلَط. ما يجعل الديمقراطية، في حالةٍ كهذه، تكون بمثابة سلاح بدون دخيرةٍ، أو بمثابة رصاص «أبيض»، خالٍ من «الدَّم».
لا معنى للحياة بدون إنسان، ولا معنى للدولة إذا كان فيها الإنسان خادِماً فقط، وليس مخدوماً، أو كان فيها الشَّعبُ في خدمة الحاكم، وليس العكس. وفي النُّظُم الديكتاتورية الكُلِّيانِيَة، الشَّعْب يكون حَطَباً في يَدِ الحاكم، الجميع في خدمة واحِدٍ، ولا سلطةَ لأحَدٍ عليه، لأنَّ النظام الديكتاتوري هو نظام يعمل بقرارات، لا تصدر إلاَّ عن هذا لواحد الأحد. لا مكان للدستور، ولا للقوانين المُنَظِّمَة لحياة الناس، فالديكتاتور هو القانون، وهو فوق القانون وأكبر منه. 
لا يعني هذا أنَّ الدول الديمقراطية، أو مَنْ تَتَّخِذ من الديمقراطية نظاماً لها في الحُكْم، ولو ظاهرياً، هي دُوَل لا ديكتاتورية فيها. و في هذا ما يُفَسِّر موقف بروتاغوراس الذي كان يرى أنَّ الإنسان هو المقياس الأصلي لكل شيء في العالم، أو في [الكون].
فالديمقراطية المُجَمَّدَة، أو التي تبقى حبراً على ورق، هي أخطر من الديكتاتورية، لأنها تُوهِمُ بالعدل والمساواة، وتَعِدُ بالحق في الحياة، في ما هي تمنع العدل والمساواة، وتسلب الحق في الحياة، ليس بالقهر هذه المرة، بل بالحَضْر، حَضْر الحق في الحياة، في تقاسُم السلطة والثروة، وفي حرية الرأي والتعبير والمُساواة. فالتشريعات، في مثل هذا الوضع، تصبح ضِدّ الشَّعب، وليست في خدمته، لأنَّ ما يخرج من الدساتير ومن القوانين من تأويلاتٍ، بقدر ما تخدم توَجُّه السلطة، بقدر ما تكون عصاً لردع الشَّعب باسم «الحق والقانون»!.
لا ديمقراطيةَ بدون ديمقرطيين. هذا هو مربط الفرس في فهمنا للديمقراطية. فالديمقراطية، غالباً ما نستعملُها كحصان طروادة، نبلُغُ بها السُّلطةَ، دون أن نؤمن بها، أو تكون داخلةً في سلوكنا وفي تربيتنا. وهذا ما فعله الإخوان المسلمون في مصر. فهُم استعملوا الديمقراطية، لا لتكريس الديمقراطية، بل للانقلاب عليها، وهذا ما ظهر خلال ممارساتهم خلال وقتٍ وجيز من حكمهم، ما دفع الشَّعب للتظاهُر ضدَّهُم، لأنَّ الديمقراطية التي وصلوا بها للحكم، لم يؤمنوا بها، ولم تكن داخلةً في فكرهم، فكر «المُرْشِد» الذي هو مصدر الإلهام، ومصدر القرار، وهو المُشَرِّع، لا القانون أو الدستور. هذا ما يسري على الأحزاب السياسية العربية، التي تدعو للديمقراطية، ولا تُمارسها في تسيير وتدبير الشأن الحزبي، وهو ما نجده في الجمعيات والمؤسسات الثقافية التي يتحوَّل فيها المثقف إلى ديكتاتور صغير تافِهٍ، يتدرَّب على القهر والإقصاء واسْتِحْلاء الغنيمة ، وهذا، في حدِّ ذاته، تعبير عن ذهنية الإنسان العربي الذي لم يتعلَّم الديمقراطية، ولم يؤمن بها، لأنَّه في داخله لا يؤمن سوى بنفسه، وبما يقوله ويصدر عنه، فهو الصوت والصَّدَى، ولا يعنيه ما يقوله الآخر، كيفما كان رأي وشأنُ هذا الآخر.
_______
*شاعر مغربي/ القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *