*حوار: رنا نجار
«اضطراب» هو عنوان المعرض الاستعادي للفنانة العالمية فلسطينية الأصل منى حاطوم الذي يستضيفه «المتحف العربي للفن الحديث» في الدوحة من 7 فبراير/ شباط حتى 18 مايو/ أيار المقبل. وهو يستعيد أهمّ أعمالها الإنشائية الاختزالية المكثّفة والمليئة بالتداعيات والمعاني التي تعكس الأجواء الاجتماعية المضطربة التي يعيش فيها العالم في العصر الحديث. منحوتات وأعمال منى حاطوم التجهيزية والاختزالية تعبر الزمن والحدود بلغة بصرية حكائية تاريخية محبوكة بشدّة. بين عملها الفني «برج» الذي أنجزته عام 2010 بعد فترة طويلة أمضتها في بيروت، و«ملجأ» اختارت حاطوم، هنا في الدوحة، ستة وحدات من هذا التشكيل تحت إشراف سام بردويل، وتيل فلرات. وحول هذا المعرض ورؤى حاطوم ومواقفها يدور حديثنا في هذه المقابلة لـ «الدوحة».
§ هناك تناقض في أعمالك: أمن وخوف، رغبة ونفور، استقرار وعدم استقرار… فهل تقصدين ذلك ليكون المشاهد مواجِهاً للتوتُّر؟ وهل تقصدين من خلال هذه التناقضات إزعاج المشاهد وتهديده؟
– أريد أن أخلق حالة يكون فيها الواقع -في حَدّ ذاته- نقطة تساؤل حيث يتوجَّب على المشاهد أن يعيد النظر في افتراضاته وفي علاقته بما يحيط به. وهذا نوع من امتحان لفحص الذات والبنى السلطوية التي تسيطر علينا. أريد للعمل أن يكون له حضور شكلي قوي، وأن يوجِد -من خلال التجربة الفيزيائية- تجاوباً نفسياً وعقلياً، وأن يقدِّم حالة من الغموض واللامبالاة… بالنسبة لي أفضل الفنون هو الذي يعقّد الأشياء أمامك بعرضه تناقضات مستحيلة تجعلك تسائل افتراضاتك حول العالم حيث تغادر حاملاً أسئلة أكثر من الأجوبة. وأرى أن العمل المكشوف والواضح والمباشر عملاً مملّاً، ويتعامل مع المشاهد بلغة الأكل الجاهز «FAST FOOD» ولا يُحاكي خيالهم وذكاءهم.
§ نرى في معرضك «اضطراب» أعمالاً هشّة وحادّة مصنوعة من الزجاج (أحزان غارقة، وطبيعة جامدة). كما نرى أعمالاً مصنوعة من الشَّعْر، وأخرى مصنوعة من الأسلاك الكهربائية… ألهذه الدرجة ترين العالم قاسياً ومتشعِّباً ومتناقضاً؟
– العالم من حولنا ليس ثابتاً ولا جامداً، فهو متحرِّك دائماً، وهو قاسٍ، نعم ليس مرناً. ثم إن شخصياتنا تشبه هذا العالم المتناقض الذي ينعكس في المواد التي أستخدمها. فكلّ واحد لديه جوانب مختلفة ومتناقضة في بنيته؛ لدينا الأنوثة والذكورة مثلاً، ونحن نعمل على تداركها وتبسيطها في أجسادنا وأفكارنا قدر المستطاع. فمن جهة، أعمالي فيها جدّيّة وقوّة وصلابة تذهب لتوحي بصراع ما. ومن جهة أخرى، قد تعبِّر عن الحبّ كما في عمل «شاي لاثنين». وأنا اتَّخذت في عملي، على الدوام، موقفاً مضادّاً متمرِّداً يحمل كثيراً من التناقضات. فكل بنية هي -عادةً- مليئة بالتناقضات، وفي العديد من الأماكن أشعر أن الشخص إذا أراد أن يكون صادقاً مع نفسه عليه أن يبحث، ويستكشف كل الجوانب والمساحات والمجالات المختلفة في حياته وكل زاوية من زوايا بنيته وشخصيته المتناقضة. ففي الأعمال المصنوعة من الشَّعْر، هذه المادة الرقيقة والزائلة هناك تضادّ لاستخدام الأسلاك الشائكة في أعمال اخرى. هي أعمال تحمل -إلى جانب الرقّة والرهافة- شيئاً من القوة تكمن مثلاً في البناء الشبكي في عمل «كوفية» أو «شبكات من شعر مع عقد». وهنا أتطرَّق إلى ثنائيات: النظام واللانظام، والشكل الصارم والشكل الحر، وكذلك الأَسْر والحرّيّة.. وأعمالي وموادي المتناقضة تتبع هنا مزاجي؛ أحياناً أصحو بمزاج حزين متشائم متأثِّر بالحروب التي تدور حولنا والصراعات التي لا تنتهي، ما ينعكس على أعمالي. وأحياناً أخرى، أكون متفائلة مفعمة بالحبّ وبالإيجابية، فأتَّجه إلى أعمال تعبِّر عن ذلك.
§ في أعمالك فلسفة تتعلَّق بجوانب مختلفة من الحياة بدءاً من الهوية والنزوح والجماعة وصولاً إلى الفرد والجسد والعنف وسواها من القضايا العميقة والعالقة. من أين تستقين هذه التيمات؟ وهل أنت متأثِّرة بمدرسة فلسفية مُعَيَّنة أو بفيلسوف مُعَيَّن؟
– هناك العديد من الطبقات التراكمية في أعمالي واستيحاءاتي. فأنا أغرف من قراءاتي المتعدِّدة، ومن يومياتي ومن محيطي، ومن الماضي والحاضر والمستقبل، ومن البلدان التي أزورها. كل شيء أمرّ به أو أسمعه أو أراه أستوحي منه. لقد تأثرت بفنّانين وفلاسفة وكتّاب كثر، وبمدارس كثيرة لا يمكنني أن أعدِّدها الآن. ولا شكّ أن هناك أعمالاً كثيرة متأثِّرة بخلفيَّتي، وهذا يظهر -مثلاً- في عملي «حكم مخفَّف» الذي تُحدِث فيه حركة مصباح النور حركة متواصلة في ظلال الخزائن السلكية، فينشأ إحساس كبير بعدم الاستقرار الذي شعرت به عندما لم أستطع العودة إلى بيروت بسبب الحرب الأهلية، واضطررت إلى المكوث في لندن. هذا العمل يحيل إلى الاقتلاع من المكان وإلى الإحساس بالانفصال الذي عشته عندما هُجِّرنا من حيفا إلى بيروت، ومن ثَمَّ إلى لندن. وعند الدخول إلى الغرفة المعروض فيها «حكم مخفَّف» يشعر المرء أن الغرفة تتأرجح وأن الأرضية غير ثابتة تحت أقدامه. وحالة عدم الاستقرار هنا قد تنطبق اليوم على أيّ شخص يعيش حالات من النزوح أو الهجرة أو حتى معاناة ما مع المكان والزمان. فهو عمل لا يحمل وجهة نظر واحدة ولا مرجعية محدَّدة. وهذه إحدى الطرق التي يظهر العمل فيها متأثراً بخلفيَّتي الشخصية. ومن ناحية أخرى، يحيل عمل «حكم مخفَّف» و«اضطراب حالي» إلى تجربتي في الغرب وإلى نوع من العنف المؤسَّساتي. وهنا أشير إلى التقاء مجموعة بنى معمارية ومؤسَّساتية في البيئة الحضرية بالغرب والتي تدور حول إخضاع الأفراد إلى نسق موحَّد لتثبيتهم في مكان ما، ووضعهم تحت المراقبة.
§ وهل هذا يعني أنك تتهرَّبين من تلك الصبغة التي تحصرك بماضٍ وبهوية مُعَيَّنين أو بموضوع فلسطين والحرب والعنف؟
– لا أتهرَّب، ولم أنفِ يوماً الترابط المعقَّد بين خلفية الفرد وإنتاجه الفني. وإنما أحاول أن أشرح أن أعمالي تُعنى بالحقائق المتعلِّقة بجذوري على قدر عنايتها بتقديم صورة عن البنى المؤسَّساتية والسلطوية للغرب والتي عايشتها على مدى سنوات طوال. وقد رفضت، منذ البداية، التأطير الثقافي الذي يختزل أعمال الفنان في مظهر مبسَّط وحِرَفي من مظاهر سيرته الشخصية.
§ هل هذا المعرض هو محاولة للطعن في التأطير الذي يحصر المنفى كونه مأزقاً يرتبط، بشدة، بتاريخ منى حاطوم الشخصي؟
– يمكننا القول إنه يطعن في تلك النظرة. فهو دعوة للمشاهد لإعادة النظر في تاريخي الشخصي بوصفه تاريخاً من الانسلاخ يتشابك بعمق مع تجربة الحداثة. نتج عن تركيز العصر الحديث على سهولة الحركة تحوُّل كبير في تجربة الفرد مع مفهوم الوطن والمواطنة. وفي العالم أصبحت فيه الرحلات أسهل ما يكون، ليس عبر الحدود الجغرافية فحسب، بل من خلال انتشار التكنولوجيا والاتِّصالات العالمية، فإن الافتراض المسبق بأن أيّة ثقافة هي من صنع حفنة مغلقة من التقاليد والممارسات، التي تقتصر على مكان مُعَيَّن بشكل واضح، لم يَعُدْ صالحاً. من ثَمَّ، في العصر الحديث، كما يقول نيكوس باباسترجيادس «تحوّل معنى الوطن من كونه المأوى الذي يوحِّد ازدواجية الوعي في الذاكرة والمصير من خلال التراث، إلى وعاء يضمّ ما لا يُحصى من الممارسات والارتجالات». وبالعودة إلى بداياتي والعروض الأدائية الأولى، كنت أرى نفسي شخصاً هامشياً يُجري مداخلاته ضمن هوامش عالم الفن، وكان يبدو منطقياً أن أستخدم الأداء كوسيلة نقد للمؤسَّسة. وبعد مدة لم أعد راضية عن التوجُّه الخطابي الواضح، ولم أعد -بعد ذلك- متأكِّدة مما إذا كانت الأعمال التي أنجزها هي فعلاً ما أردت عمله، أم أنها نتيجة تَبَنٍّ لما يتوقَّعه الآخرون وقَوْلَبَتي في صيغة فنان مُسَيَّس. إنه خطّ رفيع جدّاً. أردت أن أقدِّم أعمالاً تعطي الأولوية للجوانب المادية والشكلية والبصرية في صناعة الفن، وأحاول أن أعبِّر عن السياسي من خلال جماليات العمل. ويأتي معرض «اضطراب» في الدوحة، بمثابة هدم للحدود التي تفصل السير الشخصية عن الجماعية، ولذلك الالتباس الذي ينشأ من الخلط بين الشخصي والعام.
§ تبدعين أعمالاً كثيرة تتمحور حول الخرائط، مثل «نقطة ساخنة»، «مشهد داخلي»، «بخاري»، تُكوِّن فيها الأسلاك والشَعْر البشري والسجاد مواد لافتة بشكل نافر. ماذا تعني لك هذه الخرائط؟
– إنها أعمال معقَّدة جدّاً. فالخريطة عادة تمثّل جغرافيا محدَّدة ومستقرّة، لكن معظم الأعمال التي تناولت فيها الخرائط مثل «معلّق»، تمثّل عدم الاستقرار والاضطراب والنزوح بشكل عام. هذا العمل مثلاً هو عبارة عن غرفة مجهَّزة بكثافة بأراجيح خشبية باللونين الأحمر والأسود، تبدو كأنها أرخبيل من الجزر العائمة والمعلَّقة بسلاسل متدلِّية من السقف. عند تفحُّصها عن قرب يتبيَّن أن كل هذه الأراجيح الـ 35 تحمل خارطة لشوارع إحدى العواصم محفورة على مقعدها، وقد اخترت تلك العواصم من قارات العالم الستّ. تتعلَّق كل أرجوحة بزاوية منحنية بالنسبة إلى التي تقع بقربها بشكل لا يحترم أيّ تحديد لموقع جغرافي حقيقي؛ ما يخلق شعوراً بالنزوح الجغرافي أو الضياع بدلاً من التواصل بين الشعوب. يلمّح هذا العمل – رُبَّما- إلى التدفُّق المستمرّ لجاليات المهاجرين عبر بقاع الأرض، ما يطغى على طابع الحياة في مدننا المعاصرة. تتحرَّك الأراجيح بصورة متواصلة عندما يسير الزائرون داخل مساحة العمل أو حوله، ثم تستمرّ بالاهتزاز بهدوء حتى بعد مغادرتهم، وهذا يضفي على العمل معنًى غريباً يوحي بعدم الارتياح. من هنا أودّ التوضيح أن أعمال الخرائط هذه لا تحدِّد مكاناً ولا زماناً، بل تتناول عدم الارتياح وعدم الاستقرار عامة، والحياة المعلّقة، والاضطراب.
§ في عملك المُعَنْوَن بـ«على جثَّتي» تظهر صورة فوتوغرافية جانبية لوجه منى حاطوم نفسها، وعلى أنفها دمية جندي في وقفة محفوفة بالخطر. الجسد في أعمالك يغيب مادّيّاً، لكنه يحضر ضمنيّاً، وأحياناً يكون الجسد المقترح هو جسد المشاهد. فماذا عن هذا الجسد الذي تتناولينه بشكل سوريالي أحياناً، وبشكل مخفيّ أحياناً أخرى؟
– لقد دخلت عالم الفن من باب السوريالية، فأول كتاب فنّي اقتنيته كان عن الفنان ماغريت. وهذان العملان يدفعانني إلى التفكير باللوحات التي أنجزها ماغريت، حيث يبدو كل سطح في اللوحات كأنه حفر بالإزميل في الحجر. لكن هذه الأعمال التي تتناول الجسد من خلال الأثاث (كرسي، سرير) لها علاقة بالسوريالية على قدر علاقتها بالاختزالية. في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، أصبح الجسد لديَّ قضية. وقد شرعت، وأنا طالبة في كلية لندن، بالتركيز المشدَّد على الجسد أولاً باستخدام منتجاته ووظائفه كمادة للعمل، ومن ثَمَّ شرعت بالاستخدام المجازي ليرمز إلى المجتمع. وفي نهاية الثمانينيات أردت أن أُخرِج جسدي من العمل، جسد المؤدية، ليحلّ مكانه جسد المشاهد عن طريق التفاعل المباشر مع العمل. فأنا أضع المشاهد نصب عيني حين أنشئ عملي. وهو متورِّط بصرياً أو نفسياً في بعض الأعمال الإنشائية. فالمنحوتات القائمة على قطع أثاث لها علاقة كبيرة بالجسد، وهي تشجِّع المشاهد على إسقاط ذاته ذهنياً على الأشياء المعروضة.
________
*الدوحة