نكبـة النكبـة


غصون رحال *


( ثقافات )



g



بعد ايام قليلة سينفضّ السامر ، بعد اسابيع معدودة ستعود الذاكرة أدراجها الى صناديق التحنيط ، بعد أشهر ضئيلة سيلملم الحدث آخر بقاياه ومتعلقاته ثم يأوي الى سباته الطويل مرددا لنفسه : ” كانت احتفالية ناجحة بحق ” ! . 

بعدها سيعود الكتّاب الى مواضيعهم اليومية العادية حول غلاء الاسعار ، والبلبلات السياسية في مصر ، واحصاء عدد القتلى في سوريا والعراق ، ومتابعة جولات المصالحة بين فتح وحماس الانتخابية ، ، وترقب ما قد ينتج عن اجتماعات وزراء خارجية العرب من خراب …

بعدها ، ستهدأ الشوارع وتخلو من أي مسيرة او مهرجان او اعتصام ، ولن نجد نساء متشحات بالسواد امام مقرات منظمة الامم المتحدة ، وسينعم وزارء الداخلية ، والمحافظون ، ومسؤولو الأمن العام براحة قصوى ، فلن يضطرّ هؤلاء الى توقيع تصريحات تسمح بالتجمع السلمي او غير السلمي، وسيمنعون – بلا اي تأنيب ضمير – اي طلب لترخيص رفع يافطة يتيمة تندد بالحصار الاسرائيلي على غزه ، او تستنكر عمليات القتل اليومي بحق ابنائها ، ولن يكون قطع الكهرباء ، والوقود عن مستشفياتها ومعاقبة الجرحى والمرضى سببا كافيا للسماح بمنح المواطنين فرصة للتظاهر او الاعتراض ، وستتنفس قوات منع الشغب الصعداء ، فلن يجبر افرادها على ارتداء الخوذ الثقيلة ، وحمل الهراوات والدروع ، وربما القنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياة ، لمواجهة أطفال يحلمون بحق العودة . 

بعدها ، ستعود المسارح ، وشاشات التلفزيون الى سيرتها الأولى ، وسيستمتع المشاهد العربي بالتفرج على مسرحيات لا تخص ” ام محمد ” ولجوئها الطويل في مخيمات لبنان ، ولا لدموع الحج “ابو أنور ” وهي تسيل حرقة على بياراته اليافاوية المنهوبة ، إذ سينال المشاهد العربي حقة بالاستمتاع ببرامج مسلية عن أحوال الفنانين ، ومسابقات ” أراب أيدول ” المثيرة . 

بعدها ، سيهدأ الغضب ، ويخفت النواح ، وستصاب الذاكرة بعطب مؤقت الى موعد الاحتفال القادم بالذكرى السابعة ما بعد الستين للنكبة ، اما الايام الثلاثمائة واربعة وستون القابعة بسوادها الثقيل ما بين الذكري والذكري ، فليس لها اي نصيب من الاحتفال . وكأن النكبة كتلة سنوية البنية ، تزورنا كل سنه مرة ، وكأنها ليست جريمة مستمرة تستوجب الاحتساب بالثانية والدقيقة ! كل دقيقة نكبة ، وكل ثانية قطرة دم آخرى …. جرح نازف بلا توقف وعلينا فقط تعلم فن الحساب . 

هكذا هي احتفالية النكبات دائما ، آنية ، موسمية ، وهشة !

لن اقبل بهذا النوع من الاحتفال ، ولن اشارك في تظاهراته ومظاهره الشكلية المؤقته ، أريده احتفالا منظما ، ودائما ، اريده احتفالا مؤسساتيا ممنهجا وموجها الى وجهته الصحيحة ، اريده احتفالا لائقا، على قدر الوجع وبحجم ضياع فلسطين ، أريده سهما خارقا في وجه النظام العالمي ، وحاشيته المتصهينه ، ورصاصة بين عيني قادة اسرائيل ، فإذا كان المغتصب يتمتع بهذا القدر من الوقاحة ليقيم احتفالاته ورقصاته على “محرقتنا” أمام أعين عالم منعدم الضمير ، فإن نكبة النكبة الا توازي أوجاع الضحية وقاحة المحتل . 


ghosson@yahoo.com 

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *