استعادة ذواتنا البريّة من قبضة العصر


*لطفية الدليمي

ذكرت في القسم الثالث من موضوعة بزوغ الصوت الأنثوي أن المرأة المسلوبة الإرادة وتلك التي جرح الآخرون مشاعرها تبقى مستعبدة للعامل المفترس المحبط الجاثم على روحها ، فهي لا تحس بوجوده في أعماقها بتأثير تلقينات التربية والأوهام التي زرعتها الأسرة والمدرسة والمجتمع في شخصيتها عندما أنشئت على التزام الصمت واللطف وإظهار الرقة والخنوع أيضا ، فتصرفت بطريقة تسهل استغلالها وامتهان انسانيتها وهي غافلة عن حقيقة كينونتها الانسانية .. 

أود هنا التأكيد على ان الجانب الخفي من الشخصية الانثوية ينطوي على أمرين : العامل المفترس من جهة و الذات البرّية الكامنة التي تكشفها لدينا الميول المفاجئة للانغمار بالطبيعة وانبثاقات الشغف والأشواق الجامحة للجمال ، كما يكشفها ظهور اشراقات غامضة في أرواحنا تحلق بنا بعيدا جدا وتخطفنا من واقعنا اليومي ثقيل الوطأة ،و تأخذنا الأشواق الملهمة لبرهة خارقة بعيدا عن الضغوط الخارجية المدمرة ” السياسية والاجتماعية والدينية” التي صادرت أرواحنا الحرة الطليقة وطحنتها بقيودها ومحظوراتها وإلزاماتها ، نحن البشر الذين ولدنا كما تتفتح زهرة برية او يولد مهر بري جموح ينطلق في الوديان والحقول مع الريح وتيارات النهر ، فكان أن تلقفتنا أيدي القابلات والجدات ممثلات ( البيئة ) المجتمعية والأسرية و قمطتنا بنسيج ضاغط وكممت أرواحنا البدئية فأخرست صرخات القوة المتماوجة في أعماقنا وهكذا أصابنا الوهن والانكسارات وابتلينا بالعجز عن مواجهة الأحداث والمخاطر والتحديات الضرورية للكشف عن قدراتنا ، بحجة حمايتنا من التجربة والخسارة ، ثم شرعت تلقننا مايعزز هيمنتها على أرواحنا وصياغة شخصياتنا بزخارف الخضوع و اللين والاستسلام.
تعرف الأرواح المتمردة ما أعنيه في حديثي عن محاولتنا استعادة الذات البرية الحرة التي جرى وأدها في أعماق نفوسنا على مدى عصور طويلة ،و يدرك الرافضون للقولبة وجود تلك القوة الهادرة في اعماقهم وهي التي تحرض لديهم الإلهام والحدس وتعزز القدرة على الابتكار والإبداع وتساعدهم هذه الروح المستيقظة على الازدهار ومواجهة التحديات وتخطي وهن الروح والتمسك بما يسمى في علم النفس بـ “الطبيعة الوسيطة ” و يعرف هذه الطبيعة الوسيطة المبدعون من الشعراء والروائيين والشاعرات والروائيات اللواتي والذين يمتلكون قدرا كبيرا من الرؤية العرفانية والزهد والقدرة على استحضار البهجة والجمال من اعماقهم ، وتغيب هذه الروح او الطبيعة الوسيطة او جمرة الروح البرية المشتعلة عن ذلك النمط الحرفي من صناع الكتابة و الفن ممن تواطأت أرواحهم مع التيار النفعي و التنافسي المهيمن.
تتجلى الروح البرية الطليقة لدى المرأة بوضوح عندما تدرك جيدا انها قادرة على الإنصات لنداء روحها او انها تحسن التقاط رنين الموسيقى المنبعثة من لاوعيها ومن ايقاعات نفسها وذاتها البرية وتفعمها تلك الموسيقى بالنشوة ويقظة البصيرة والإقبال على الإبداع والحياة وتضيء جوارحها فتنهض قواها وتشتد عزيمتها، وعندما تعجز المرأة عن الإنصات لهذه النداءات والاصوات المتصادية في اعماقها ولاتحس بالضوء المنبه الذي يتوهج في أعماقها ، تنطفئ روحها وتعجز عن إبداء رأيها بقوة بل انها تراوغ ذاتها وتفشل في التعبير عن أفكارها الحرة، و تنساق للحياة اليومية والعجز الكئيب ، وتختل علاقتها مع نفسها ومحيطها وتضع اقنعة الرضا عن حياتها الباهتة وهي تكظم السأم والأهواء المشبوبة ولاتفصح عن رفضها لنمط حياتها وتتداعى قواها ومقاومتها، وعندها ينفجر صمت بعض النساءعلى نحو مدمر ومتهور وقد تهرب بعضهن الى الكتب والعمل التطوعي أوالانتماء السياسي هربا من زيف واقعها.
______
*المدى

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *