‘كاريزما’ رواية تعلن أن ثورة المرأة العربية مستمرة



*هيثم حسين

يهيمن على الكاتبة اللبنانيّة هالة كوثراني في روايتها “كاريزما” هاجس الانتصار للمرأة عبر التاريخ، واستعادة الذات المهدورة بفعل العادات والتقاليد المتراكمة التي أصبحت بفعل التّقادم قيوداً مفروضة متوارثة، تهدف إلى سجن المرأة في حيّز محدود، وتأمين بعض المستلزمات لها بنوع من التكرّم عليها، بحيث يبدو أيّ منح لأيّ حقّ من حقوقها، مهما كان بسيطاً، مِنّة من قبل الرجل المستفرد بالرأي والقرار.

تتّخذ كوثراني في روايتها – التي نشرتها دار الساقي أخيراً- حياة الشاعرة الإيرانيّة “رزين تاج” التي قتلت وهي في السادسة والثلاثين من عمرها سنة 1852، محوراً لروايتها ومنطلقاً لتسليط الأضواء على حياة المرأة في الشرق عموماً، وتنتقل إلى التخصيص المكانيّ، لبنانيّاً، من خلال “رشا، عزّة”، وهما بطلتا العمل الرديفتان لتاج والمكمّلتان لسيرتها بصيغة معاصرة.
نساء ومصائر
ثلاث نساء من ثلاثة أزمنة، رشا الثلاثينيّة، وعزّة الثمانينيّة، وتاج الشاعرة الثائرة الشهيدة، تجمع بينهنّ روابط كثيرة، يشعرن بالانتماء إلى القضايا والهموم نفسها، لكلّ منهنّ كفاحها المختلف في سبيل الخلاص الفرديّ والتخليص الجماعيّ المنشود تالياً.
القراءة هي الرابط الذي يلملم خيوط الزمن، رشا تقرأ لعزّة كي تؤنسها في وحدتها الموحشة، وفي إحدى جلسات القراءة تكتشف كتاباً عن الشاعرة الشهيدة تاج التي كانت قد أعلنت ثورتها ضدّ الجهل والتخلّف والاستبداد، ودفعت حياتها ثمناً لذلك.
تتقاطع الأزمنة؛ الماضي والحاضر والمستقبل، لدى الشخصيّات. رشا تعيش الحاضر بكلّ همومه وتحدّياته، تجاهد للاستقلال بشخصيّتها وقرارها، تسعى لأن تكون ذاتها بعيداً عمّا يدبّر لها، تحطّم شيئاً فشيئاً قيودها، تجمعها علاقة مع هادي الذي يتمتّع بكاريزما لافتة تأسرها، تنشد ثورة على القوانين التي تعكّر صفو الحياة في بلدها، تستعيد بعض جرائم زعماء الطوائف وأمراء الحروب ورؤساء العصابات، تتألّم للبؤس السائد من الدوران في الحلقة المفرغة نفسها من المطالب المتوارثة من جيل إلى آخر دون أن يتحقّق أيّ شيء منها، سوى شيء من ذرّ الرماد في العيون، ما يكون من شأنه إبقاء الجرح نازفاً.
عزّة بدورها تنتظر الخلاص، تستعيد محطّات من حياتها، هي التي كانت رائدة في مجتمعها، مثقّفة وساعية إلى النهضة والتنوير والثورة، توضع العقبات في سبيلها، ويهزمها الزمن دون أن تتمكّن من تغيير محيطها أو بلدها، ناهيك عن الرغبة الدفينة بتغيير العالم، والتي تصبح حلماً مستحيل التحقّق.
تاج هي واسطة العقد في العلاقة المتشعّبة بين المرأتين خصوصاً، وبين بلدان الشرق عموماً، فتاج لم ترد مجداً شخصيّاً ولا خلاصاً فرديّاً، أرادت تخليص نساء الشرق من القيود التي تكبّلهن، سعت إلى تغيير العالم عبر تنوير النساء وتثوير رغبة الحياة لديهنّ بمعزل عن احتكار الحياة من قبل المستبدّين. تاج ابنة عالم جليل، يؤمّن لها ما لا يتوفّر لغيرها، يقوم بتعليمها وتثقيفها، ولم يكن يظنّ أنّه بذلك يهيّئها للثورة التي ستُنعت بالمغامرة المجنونة.
لا ترتضي تاج حياة رتيبة كغيرها، تتجاوز زواجها من ابن عمّها، ولا توقفها الأمومة عن مواصلة ثورتها، تدرك أنّ المحنة عصيبة وأنّ الثورة تحتاج إلى التضحيات، تجاهد لتحقيق حلمها في التغيير، تكون علامة نسويّة فارقة في تاريخ المنطقة، تشكّل انطلاقة لحركات تحرّر نسويّة لاحقة، تُسجن، تتّهم بالجنون، تحاك حولها الشائعات التي تنال من سمعتها، ولاسيّما أنّها تكشف عن وجهها في مجلس الرجال، ما يضعها دريئة للتقوّلات والأكاذيب، تنطلق من ذاتها لتغيّر عالمها، تحرص على أن تكون حياتها مثالاً لغيرها، وإن أراد المستبدّون أن يجعلوا تلك الحياة بخاتمتها المأسويّة عبرة لها ولغيرها في الوقت نفسه.
نضال مستمر
تذكّر كوثراني برائدات نسويّات عبر التاريخ، منهنّ مثلاً الفيلسوفة هيباتيا، والشاعرة فروغ فرخزاد، وبالإجرام الذي مورس بحقّهما والذي يتشابه مع ما مورس بحقّ تاج، ومع ما يمارس بحقّ كثير من النساء المجهولات في كلّ زمان ومكان. كأنّما تكون الواحدة منهنّ صورة للأخرى في عصرها.
تبرز صاحبة “علي الأميركاني” أنّ الوقائع أثناء الثورات التي يفترض بها أن توسّع من الهامش الممنوح للمرأة، وأن تلغي القيود المفروضة عليها، تشير إلى التضييق المضاعف عليها، واستلاب بعض مكتسباتها السابقة، وكأنّها ستضطرّ لإعادة الدورة نفسها من التحدّي والمواجهة لرفع الحيف الواقع عليها، أو كأنّ الثورات صراعات ذكوريّة من أجل السلطة والنفوذ ولا مكان للمرأة فيها إلّا بالتبعيّة والرضوخ.
تصوّر الروائيّة عدم الاكتراث الذي تقابل به حالة تصفية بعض النساء، والتعامل مع الروح البشريّة بطريقة انتقائيّة، وكأنّ حياة الرجل أغلى من حياة المرأة، أو تكون كذلك في المجتمعات التي تفكّر بذهنيّة الفحولة، ومشكلة التسلّط التي يديمها النظام الذكوريّ لاستمرار التمتّع بالامتيازات التي يتحصّل عليها بفعل تحريف القواعد أو سنّ قوانين وتسييد ظواهر وعادات وأعراف تمنحه أحقّيّة القيادة والسيادة والتفرّد بكلّ شيء، حتّى أنّ المرأة تصبح من بين ممتلكاته.
تستعرض كوثراني معانيَات النساء ومشكلاتهنّ عبر العصور، تنتقل من زمن إلى آخر، تكتشف أثناء الترحال بين الأزمنة أنّ مطالب المرأة تتكرّر وأن الدورة تعيد نفسها، وكأنّه لا جديد في التاريخ، فدوماً تجد إحدى النساء نفسها في مجابهة مفتوحة مع السلطات الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة، وتضحّي بنفسها في سبيل إنصاف بنات جنسها، ولكنّ تضحيتها لا تكفل العدالة لها ولا لغيرها، بل قد تغدو حالتها عامل ضغط مضاعف على المرأة، أو وسيلة مساعدة لمضاعفة التقييد، لإيجاب الاعتبار من نهايتها، والترهيب من مصائر مشابهة في حال التفكير بأيّة ثورة، أو الإقدام على أيّ فعل ثوريّ من شأنه كسر طوق التاريخ الفحوليّ.
استعانت الكاتبة بعدد من المراجع لتؤرّخ سيرة روائيّة مفترضة انطلاقاً من سيرة تاريخيّة للشاعرة القتيلة تاج، واعتمدت التخييل لاستكمال ملامح عالمها، أخرجتها من التاريخ لتوكلها بأدوار معاصرة، وتثير من خلالها الكثير من الأسئلة التي ما تزال تبحث عن إجابات وحلول.
الكاريزما التي تكون مزيجاً من الفرادة والتميّز والبراعة وقوّة الشخصيّة وسطوة التأثير وجمالية التعبير تحضر في رواية كوثراني كأداة تغيير انطلاقاً من الشعور المتنامي بالمسؤوليّة إزاء الآخرين والمستقبل معاً. وهي معبر الشخصيّة لتعرية المساعي التي تحرص على تغييب الحاضر والمستقبل لخدمة الماضي أو الإبقاء على قوانينه البالية فاعلة لإدامة الأحوال واستكمال الحلقة نفسها من الظلم والإذلال والامتهان والتقييد والاحتكار. وكذلك تحطيم أسوار السجون، والخروج إلى رحابة العالم، والسعي إلى تغييره بطاقة الحبّ اللامحدودة، وتنوير النساء بحقوقهنّ، عبر تثوير رغبة الحياة في قلوبهنّ، ودفعهنّ إلى الثورة على خنوعهنّ وإذلالهنّ المديد.
_______
*العرب

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *