زاهر الجيزاني *
لا يمكن لمسرحية أن تستمر في العرض لفترة ألف سنة، عمر طويل جدا، سيتاكل كل شيء فيها، وتنتهي إلى هيكل عظمي، يعيش معنا، يخيفنا ويضجرنا، أكثر مما يطمئننا ويمتعنا، هذا ما وصلت إليه القصيدة العمودية، وجودة القصيدة العمودية أو رداءتها مرتبطتان، بقواعد النظم التي لم تعد تلائم، المتغيرات السريعة في المكان والإنسان، وليستا في القصيدة نفسها، لأن هناك قصائد أو قطعاً أو أبياتاً ذات قيمة فنية عالية ومازالت،لافتة إلى اليوم، وجرت محاولات عديدة للخروج على قواعد النظم المستهلكة.
1
وعلى الرغم من أن القرن التاسع عشر يمتاز بأسوأ حقبة شعرية عاشتها بغداد، والحلة والموصل والبصرة، المدن العامرة بالشعر آنذاك، إلا أن المتابع سيعثر على محاولات كسر الروتين الشعري باستمرار، محاولات فردية، تعكس حجم الضجر، والرتابة، من التكرار الكثير لأنغام بعينها. في أواخر القرن التاسع عشر وفي بغداد- كتب أبو الثناء الآلوسي- خمس مقامات، إنها شكل جديد من الكتابة الشعرية، خال من قواعد النظم القديم – في تقديري- وعلى الرغم من سذاجة ماكتبه الآلوسي من مقامات، تنعدم فيها الصورة، والمهارة اللغوية، والفكرة اللافتة، وفقا للمخطوطة الأصلية التي عرضها Google ضمن قائمة كتبه تحت عنوان.”مقامات الآلوسي”.
لكنه نص يعطيك صورة قريبة للمشهد الاجتماعي، في عصره، عن نمط الكلام السائد على لسان الناس آنذاك ونمط لغة الكتابة، ونمط الأفكار التي تدور في رؤوسهم، نقرأ شيئا من مقامة (قطف الزهر من روض الصبر) يصف فيها طبيعة العراقيين في بغداد في سنة-1842م
(يا بني قد رأيت أهل الزوراء، لايجتمعون على حق ولو أضحى
كشمس الضحى
في الظهور
بل يكونون طائفتين في (كل أمر من الأمور)
فإن أنتم أمنتم المكروه فكونوا مع الطائفة المحقة
وإلا فكونوا طائفة ثالثة
وانحازوا عن الطائفتين بمعزل
وأبعدوا عنهما بألف ألف منزل
فذلك في هذه الأيام
أبعد من الوقوع في مهاوي الملام
يابني أن العراق قد خلقت ثيابه
بل أنتن لحمه وشحمه وإهابه
فغدا جيفة يشق نشق ريحها المرائر
ويصعد إلى أقصى الجو فيصدع رأس النسر الطائر
قد تصدر فيه
كل خب سفيه
واستولى عليه
من يأبى أن يلوكه القلم لنتنه بشدقيه
وحيث أنكم لا تستطيعون فيما أظن الهجرة
ولا تطيقون ترك الأوطان
وإن كانت مرة بالمرة
فعليكم بقلة الاختلاط
وكثرة الاحتياط
فلعلكم تحفظون من الأمر الأمّر
وتسلمون من أن ينطحكم ذو قرنين
وليس إسكندر)
هنا غابت قواعد النظم-اختفت اللغة الراقية، اختفت الصور الرمزية التي تعمل دليل هداية نحو أسفل تفاصيل الواقع، كما في ذروة الفترة الذهبية للشعر العمودي على يد المتنبي، ولو قدر للمتنبي أن يقرأ هذه المقامة بوصفها شكلا أدبيا جديدا بديلا عن الشكل القديم لانتحر فورا، ولو قدر لأبي الثناء الآلوسي أن يقرأ نصا للشاعر نصيف الناصري، لانتحر هو الآخر، وهكذا، لكن الحقيقة الماثلة اليوم، ان الفترات الأدبية تنتحر تباعا، كما تزاح مسرحيات قديمة من العرض لتحل محلها مسرحيات جديدة وإن كانت أقل جودة، لكنها تتناغم مع إيقاع عصرها.
قصيدة النثر وهي الصورة الحقيقية والواقعية لعصرنا الحديث، تتجدد باستمرار منذ ظهورها في العراق بزخم أقوى في نهاية السبعينيات، وفي لبنان في أواسط الستينيات، وقصيدة النثر العربية، رفضت قواعد النظم القديمة لكنها وضعت نفسها في تنافس وسباق مع الفترة الذهبية للشعر العربي على يد الصانع الكوني الأمهر (المتنبي).
اهتمت قصيدة النثر بالصورة، والفكرة، واللغة، ورفضت الانجرار إلى الأشكال المتدنية، مثل المقامة، والدوبيت، والموشح، ومنذ أربعين سنة، تجدد قصيدة النثر نفسها باستمرار، فهي في تقديري آخر الأشكال الشعرية، لكنها ليست نهائية، في ابتكار طرق عرض رؤيتها، وهذا سيكون درعها المتين، فهي شكل ماص لكل الأشكال الكتابية المجاورة، التاريخ، الفلسفة، الرواية، الحب، السياسة، الجنس، الدين ،الريبورتاج الصحفي. كل شيء سيكون مادة تستطيع هذه القصيدة العجائبية، أن تبني نفسها منها، وتوجد من خلالها.
2
سأتخذ من العام 1977 بداية التركيز والانشغال بقصيدة النثر، في هذه السنة نشرت لي مجلة أفاق عربية (مجلة عراقية) قصيدة نثر، وافق على نشرها الشاعر بلند الحيدري الذي كان مشرفا على القسم الثقافي في المجلة على الرغم من هجومي القاسي عليه في مقابلة معي في مجلة “ألف باء”، ودعوت إلى تجاوز نقطة التوقف الإجبارية التي فرضها الرواد على الشكل والموضوع، كانت تلك القصيدة مهداة إلى( إبراهيم) صديق وجار لي، مات بسبب الخمر، هكذا أشيع بين الجيران، بينما هناك سببان في موته، أولهم الحب، كان متزوجا ويحب امرأة متزوجة، ولا سبيل إليها. وثانيهما، المضايقات الحزبية، من حسين، وعلي، وعباس، هؤلاء كانوا شركاء في جذر المعاناة مع ابراهيم، لكنهم يعملون في منظمة “البعث” المقبور في المنطقة، يكتبون التقارير، وينقلون الوشايات، وينشرون الذعر بين ابناء منطقتهم.
كانت القصيدة ، تتحدث عن الفتك، عن ناس مفتوك بهم، ولأول مرة أرى في التاريخ الدليل الواضح، على معنى. لماذا؟ وكيف ؟ لماذا نحن نعاني مرارة الحياة في كل أطوار حياتنا، التاريخ يقول بسبب سيطرة القوة الغاشمة والقوي الغاشم، وكيف وصلت هذه القوة ولا من مصدات اجتماعية أو ثقافية، وقفت في وجهها، التاريخ يقول هذه
القوة الغاشمة تظهر لكي تهيمن علينا، عليها أن ترتدي قناعا، وهي تموت حالا من غير قناع. أهم هذه الأقنعة، قناع الدين، قناع الخير، قناع العدالة، القوة الغاشمة في التاريخ مغطاة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وشرف القيم والأعراف، كيف نستطيع أن ننتزع منها هذه الأقنعة ليظهر قلبها الأسود تحت الضوء، يراه المتفرجون من الجهات الأربع، هذا ما كان يشغلني ويدفعني لحب الشعر وتعلقي ودفاعي عن قصيدة النثر، التاريخ بالنسبة لي مقبرة بشرية، يجب أن نمر بها سريعا، لا أن ننام فيها، ونصبح جزءا منها.
كان موضوعي المفضل في أغلب قصائد النثر التي كتبتها-التاريخ- في تلك الفترة العصيبة، السنة الأولى من الحرب 1981، وما بعدها، كانت صداقتي مع الشاعر الفذ، والروح الإنسانية الساحرة، خزعل الماجدي، متينة ولقاءاتنا شبه يومية، وكان لدينا موعد ثابت بعد الظهر نلتقي في الأسبوع مرتين، في حانة الزنبقة، الحانة تقع في الباب الشرقي، الجهة المقابلة لمحل أسطوانات القيمقجي، في صف مصرف الرشيد -حاليا- قريبة جدا من حافة الجسر ولها طلة صيفية على نهر دجلة، لكننا كنا نجلس في الداخل ،كان خزعل قد وضع المرأة في مركز قصيدته، نقطة انطلاق، نحو الأساطير والأديان القديمة والسحر. وأنا وضعت التاريخ نقطة انطلاق، للتشكيك في رواياته، كانت هذه خلاصة النقاشات المستمرة بيننا، كان خزعل حريصا جدا على إيصال رسائل إلى أصدقائنا، الشعراء، ان الفن ثمين جدا ولا يمكن بيعه بسهولة ورخص، للقوة الغاشمة، من أجل امتياز عابر، يجب أن يكرس لاكتشاف المرأة من جديد، لأنها الذروة النهائية للجمال، وأن يكرس للمآسي التي لا تتركنا لحظة واحدة، في الرسالة التي بعثها لي خزعل ردا على رسالتي له بمناسبة إعادة طبع مجموعته”خزائيل”، ذكرني بتلك اللقاءات في حانة الزنبقة، وأقسمنا، لقد أقسمنا فعلا في تلك السنوات العصيبة، ونحن منتشون لا بكأس ابي نواس وحدها، أيضا بخمرة
أفكارنا آنذاك، يجب أن نحافظ على نزاهة الشعر
* الصباح