فخري رطروط : الشعر مرض علاجه الموت..!

فخري رطروط : الشعر مرض علاجه الموت..!

حاورته : فاتنة الغرة

 

شاعر زاده التأمل، يحمل في جرابه لغة لا تشبه إلا روحه، يقدم الشاعر الفلسطيني فخري رطروط المقيم في نيكاراغوا نفسه ونصه بكل تجرد وشفافية بل وبكل براءة لا تختلف عن براءة شعره ودهشته، حيث يعيش في مهجر اختياري في بلاد تقدم له يوميا الغرائبي والسحري، ينهل منها ويخرج إلينا بنصوص تضع علامة فارقة في المشهد الشعري، وكان للجزيرة نت معه هذا الحوار.

ما الذي تقدمه بلاد مثل نيكاراغوا لشاعر عربي؟

نيكاراغوا قدمت لي الكثير كإنسان أولا وكشاعر ثانيا، فالفلسطيني لا يحتاج إلى فيزا لدخول نيكاراغوا التي منحتني بعد سنوات بسيطة جنسيتها، وكعربي ينظر إليك باحترام إلا أن الأمر لا يخلو من شتيمة عابرة، وعادة ما أقدم نفسي دائما كشاعر أردني فلسطيني نيكاراغوي، وهنا بلد الشعر والبحيرات والبراكين والأمطار والغابات والبسطاء، ولا أحتاج كشاعر أكثر من ذلك.

ما الذي جاء بك إلى هذه البلاد؟ وما أول شيء شعرت به حين وطئت أرضها؟

ما الذي جاء بي إلى هنا؟ تركت وظيفة في مدينة أريحا والكثير من القصائد القديمة، وربما الشعر هو الذي جاء بي إلى هنا، وأتذكر أول وصولي إلى نيكاراغوا أني استحضرت مباشرة عوالم ماركيز، احتضنت بحنين جارف جرة مليئة بنبتة الخنشار وفور وصولي كتبت:

“الأمواج تلقي على شواطئ نيكاراغوا الطحلب الميت والصدف الفارغ والغرباء”.

وهنا كشاعر عربي أعامل معاملة خاصة لم أحظَ بها في العالم العربي، أتذكر في التسعينيات حين حملت مسودة ديوان وذهبت بها إلى المتوكل طه وكان رئيس بيت الشعر في رام الله استقبلني بحرارة وقرأ الديوان كاملا، قال لي “سيكون لك مستقبل رائع ولو أنك ذهبت بهذا الديوان إلى أنسي الحاج لكان صنع لك تمثالا لكني آسف، أنا ضد قصيدة النثر ولا أنشرها”.. المضحك أنني بعد سنوات طويلة قرأت قصائد نثرية للمتوكل طه نفسه.

ما الأثر الذي أحدثته هذه البلد على تجربتك الشعرية وكتبك؟

عليّ أن أذكر أن أول ديوان نشر لي كان بالإسبانية في كوستاريكا وتمت دعوتي إلى مهرجان عالمي هناك دون أن يكون في رصيدي غير مسودة ديوان “جنة المرتزقة” التي تم طبعها في كوستاريكا وبيعها بسعر التكلفة في الأماكن التي قُرئت فيها ونفدت جميع النسخ، وقد أفردت لي صحيفة “لا برنسا” في نيكاراغوا صفحة كاملة، وهي الصحيفة الأولى هنا.

نيكاراغوا وطن الشاعر روبين داريو وآرنستو كاردينال، لذا تجد في مطارها صورة وحيدة هي للشاعر روبين داريو، لا لصور الرؤساء.. نعم لصور الشعراء، هذه بلاد تحترم الشعر، وما زالت تبحث عن دماغ روبين داريو الذي استخرج من رأسه قبل دفنه ولا أحد يعرف أين ذهب هذا الدماغ العبقري.

زرت قبر روبين داريو المدفون وسط القديسين في كاتدرائية ليون حيث يزوره الآلاف ليحيّوا الأسد الرخامي الحزين الرابض فوق القبر، وفي مقاربة بين نيكاراغوا والعالم العربي أسال: هل تعرفين أين دفن شاعر الأردن عرار؟ من يزوره؟ هنا صارت قصائدي مصبوغة بالألوان، وقد كانت قصائدي القديمة بلا ألوان.

في السوق ترى الحياة أنموذجا مصغرا، ما الذي أضافته لك تجربتك كتاجر للقماش؟

الشعر فضيحة أحاول كتمانها.. أخجل حين تتم مناداتي بشاعر وأعترف بأنني أكتب لنفسي كنوع من العلاج، وأعامل نفسي كأنني الخطأ الوحيد في هذا العالم كما يقول فرناندو بيسوا، أكتب كالمطارد الذي لا وقت لديه، أكتب في شاحنة نقل الأقمشة وفي مخزن الأقمشة وعلى الخشب الذي يلف فيه القماش، وتتم دعوتي لفعاليات ومهرجانات كثيرة في القارة اللاتينية، لكن محل القماش يأخذ كل وقتي، فأن تكتب وسط حشود عمال وزبائن في سوق مزدحمة صنعة أتقنها، حيث أخلع بسرعة رداء العامل والتاجر وأرتدي معطف الشعر، لا وقت لدي للتخطيط والجلوس على الكمبيوتر طوال الوقت لأنسج العلاقات، لذا فأنا سعيد بأنني لا أنتمي إلى أي مافيا شعرية أو حزب سياسي، يكفي أن يقرأني حفنة من المخلصين للشعر، فالأسماء البراقة لا تعنيني لأن الزمن كفيل بالغربلة.

“في محل بيع الأقمشة

مقصات عمياء

تطقطق طوال النهار

تفتك بالكائنات المرسومة على القماش

أحيانا تقص

ربع جناح فراشة

ثلث وردة

نصف نمر

طرف تفاحة

خصلة من شعر باربي

قدم كائن كرتوني أليف

قرن ماعز

حدبة جمل

حافة دائرة

أغلق الدكان وعلى الباب أتفقد قفلا أسود وجسدي

ماذا أبقت منه المقصات الطائشة؟

وأفكر

بأجزاء الكائنات التي تسافر في أكياس بلاستيكية

لحظة فتح الدكان يبدأ مأتم وصراخ كائنات جريحة

لا يستمر طويلا حيث تبدأ المقصات بمجزرة جديدة”

هذه هي تجربتي مع السوق.

 

هل تشعر بالغبن حينما ترى أقرانك مشهورين في البلاد العربية وأنت بعيد عن المشهد العربي؟

أريد أن أعبر هذا العالم ليلا حتى لا يراني أحد، يراودني أحساس بأن علي الرحيل دون ترك أثر في هذا العالم، وهذا الشعور يخيفني وأخشى أن أبطش يوما بلوحاتي ومسودات القصائد، وعلى الرغم من أني نشرت أول ديوان متأخرا لكني أشعر بأني تسرعت ولو أتيحت لي العودة لشطبت نصف ما نشر لي.

أنا أفترض الذكاء في القارئ، إن تذكّر أحد قصيدة واحدة لي بعد مائة سنة فذلك عزاء آخر، وأنا أحاول أن أظل مخلصا للشعر وحده، كما أنني أيضا كائن منعزل وكسول ساهمت في أن أعيش الحياة خفيفا -مثل ظل- بمتطلبات قليلة، لا أحتاج شيئا، تكفيني ضجة الشعر، تستهويني الوحدة، مقصر في حق الكثير من الأصدقاء والعائلة، فالشعر يسرقني حتى من نفسي أحيانا، وأتيقن من أنه أفسد حياتي، الشعر مرض علاجه الموت.

تعيش في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية بعيدا عن العالم العربي، هل أشعرك هذا بغربة؟ وهل تتواصل مع العالم العربي على الرغم من المسافات؟

بعد فلسطين تتساوى المنافي فلا فرق بينها، ولا أشعر هنا بالغربة لعدة أسباب، منها أن الكلمة وطن الشاعر، وأي بقعة في الأرض يُحترم عليها الإنسان تكون وطني، وقد أمضيت مدة طويلة معزولا عن الوطن العربي حيث كنا نجلس حول راديو يبث عبر الموجات الطويلة نستمع إلى أخبار الوطن، وبعد سنوات أحضرنا لاقطا استطاع أن يلتقط بعض المحطات العربية، كانت ليلة مجنونة أن تشاهد قناة عربية هنا في نيكاراغوا، ثم جاءت نعمة الإنترنت والفيسبوك الذي أحضر لي العالم بأكمله، لذا بعد الفيسبوك لا غربة.

مجموعتاك الشعريتان “صنع في الجحيم” و”جنة المرتزقة” صدرتا في العالم العربي، كيف ترى استقبال القارئ العربي لهما؟

ديوان “صنع في الجحيم” صدر عن دار “الغاوون” هكذا قالوا لي، وأنا أقول كأن الديوان لم يصدر من هذه الدار، فبعد مماطلة سنوات ومراسلات طويلة وصلتني من دار النشر مائة نسخة مطبوعة “ديجتال” بطباعة سيئة، تأكدت أن الدار لم تصدر غير هذه النسخ، وقد بحث أصدقائي في مكتبات الوطن العربي ولم يعثروا على نسخة واحدة، والتحدي قائم لمن يعثر على نسخة في إحدى المكتبات فله أن أعتذر لدار النشر في كل مكان.

أما ديوان جنة المرتزقة فقد صدر في القاهرة من دار رؤيا بعد مخاض طويل، ولولا الشاعر أحمد الشهاوي الذي أصر على حمل مسودة الديوان معه من نيكاراغوا إلى القاهرة لما رأى النور في الوطن العربي، وقد تولى أمر توزيعه شخصيا، ووصلت نسخ كثيرة إلى الأصدقاء، وتردني رسائل كثيرة من أناس لا أعرفهم يمدحون الديوان.. ذلك عزاء كبير.

وقد ترجم ديوان “جنة المرتزقة” إلى الإيطالية والرومانية والإسبانية قبل أن يرى النور في الوطن العربي، وفي الطريق ديوان ثالث بعنوان “أربعمائة فيل أزرق” سيصدر في القاهرة خلال الفترة القادمة وبمساعدة الشهاوي نفسه، فقد مللت من مراسلة دور النشر وعدم الرد، حتى أنها لا تتنازل لرسالة اعتذار، ربما لأنها مشغولة بطباعة كتب الطبخ والأزياء والفتاوى.

تبدو مواضيعك الشعرية بمنأى عن الشعر الفلسطيني وربما العربي، ما هي مكوناتك الشعرية التي وضعتك هناك؟

أن تبدو مواضيعي الشعرية بعيدة عما هو سائد فذلك يدخل السرور إلى نفسي فأنا لا أريد أن أشبه أحدا، أحاول النجاة من سكاكين الشعراء الكبار، محمود درويش مثلا في رقبته الكثير من دماء الشعراء الشباب، وكوني فلسطينيا لا يعني بالضرورة أن أكون شاعر مقاومة، لا أحب تسجيل البطولات الفارغة إذ يكفي أن يذكر أمام اسمي “من فلسطين”.

أذكر مدرسة ابتدائية في كوستاريكا استقبلني طلابها بأعلام فلسطين، وفي محاولة منهم لتكريمي بحثوا في النت عن نشيد السلام الوطني الفلسطيني فاختلط الأمر عليهم وإذ بي أتفاجأ بموسيقى لأم كلثوم، وقفت باحترام ثم أخبرتهم بالخطأ وأرشدتهم إلى نشيد “فدائي”.

أنا أنتمي للشعر الإنساني وأنفر من الشعر الذي يموت سريعا، ولا أحب شعراء الأحزاب ومتسلقي القضايا الثورية، تستهويني الكائنات الهامشية الصغيرة المشحونة بالكثير من الأسرار، الله أفرد سورا كاملة للنمل والنحل والعنكبوت، من هنا أستمد موضوعاتي الشعرية، لأن الشعر موجود على هامش الحياة ولا ينمو تحت الأضواء، ووجودي في سوق شعبي أمدني بالكثير من الكنوز حيث أخالط اللصوص والمشردين والباعة الجوالين ومدمني شم رائحة الغراء.

أذكر مرة أن عجوزا تبيع السكاكر قالت لي: أنتم رائعون وقريبون للخالق لأنكم تثنون ركبكم في صلاتكم، كما كان أحد المبشرين يصرخ في السوق بأنه علق شيطانا من ذنبه وظل يجلده طوال الليل، وعلى هذه العبارة بنيت قصيدتي “كتيبة شياطين تحلم”، وأذكر دهشتي حين شممت للمرة الأولى رائحة سهول قصب السكر المحروق أغمضت عيني “إنه الشعر”.

تعتبر إشكاليات الوجود والموت والفلسفة أبرز ملمح من ملامح قصيدتك، فكيف تفسر ذلك؟

“لأن الموت فعل لا تنقصه الدهشة يقف الشعر مبحلقا في كل ما هو مدهش وغامض، فالسماء كفّت عن إرسال الأنبياء لكنها لم تكفّ عن إرسال الشعراء، وأنا أحاول أن أفهم نظرات العجائز الممطوطة رقابهن خارج العتبات المحدقات في الفراغ بانتظار الزائر الأخير “

حين أكتب عن الحياة أقصد الموت والعكس صحيح، أنا لا أفهم لماذا يموت الناس، في ذلك قهر للإنسان.. هذا المخلوق المريع المزود بقلب فولاذي والمسرع نحو نهايته تبدو لي المسافة الفاصلة بين موته وحياته شفافة جدا ومن السهولة قطعها مرارا، أن تموت يعني أن تختفي وراء حجاب وبالتالي تصبح كائنا شعريا، والموت أهم موضوع شعري على الإطلاق، إذ يخيل لي أننا ظل لكائنات موجودة في السماء أو في عوالم سابقة أو لاحقة والموت كفيل بالتحامنا ثانية.

الموت معجزة الخالق التي لم نفهم منها شيئا ونقف بلا حول ولا قوة أمامها، وحتى الشعر يفشل في هذا المكان، لا أعرف من قال عبارة “الموت يحدث للآخرين ولا يحدث لنا”، أعتقد أن ذلك صحيح.. أكاد أحس بأنفاس ملك الموت تلفح وجهي وذلك ما يبقيني حيا، ومع ذلك لن نلتقي مع الموت وجها لوجه، هل الموت يؤلم أم هو سهل ونزهة في شوارع الوجود الخلفية؟ ذلك يجيب عنه الشعر، هل موت شاعر أكثر أهمية وحزنا من بقية البشر؟

مع ذلك يظل الموت الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة، الموت يخيفني كما الحياة، أتأمل ولادة طفل وأحاول معرفة كيف جاء.. يبدو الأمر شبيها بالسحر وأكثر تعقيدا من فكرة الموت.

هذه الأرض منفى بانتظار عودتنا للوطن الأم، والزواج والأطفال يخففان كثيرا من فكرة الانتحار المزروعة داخل كل شاعر كعقوبة إلهية لهذا الكائن الذي يشاركه الخلق عن طريق الكلمات، وأكثر الناس معرفة بالخالق وأسراره هم الشعراء حتى لو تظاهروا بغير ذلك، فلا يمكن أن نكون قطعة طافية في بحر العدم مفصولة عن أي شيء، والغريب أن العالم نفسه ينتج الزهور وينتج القتلة.

ولأن الموت فعل لا تنقصه الدهشة يقف الشعر مبحلقا في كل ما هو مدهش وغامض، فالسماء كفّت عن إرسال الأنبياء لكنها لم تكف عن إرسال الشعراء، وأنا أحاول أن أفهم نظرات العجائز الممطوطة رقابهن خارج العتبات المحدقات في الفراغ بانتظار الزائر الأخير

– عن الجزيرة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *