يوسف رزوقة يودع براءة العالم


*هيام الفرشيشي

“وداعا براءة العالم” رواية جديدة لمولّفها التّونسيّ يوسف رزوقة استهلّها بقوله” مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، لاَ يَدْخُلَنَّ رِوَايَتِي.” وبإهداء إلَى “رَشَا، غزالةِ رُوحي وقد أبْدعتْ في توديع هذه الدُّنيا رفقةَ زهْرتِها ياسمين”.

يفتح المؤلّف في هذه الرّواية، الجرح على مصراعيه. فتاج نوح يسرد سيرته ويطرحها كالتّالي: “لماذا أذهب بعيدا؟ أنا نفسي مادة تروى. انسوا قليلا أنّني تاج نوح، زمّار الحيّ .. ومزّقوا الحجاب وأصغوا إليّ..”
جملة الفصول المتواشجة في الرواية عبارة على 36 بوّابة، هي، يعدم تاج نوح نفسه ليترك، محلّه، عديلا له (هو سلطان أسطون) لعلّه ينهض بالعبء نيابة عنه. تتلاحق الأحداث، والذّاكرة أحد أعمدتها المرضعة، في رحلات بحث ونبش في واقع متأزم.
• سطو على حياة
تاج نوح شخصيّة محوريّة متوهّجة الحضور بغيابها، يعرّفها المؤلّف بالتّالي:” … تَاج نُوح، 55 سَنَة.. من مواليد “وَادِي العَسَلِ”؛ لَوْنُ عَيْنَيْهِ: مِنْ لَوْنِ عَيْنَيْ أُمِّهِ، كُسْتُنَائِيٌّ؛ الحَالَةُ المَدَنِيَّةُ: أَعْزَبُ، مُتَزَوِّجٌ وَطَلِيقٌ؛ هِوَايَتُهُ: الحَرْثُ فِي البَحْرِ؛ سَوَابِقُهُ: إِهْدَارُ طَاقَةٍ فِي إِشْعَالِ كُومَةِ تِبْنٍ، إِهْمَالُ عِيَالٍ وَإِيذَاءُ نَفْسٍ أَثْنَاءَ مُبَاشَرَةِ حُلْمِهَا؛ مُؤَهَّلاَتُهُ العِلْمِيَّةُ: خِرِّيجُ كُلِّيَّةٍ طُلاَّبُهَا أَسَاتِذَتُهَا؛ إِيدْيُولُوجِيَّتُهُ: يَنْتَمِي، بَاطِنِيًّا، إِلَى حِزِبِ النَّاهِضِينَ بِأَنْفُسِهِمْ (لاَ يُلْدَغُ المُؤْمِنُ بِنَفْسِهِ مِنَ الجُحْرِ مَرَّتَيْن)؛ الأَقْدَمِيَّةُ مِنْ عَدَمِهَا فِي أَقْدَمِ مِهْنَةٍ فِي التَّارِيخِ: أَرْبَعُونَ سَنَةً بِالتَّمَامِ وَالكَمَالِ؛ حَصَادُ العُمْرِ، بِلِسَانِ القَلَمِ: لاَ شَيْءَ (وَمَعَ ذَلِكَ، يُوَاظِبُ عَلَى دَفْعِ مَا تَخَلَّدَ بِذِمَّتِهِ مِنْ ضَرَائِبَ بَاهِظَةٍ)؛ الدَّيْنُ؟: لاَ دَيْنَ لَهُ، كُلُّ دُيونِهِ جَدْوَلَهَا فَاعِلُ خَيْرٍ مَجْهُولٌ أَوْ سَقَطَتْ بِفِعْلِ التَّقَادُمِ وَتَقَدُّمِهِ هُوَ فِي العُمْرِ؛ المَشْرُوعُ المُزْمَعُ بَعْثُهُ: بِنَاءُ سِجْنٍ لِإِيوَاءِ المُجْرِمِاتِ مِنْ بنَاتِ أَفْكَارِهِ وَالمُجْرِمِينَ مِنْ أَبْطَالِ رِوَايَتِهِ؛ المُدَّةُ المُقْتَرَحَةُ لِإِنْجَازِ المَشْرُوعِ: أَلْفُ لَيْلَةٍ وَلَيْلَةٍ؛ التَّكْلُفَةُ الجُمْلِيَّةُ لِلمَشْرُوعِ: أَعْصَابٌ مُدَمَّرَةٌ بِالجُمْلَةِ وَبِالتَّفْصِيلِ؛ مَا المَطْلُوبُ؟: دَعْمُهُ، مَعْنَوِيًّا، عَلَى الأَقَلِّ وَإِخْرَاجُهُ بَرِيئًا مِنْ غَيَاهِبِ السِّجْنِ الَّذِي بَنَى وَزَجَّ بِنَفْسِهِ فِيه”.
أمّا سُلْطان أُسْطُون، مغتصب حياة تاج نوح، فقد اشتهر، أيّام كان تلميذا، بـ “أُسْطَى سُلْطان أُسْطُون”. هكذا كان زملاؤه ينادونه، أسوة بأستاذ الرّياضيّات الّذي كان يحلو له أن يناديه هكذا لأنّه كان التّلميذ الوحيد القادم من عاصمة الجنوب صفاقس الّتي غادرها وعائلته، سنوات السّبعين، إلى المهديّة حيث عيّن والده واليا عليها. تعرّف على تاج نوح في مصحّة الهادي بوريشة للأمراض العصبيّة بصفاقس إذ كانا معا قاب قوسين أو أدنى من الجنون..
ثالثة الأثافي في الرّواية، نوريّة أرتاخو، مستشرقة إسبانيّة.. وهي تنهض بعبء تأليفيّ عنه، وفاء منها لعلاقة طويلة وقديمة، فوجئت وهي في طريقها إليه، في المطار، بأنّ تاج نوح قد “مات حزنا على وطنه” لتأخذ الرّواية منحى آخر عبر استدعاء الإرث: خاتم الأجداد الضّائع في “بئر أريس”، ضياع الأندلس بسقوطها المدوّي على يد “الفرخ” ابن عائشة وشتات الموريسكيين من ثمّ لنكتشف أنّ تاج نوح موريسكيّ أبا عن جدّ، بغداد، استباحة الأوطان باغتيال الرجل الصّامت خليل الوزير في عقر بيته التونسي، ما آل إليه الوضع هنا والآن بحراك ثوريّ سمّي ربيعا عربيّا فضلا عمّا لحق العالم بأسره كقرية كونيّة من هتك أصاب براءة هذا العالم في مقتل.
• الحلم المجهض
في خضمّ كلّ هذا، وكما روى ذلك عديله سلطان أسطون الذي سطا على حياته، كان تاج نوح يحلم، وهو، في قريته “وادي العسل”، بأن يكتب شيئا كبيرا.. أن يكتب حياته رواية تروى لكنّ حتّى هذا الحلم مني بالفشل فغادر، ذات غموض، إلى “أرض الرّقيم”، حيث إخوته من “أهل الكهف” ليظلّ بها شهورا عاد على إثرها إلى مسقط رأسه “وادي العسل”.. عاودته الرّغبة في إكمال روايته إلاّ أنّ فكرة عنّت له في الأثناء فوطّن عزمه على الهجرة بحرا إلى فرنسا، إلى مرسيليا تحديدا، لأمر يخصّ ترتيبات إقامة محتملة، لمدّة عام، بإحدى إقامات المبدعين. ولم يكن يدري ما يخبّئ له البحر والبحر غدّار بطبعه. “قيل: لم تصمد الباخرة، على حصانة تجهيزاتها، أمام العاصفة وعتوّ الأمواج فغرقت بمن فيها ولم يعثر لها، من لحظتها، على أثر، رغم كلّ ما بذل من جهد..”
زميلته نورس وهي تعلم عائلة الفقيد بما رأت، لم تكذب. فهي متأكدة تماما من كون تاج نوح قد ذهبت به العاصفة ولكن.
نجمة فقط، مستودع أسراره، أحاطها علما بأنّه حيّ وشرح لها حيثيّات ما حدث.. ورجاها في الآن نفسه أن تتكتّم على الخبر.. لقد سبق له أن اختبرها فأودعها القرص الصّلب وأشياء أخرى غداة إحساسه بلا جدوى الحياة.. وهو اليوم وقد لفظته الصّدفة من بحرها حيّا، يفكّر في أكثر من كيفيّة للحياة.. لذلك، لجأ، بهدي من حبيبته نجمة، إلى لوديف، ملاذه الأخير.
هناك، في الضّفّة الأخرى، وتاج نوح يمنّي النفس بأن يفتح صفحة جديدة، هاله الفراغ والإحساس الفاجع بالغربة.. فالتزم الصّمت.. صمت كأنّه البركان النّائم في أرض غير أرضه.. أخذه الشّرود بعيدا.. “ذاك العالم لم يعد عالمي! قالها تاج نوح وهو يخاصر جيلدا على جسر مونتيفور بلوديف.. وبكى. نهرته جيلدا، رفيقة درب فرضتها الظّروف: لا تبك! لن تكون غريبا.. أنا وطنك القادم”. وجيلدا محقّة في الواقع.. ألم تنقذه من نفسه بعدما اتّفقا، فعلا، على اللاّ – زواج وعلى مواصلة البحث عن.. ساكورا؟. ساكورا المرأة الحلم، يابانيّة الجذور، سرّها في اسمها، فاسمها هذا يعني أزهار الكرز، اسم يزهر في شفتي من يلهج به.
تاج نوح في آخر بوح له، وهو يفرغ من رسم لوحته “العازف الأعمى”، أطال الوقوف أمام مرآته. ما أبشعني ! قال… وأضاف وهو يفتح النافذة: ومع ذلك، لن أغيّر ما بنفسي وما بـ .. هويّتي.
• من مناخات الرواية
“”نعم.. انتهى العالم ! وداعا براءة العالم ! .. عاد تاج إلى مربط هوسه.
ينتهي العالم! هكذا قال منجمون يعتمدون في حساباتهم على نهاية حقبة في تقويم المايا الذي استمر 5125 عاما. ها ها ها ! قهقه تاج.. هل ينتهي العالم حقّا وأنا أستقبل، هذا الصّباح، أجمل شمس تطلع من هنا، في قريتي المنهمكة في جني الزّيتون؟ لكن، استدرك تاج، لنتّفق أوّلا: كيف يمكن التسليم بنهاية هذا العالم؟ إذا زلزلت الأرض زلزالها؟ ألا يمكن للعالم أن ينتهي بطريقة أخرى؟ تسألني كيف؟ والجواب، بمنأى عن المسلّم به غيبا وعنعنة و.. انبهارا أعمى.. ملخّص الجواب في ما أصبحنا نعيشه بالملموس، مذ سنوات، من موت يوميّ وخواء. موت نعيشه بحواسّنا المخدّرة بالسّمّ البطيء ونقنع أنفسنا، مع ذلك، بأنّه ليس موتا وإنّما هو وجه آخر للحياة. نتعايش مكرهين معه أو قانعين وهو يفعل فعله التّدميريّ فينا، من حيث نعي أو لا نعي.
العالم كلّه على طبق ونحن الأكلة النّهمون. وجبات من كلّ نوع في متناول جوعنا التّاريخيّ، الكافر وكلّنا جائع ولا مفرّ من إشباع ما بنا من جوع. نأكل إلى حدّ التّخمة. الجوع؟ لا أعني به خواء الأمعاء فذاك شيء آخر هاهاها! ولا جوع المعرفة ونحن لا نريد أن نعرف شيئا ولكنّه جوع آخر وكفى. جوع يجعل الواحد منّا منتهيا وهو على قيد الحياة. كلّنا نعرف هذا الجوع ونعمل على إشباعه بالمتاح من الأطعمة لكنّ المعضلة هنا هي أنّنا لا نجاهر بما يصيبنا من مغص جرّاء ذلك، لإفراطنا في ابتلاع الأقراص والمسكّنات وغير ذلك بل بتنا ندمن ذلك، على أنّه شيء لا بدّ منه، على مرأى من الجميع لنبيت ليلنا، في غفلة من الجميع، على أمل سرعان ما ينتهي ألما لا يوصف، يمزّق الأحشاء ويعصف بما في رؤوسنا من أخضر الأحلام ويابسها لنعيش مسكونين بكوابيس، لا عدّ لها، تلاحقنا ليلا، نهارا.
هل هناك نهاية عالم أكثر مأساويّة من نهاية عالمنا هذا؟ لو انتهى العالم بأرضه وبسمائه، بناسه وبحيواناته، بكلّ ما فيه وبمن فيه، لهان الأمر ولكان في ذلك منجاتنا ممّا نحن فيه من تخبّط أخطبوطيّ في نهاية لا نهاية لها ولا مخرج منها إلاّ بمعجزة.”
يذكر أن يوسف رزوقة له اهتمامات ادبية متعددة تترواح بين الرواية والشعر والكتابة للأطفال واليافعين وقد أصدر إلى حدّ الآن قرابة ثلاثين كتابا آخرها رواية “مسمار تشيخوف” صدرت مؤخّرا عن “مومنت ” بلندن.
روايته الجديدة “وداعا براءة العالم” الصادرة عن “دار العين” المصريّة، 2014، تقع في 608 صفحات، مقاس 24 × 17، في إخراجها الفنّي، تحلّى غلافها الّذي صمّمته الفنّانة المصريّة صابرين مهران، بلوحة للرّسّام الباناميّ أوزفالدو هيريرا” وفي راهنيّة أطروحاتها وانفجارها لغة وأسئلة حارقة وأسلوب معالجة.
______
*ميدل إيست أونلاين

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *